الجمعة، 1 أكتوبر 2010

عن "نهاية" العصر الأميركي

بقلم حسين عبد الحسين واشنطن

اغلقت الانتلجنسيا الاميركية كتاب "نهاية التاريخ"، لمؤلفه فرانسيس فوكوياما، ونفضت الغبار عن كتاب "صعود وافول القوى العظمى"، للمؤرخ بول كينيدي، في ظل اهتمام اميركي في البحث عن الاسباب المؤدية لسقوط الامبراطوريات، ومقارنتها بالوهن الذي اصاب القوة الاميركية منذ اندلاع الازمة المالية رسميا في 15 أيلول 2008.

مع "نهاية التاريخ"، انبهرت اميركا بانتصارها على غريمها الاتحاد السوفياتي، مع حلول العقد الاخير من القرن الماضي، واعتبرته اثباتا لنجاح النموذج الليبرالي الغربي الديموقراطي في الحكم، واعلن فوكوياما وقتذاك ان النموذج الديموقراطي هو نهاية المطاف لشكل الدولة. ولكن على الرغم من نهاية الحرب الباردة و"التاريخ"، لم تفكك الولايات المتحدة جهازها العسكري الجبار حول العالم، فتحولت قوة عظمى احادية سيطرت على قرار العالم على مدى العقدين الماضيين. وعزز التفوق العسكري الاميركي بحبوحة اقتصادية في الداخل، فاستفادت واشنطن من فائض لا مثيل له في القوة يعتبر البعض انها سبب رعونة قادتها وتورطهم في حروب غير محسوبة.

ابعد من الحروب التي انتصرت فيها القوة العسكرية الاميركية بسهولة فائقة، يجمع الاميركيون اليوم على ان مشكلة الحربين في العراق وافغانستان تكمن في ان ادارة الرئيس جورج بوش لم تأخذ في الاعتبار عواقب ما بعد انهيار نظامي صدام حسين و"طالبان"، مما اجبر الاميركيين على ممارسة انواع من الاحتلال المباشر لفترات متفاوتة في هذين البلدين، وهذا النوع من الامبريالية – الذي مارسته القوى الاوروبية خلال القرن الماضي – تعارضه الامبراطورية الاميركية منذ نشوئها، وتلتزم عوضا عنه باقامة تحالفات مع الحكام المحليين.

بعد تجربتها المريرة، سوف تنسحب اميركا عسكريا من العراق وافغانستان، وسوف تعمل على تحويل حكومتي هذين البلدين شريكين استراتيجيين. الا ان الانسحاب العسكري الاميركي لن يؤثر في حجم العمليات العسكرية الاميركية حول العالم، فالاساطيل الاميركية تجوب المحيطات وتحمي خطوط التجارة، كما تتوزع قواعد عسكرية حول بلدان حليفة عديدة.

الانفاق العسكري الاميركي من اجل امن الكوكب هو ما صار يلقى معارضة داخل البلاد، التي صار الرأي العام فيها يدعو للعودة الى العزلة الدولية. والجدل حول دور اميركا في العالم او انكفائها ليس بالجديد، اذ يبرز انصار العزلة عندما ينعدم التهديد الخارجي لأمن البلاد، وخصوصا في اوقات الازمات الاقتصادية الداخلية. والشرطان متوافران حاليا. اما لعب الدور الامبراطوري، فيرتبط بشعور الاميركيين بالخوف من خطر خارجي، كتمدد شيوعي او ارهاب متطرف، يعززه عادة اقتصاد قوي، على غرار العقدين الماضيين.

تعزز الدعوة الى الانكفاء الاميركي حاليا مجموعة من العوامل الاقتصادية، وبروز دول منافسة تهدد التفوق الاميركي عموما.

العوامل الاقتصادية تتضمن وصول الدين العام الاميركي الى 13 تريليون دولار، وضمور في قطاع الصناعة وتأثير ذلك على انخفاض في نسبة العمالة وتراجع الابحاث التي ترافق المصانع عادة، وعجز مستمر في الميزان التجاري، وتقهقر البنية التحتية بسبب ارتفاع مديونيات الحكومات الفيديرالية والمحلية، وشيخوخة اليد العاملة اذ يبدأ الفوج الاول من 77 مليون اميركي من جيل "فورة الاطفال" مشوار تقاعدهم الطويل، الذي تموله الحكومة، في العام 2011. وامام الحكومة الاميركية عادة اربعة طرق لجني الاموال: تخفيض انفاقها، زيادة في الضرائب، طبع المزيد من العملة النقدية او الاستدانة. الحل الاول سيؤدي الى اقتطاع اموال كبيرة من ميزانية الدفاع، البالغة حوالى 700 مليار سنويا، او تقليص التقديمات للمتقاعدين. الحل الثاني يقضي برفع الضرائب، وهو غالبا ما يواجه معارضة سياسية واسعة. اما طبع المزيد من الدولارات، فيؤدي الى تضخم، واحتمال تخلي حكومات العالم عن الدولار كعملة عالمية.

الخيار الاخير، اي الاستدانة، هو الذي اعتمدته واشنطن منذ وصول رونالد ريغان الى الرئاسة في العام 1980. بيد ان المديونية ليست حلا سحريا مفتوح الامد، وصارت خدمة الدين تؤثر على وضع الحكومة، التي صارت تنفق 46 سنتا تكلفة كل دولار تقوم باستدانته.

هذه الصورة الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، العسكرية المعقدة دفعت معظم المثقفين الاميركيين الى الاعتقاد ان حل المشكلة الاقتصادية الحالية لا يشبه المرات السابقة، ولن يفيد تنشيط الاستهلاك المحلي او التلاعب بالفائدة، بل ان الحلول ترتبط بتغيرات جذرية يتصدرها توسيع القاعدة الصناعية على غرار المانيا والصين.

اما في السياسة الخارجية، فالاتجاه يتركز حول القيام "ما هو في مصلحة اميركا لا ما يتوقعه العالم"، اي ان الولايات المتحدة لا تنوي "قيادة" العالم بعد الآن حفاظا على مصالح الحلفاء، خصوصا ان الحلفاء في اوروبا وشرق وجنوب آسيا لا يساهمون اقتصاديا ولا عسكريا في الكلفة الباهظة التي يتكبدها الاميركيون من اجل الحفاظ على استقرار العالم وامنه واسواقه وخطوط تجارته.

ماذا سيحصل بعد الضمور الاميركي العالمي؟ تشير معظم الترجيحات الى الصين وروسيا كخليفتين محتملتين للزعامة الاميركية، ولكن ما زال غامضا ان كانت هاتين الدولتين ترغبان، او تقدران، على ملء الفراغ الذي سيخلفه التراجع الاميركي.

في الصين، لم تكتمل بعد تجربة "الاقتصاد الرأسمالي الموجه" لمعرفة ما اذا كانت بيجينغ ستتمتع بفائض من القوة كالذي شهدته الولايات المتحدة في السبعين عاما الماضية، وتاليا بدور امبريالي.

ما هو واضح حتى الآن هو ان الحزب الحاكم من دون ديموقراطية في الصين يستهلك معظم البحبوحة المستجدة لابقاء الكتلة البشرية الهائلة في البلاد هادئة سياسيا. ثم ان الصين سوف تعاني من الشيخوخة المجتمعية على غرار اوروبا، وحتى اكثر من اميركا، مع حلول العقد الثالث من القرن الحالي، وهو ما يقوض التفوق الصيني في العمالة الرخيصة.

اما روسيا، فقوتها تعود الى تصديرها النفط والغاز حصرا، يرافق ذلك تقهقر جيشها النووي، وبنيتها التحتية والسكانية، حيث تعاني منذ الان من شيخوخة مجتمعية ترافقها امراض منتشرة. ومن المتوقع ان يستمر عدد سكانها في الانخفاض في العقدين المقبلين.

في المحصلة، من غير المتوقع انخفاض حاد في القوة العالمية الاميركية، على الرغم من التراجع النسبي، في وقت يبحث فيه الاميركيون وحكومات العالم عن شكل العالم الجديد في القرن الحادي والعشرين.

(صحافي)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق