السبت، 11 يوليو 2009

اوبـــاما ليس معجــبا بنشر بالديموقراطية

لا يعبأ الرئيس باراك اوباما بالتركة الثقيلة التي خلّفها له سلفه جورج بوش. فللازمة الاقتصادية حلول، ومن العراق يمكن الانسحاب. اما صورة اميركا المتهالكة حول العالم، فقد برز اوباما كاحد اكثر الاميركيين قدرة على تحسينها. الا ان ما تركه بوش وما زال يربك اوباما وادارته هو نشر الديموقراطية حول العالم.

وبالحديث عن عقيدة بوش في السياسة الخارجية، من المفيد استرجاع مبادىء المحافظين الجدد، وهم مجموعة من المثقفين الاميركيين، التروتسكيين سابقا، ممن اعتقدوا بامكان استخدام القوة العسكرية الاميركية لتغيير الانظمة والهندسة المجتمعية في بلدان العالم، اذن نشر الديموقراطية.

كما اعتقد هؤلاء، بسذاجة، ان الديموقراطية بمثابة المرض المعدي، اي انها ستنتقل من العراق وافغانستان الى الدول المجاورة مثل ايران وسوريا والسعودية ودول اخرى، واطلقوا على هذا النوع من الانتشار اسم "تأثير الدومينو"، اي ان الانظمة الحاكمة ستتساقط واحداً تلو الآخر امام انتفاضات شعبية متوالية تثيرها الحرب في العراق.

لم يسقط رموز المحافظين الجدد، وبعضهم غادر الادارة حتى قبل نهاية ولاية بوش الاولى في العام 2004، لسذاجة فكرتهم عن "تأثير الدومينو" فحسب، وانما لعجرفتهم التي اعادت الى الاذهان صورا عن امبريالية عسكرية مباشرة ولّت قبل حرب العراق بحوالى نصف قرن. اضف الى العنجهية الامبراطورية بساطة بوش نفسه وكثرة هفواته، التي جعلت منه مادة دائمة للتندر وعدم الاحترام في اميركا وحول العالم. وكي يزداد الطين بلة، لاحقت تهم سوء استخدام السلطة المستشارين المقربين من بوش ونائبه ديك تشيني، الذي سيطرت صورته كمسؤول شرير وفاسد على صورة الادارة عموما.

واذا كان بوش ساذجا، ونائبه شريرا، وفريقهما امبراطوريا متعجرفا، فان ذلك لا يعني ابدا ان انتشار الديموقراطية في الشرق الاوسط هي فكرة سيئة، بل يعني ان اعطاء الشعوب الحق في تقرير مصيرها ومنحها حريتها في وجه حكامها المطلقين، الالهيين والملكيين والعسكريين، هو مطلب مزمن لدى معظم هذه الشعوب. فقط حدث ان تولى نشر الحرية والديموقراطية واحدة من اسوأ الادارات في تاريخ الولايات المتحدة، فاقترنت فكرة الديموقراطية بصورة الامبراطورية البغيضة، فلم تتلقف الشعوب الشرق الاوسطية المبادرة الاميركية ولم تؤدِّ الحرب في العراق في العام 2003 الى اي انتفاضات شعبية تذكر في المنطقة.

ولكن لسخرية القدر، انجبت الحرب في العراق بطريقة غير مباشرة انتفاضة الاستقلال في لبنان في العام 2005، بعد ان اخلّت هذه الحرب بموازين القوى في المنطقة، اذ بعد سقوط نظام "طالبان" في افغانستان (الى شرق ايران) ونظام صدام حسين (الى غربها) تحررت ايران من الد واشرس عدوين لديها. ثم نجحت طهران في استدراج القوة العسكرية الاميركية الى مستنقعين في كل من البلدين المجاورين لها وسرعت من برنامجها النووي.

هذا الصعود الايراني الكبير اثار مخاوف بعض دول المنطقة، التي كانت تخشى – بادئ ذي بدء – ان تطولها عملية نشر الديموقراطية، فانتقلت هذه الدول من المشاركة في تعزيز المستنقع الدموي العراقي في وجه الاميركيين، الى جانب واشنطن لانهاء العنف في العراق وتثبيت الوضع الامني فيه، بهدف اغلاق الابواب في وجه النفوذ الايراني المتنامي.

ايران وحليفتها سوريا اعتبرتا انتقال هذه الدول العربية الى الجانب الاميركي اخلالا بمصالحها في المنطقة، فازدادت وتيرة الحرب الاهلية في العراق. وباختلال الميزان الاقليمي، كان لا بد من اهتزاز التفاهمات الاقليمية في لبنان، فادى ذلك الى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عملية اراد مهندسوها تصويرها في الاساس على انها استمرار للصراع العراقي، وهي في الواقع ليست ببعيدة عن هذا الصراع الذي بدأ عراقيا واستمر اقليميا.

واطلقت عملية اغتيال الحريري وتغيير الاصطفاف الاقليمي انتفاضة الاستقلال في لبنان، والتي انتهت يوم كشّرت بعض الاحزاب اللبنانية عن انيابها وقررت ارسال مسلحيها الى الشوارع في رسالة اخيرة الى اصحاب هذه الانتفاضة بأن للديموقراطية حدوداً في لبنان. هكذا انتهت "مفاعيل الدومينو" الديموقراطي في لبنان من دون اي نتائج تذكر، تحت وطأة سلاح بعض الاطراف، الا ان مظاهر ديموقراطية استمرت فيه، لا بل ظهرت للمرة الاولى في بعض دول المنطقة كإيران.

الدومينو الديموقراطي جاء هذه المرة من واشنطن نفسها حينما شاهد العالم كيف تمكّن سياسي اميركي مغمور، من اب كيني، ان يتسلق سلم السلطة في بلاده ليصبح الرجل الاول فيها، وان يطيح الـ "استابلشمنت" المؤلف من لوبيات متمولة ونافذة وقوية تسيطر على الولايات المتحدة منذ عقود.

اذ ذاك اصبح السؤال: كيف يقلب صوت الناخب الاميركي ميزان القوى في اميركا ولا يؤثر في ميزان القوى الحاكمة في لبنان وايران؟

هذا التباين في العملية الديموقراطية هو ما دفع اللبنانيين بارقام غير مسبوقة الى صناديق الاقتراع للتصويت ضد القوى حاملة السلاح والمانعة لاي تغيير ديموقراطي تحت عناوين عروبية بالية لم تعد تنطلي على كثير من اللبنانيين.

وكما في لبنان كذلك في ايران، حيث صرخ متظاهرون، للمرة الاولى منذ قيام الثورة الاسلامية قبل ثلاثين عاما، الموت للمرشد الاعلى للثورة، بدلا من الموت لاميركا. اما من بين الخبراء الايرانيين العائدين من بلادهم الى غربتهم، فتكاد تحصل على شبه اجماع ان الانتفاضة الخضراء عميقة، وانها من دون شك الخطوة الاولى في رحلة التغيير الطويلة.

لكن اوباما، الذي الهمت قصته وديموقراطية بلاده شعوب العالم، لم يبدِ يوما اعجابا تاما بنشر الديموقراطية ولم يعر اهتمامه لـ"مفاعيل الدومينو"، بل ان الرئيس الاميركي الشاب اوضح منذ اطلالاته الاولى ان اميركا ستعود الى واقعيتها في السياسة الخارجية، مع ما يعني ذلك من تجديد صداقة بلاده بالانظمة غير الديموقراطية حول العالم، لا بل مصادقة انظمة قمعية جديدة كانت في مصاف الاعداء لواشنطن، مثل ايران.

وما ان ارسل اوباما اشارات واضحة الى ايران عن نيته فتح صفحة جديدة بين البلدين، حتى بدأ الحراك الشعبي العفوي من اجل الحرية والديموقراطية فيها، وهو ما اوقع اوباما في حيرة من امره: كيف تصلح اميركا صورتها لدى شعوب العالم وهي تصادق انظمة تقمع شعوبها؟ وهل على اوباما ان يحافظ على بعض تركة سلفه بوش لناحية مساندة قوى الديموقراطية حول العالم؟

الاجابة عن هذين السؤالين تربك اوباما وادارته، وهو اختار "المشي على السور" اثناء التظاهرات الايرانية وقمعها، بمناصرته للجانب الانساني ولحرية الايرانيين بشكل عام، ولكن من دون ادانة افعال النظام القمعية، والتي يروي كثيرون انها تستمر حتى اليوم في اقبية التعذيب التي تديرها بعض اجهزة الامن الايرانية.

والاجابة عن السؤالين هي التي ستحدد شكل الامبراطورية الاميركية ودورها للسنوات المقبلة، مثلا عندما تدعم واشنطن قوى ديموقراطية في بلد ما، هل يعقل ان تكتفي بفعل ذلك من خلال المؤسسات العالمية، مثل الامم المتحدة، شأنها شأن اي دولة اخرى؟ أم تتدخل مباشرة في دعم هذه القوى مع ما قد يثيره ذلك من سخط لدى بعض الشعوب والانظمة من دور اميركي هنا او هناك؟ الوقت والتجربة كفيلان بصقل التجربة "الاوبامية" وانعكاسها على مستقبل الامبراطورية الاميركية والعالم. ولكن في هذه الاثناء، من المفيد ان نكتب عن الدروس من تجربة بوش، وعن الديموقراطية التي يبدو انها ستنتشر عاجلا ام آجلا، مع بوش او من دونه.

(صحافي مقيم في واشنطن وزميل زائر في معهد "تشاتهام هاوس" البريطاني)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق