الأحد، 17 يناير 2010

حسين عبد الحسين : العراق بين بيروت وأبوظبي

يندر ان تعطي الاقدار الشعوب فرصا للخروج من ازماتها واعادة تكوين نفسها بصورة افضل من سابقتها.

اما العراق، فاستثناء. طبعا لا مجال هنا للعودة بالحديث عن الظروف التي رافقت الحرب الاميركية، ولكن ما حصل قد حصل، ووجد العراق نفسه في المحصلة النهائية امام فرص متعددة سياسية وامنية واقتصادية.

في السياسة، تعثر العراقيون. انفقوا اوقاتا طويلة في تشكيل مجلس الحكم ثم الجمعية العامة ثم خليفتها مجلس النواب. لم يكن التأخير السياسي مجانيا، بل دفع العراقيون ثمن المشاجرات السياسية انهيارا امنيا مريبا، استمر لسنوات ما بعدها سنوات.

لكن السياسيين توصلوا في خاتمة المطاف الى حلول، او اشباه حلول. مقعد نيابي هنا، وآخر وزاري هناك، وتبويس لحى وتكاذب والتفافات ونفاق... ووصل العراق الى تكوين نوع من السلطة السياسية.

ومع استتباب السلطة السياسية، وبعزيمة اميركية ونية شعبية عراقية، وصل العراق الى افضل حالاته الامنية، وهي بدرجة مقبول. هذا كله جيد.

الا ان السيىء في اعادة تكوين السلطة السياسية في العراق يكمن في استيراد النموذج اللبناني، الذي ما فتئ يولد الازمة تلو الاخرى في بلد لم يعرف الاستقرار منذ استقلاله في العام 1943.

طبعا لبنان هو الاقرب الى النماذج الديموقراطية المعروفة، ولكنه بعيد كل البعد عن الديموقراطية الصحيحة. فاللبنانيون يطلقون على نظامهم اسم الديموقراطية التوافقية، وهذا خطأ، اذ ان الديموقراطية تعني حكم الاكثرية، فيما التوافق يعني موافقة كل طرف سياسي في البرلمان على كل موضوع مطروح للنقاش. وفيما الديموقراطية تحسم الامور، فان التوافق يعقدها بل يساهم في شل الحكم على غرار الشلل المستدام لدى الدولة اللبنانية، واليوم العراقية.

وتقوم الديموقرطية التوافقية اللبنانية على الغاء المساواة في المواطنية، وتحويل المواطنين الى رعايا ينتمون الى طوائف مذهبية اسلامية ومسيحية. هكذا، يصبح رئيس لبنان – حسب الدستور – مسيحيا مارونيا، ورئيس مجلس النواب مسلما شيعيا، ورئيس الحكومة مسلما سنيا.

اما المشكلة في العراق فتكمن في ان بغداد قامت باستيراد نموذج بيروت، وافاضت في مسخه، فقسمت رئاسة الجمهورية الى ثلاثة تتوزع على الشيعة والسنة والكرد، ورئاستي البرلمان والحكومة الى ثلاثة كذلك، وهو ما يتفوق في تخلفه على تخلف النظام السياسي اللبناني.

طبعا، الحل في العراق كان ممكنا بالعلمنة – وهي لا تعني الغاء الدين او ممارسته او اغلاق دور العبادة – بل الغاء الهوية الدينية في الدستور ومؤسسات الدولة، والحفاظ على التباين الثقافي للمجموعات الاثنية، مثل الكرد، في المدارس والاعياد الرسمية، في نظام علماني فيدرالي، على غرار كندا، حيث تختلط الاقلية الفرنسية في ولاية كيبيك مع سائر الولايات الانجليزية. لكن بدلا من استيراد النموذج الفيدرالي الكندي الناجح، استلهم العراق من بيروت ونظامها الطوائفي المأزوم اصلا.

على ان التغيير في السياسة اليوم يحتاج الى عملية برلمانية معقدة، وصار اصعب بكثير من البناء من الصفر كما في العام 2003.

ولكن ما فات العراقيين في السياسة يجب ان لا يفوتهم في الاقتصاد، فالعراق واحد من دول العالم المحظوظة نسبة الى الاحتياطي النفطي الهائل الذي يتمتع به.

بيد ان البحبوحة النفطية لا تعني من تلقاء نفسها بحبوحة اقتصادية للعراقيين، وعلى اصحاب القرار في العراق استلهام النموذج الناجح، من دول نفطية اخرى، لتطبيقه والافادة من تجاربه.

وبلمحة سريعة، يمكن استبعاد النموذج الايراني وسياسة الانفاق على التسليح والاجهزة الامنية والاتباع في الدول الاخرى، وهو نموذج خبره العراق فافقره وادى الى هلاكه. كذلك، لا بد من استبعاد نموذج السعودية، ان وجد، لانه ريعي لا مؤسساتي، يعيش بموجبه عدد لا بأس به من السعوديين في حيز الفقر.

من الدول النفطية في المنطقة ذات التجارب الجيدة تبرز الكويت والامارات، حيث انفقت الحكومتان اموالا طائلة على تحسين البنية التحتية، وخصصتا جزءا من العائدات النفطية لصناديق سيادية، تستثمر من خلالها الاموال حول العالم، وتدخرها من اجل الاجيال القادمة والايام العصيبة.

لكن الكويت تعاني، حسب البنك الدولي، من تضخم القطاع العام فيها، وهو موضوع على العراق تفاديه. اما الامارات، وخصوصا ابوظبي، فهي تتدخل بشكل كبير في الاقتصاد اذ تملك الحكومة صحفا وتلفزيونات وخطوط طيران وابنية.

اما العراق، فالاجدى له اقتصاديا انشاء صناديق سيادية، والاستثمار في البنية التحتية، والتقليص قدر الامكان من حجم القطاع العام، ما عدا الضروري منه كقوات الامن.

وترشيق القطاع العام والاعتماد على القطاع الخاص ليس بالامر السهل عراقيا، في بلد اعتاش شعبه على مدى عقود، على ما تصدق عليه الحكام من اموال النفط والخزينة العامة.

ثم ان على العراقيين محاولة تفادي الاعتماد على الموازنة النفطية، على الرغم من ضخامتها المتوقعة في السنين المقبلة. ولا بد من تطوير صناعات متعددة اخرى كالسياحة، الدينية في الجنوب، وغير الدينية في الشمال، والاستفادة من الموارد المائية والحفاظ عليها.

ان التجربة الاقتصادية الناجحة تتطلب ورشة حكومية وبرلمانية تصاغ فيها التشريعات والقوانين، ويعمل الوزراء على تحسين قطاعاتهم لاستقطاب الاستثمارات الخارجية، لا حصر انفسهم بمحاولة تحصيل موازنات كبرى من الحكومة والبرلمان للانفاق على الازلام والمحاسيب.

لقد تبنى العراق نموذج بيروت السياسي بمصائبه ودفع ثمن ذلك. اما في النموذج الاقتصادي، فالطريق ما زالت في اولها، ولا ضير من الافادة من نموذج ابو ظبي والبناء عليه وتحسينه. والوقت والجدية كفيلان بصقل التجربة، ودفعها باتجاه الكمال.

* كاتب ومراسل “العالم” في واشنطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق