الاثنين، 25 يوليو 2011

تقهقر الأصوليتين السنية والشيعية؟

حسين عبد الحسين

جريدة النهار اللبنانية

في أيلول 2002، اقام وزير الثقافة غسان سلامة مؤتمرا في فندق مزار في كفرذبيان شارك فيه كبار المفكرين تصدرهم الفرنسي جيل كيبيل، وكان مر عامان على صدور كتابه "جهاد" بالفرنسية، وبضعة اشهر على صدور الطبعة الانكليزية مع مقدمة محدّثة تضمنت رؤيته لاحداث 11 أيلول واحدثت اهتماما عارما في العالم الانكلوفوني، الذي كان اجتاح افغانستان قبل عام وفي طور الاستعداد للحرب في العراق.

ولأهمية كيبيل قررت، وانا في السنين الاولى لاحترافي العمل الصحافي، ان اجري لقاء معه، فأوعز الي الحضور الى مقر اقامته في فندق البريستول في بيروت، ووجدته في المقهى على السطح يجلس والصديق الزميل الياس خوري، فخضنا نحن الثلاثة في حديث مطول حول الحركة الاصولية الاسلامية. لم يقنعني كيبيل حينذاك، وانا في حماستي الشبابية، بنظريته ان هجمات 11 ايلول كانت دليلا على افلاس ونهاية الحركة الاصولية لا بدايتها.

في شهر أيار الماضي التقيت كيبيل للمرة الثانية في "معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى" وقد بدا عليه المشيب، الذي لحقني منه جزء يسير. لم ينتظر حتى ابادره بل ذكرني بحديثنا في بيروت. استخدمت التعبير بالانكليزية بأني "لم أقرأ الكتابة على الحائط" في حينه للدلالة على اقراري بالخطأ.

ثم تحدثنا عن نهاية التطرف الاسلامي في مصر، وصعود وجوه قد تلعب ادوارا معتدلة مثل عبدالمنعم ابو الفتوح والملياردير يوسف ندا. كيبيل يتوقع ان يلحق الاسلام العربي بنظيره التركي وحركة الملياردير فتح الله غولن، الذي ينتمي الى مدرسته الاسلامية المعتدلة "حزب العدالة والتنمية" التركي الحاكم ومعظم اركانه.

نبوءة كيبيل دفعتني الى محاولة استشراف لمصير الجناح الاسلامي الآخر، اي الشيعي، للحركة الاصولية. وعلى الرغم من ان الاساس الفكري للحركة الشيعية يرتكز على مزيج اسلامي وماركسي كان سبّاقا في التنظير له المفكر الايراني علي شريعتي، الا ان مما لاشك فيه هو ان "حركة الاخوان المسلمين" في مصر الهمت الثورة الايرانية، وان احد ابرز الادوار التي لعبها مرشد الثورة علي خامنئي قبل اربعة عقود، هو ترجمته كتابي سيد قطب "الإسلام ومشكلات الحضارة" و"مستقبل هذا الدين" الى الفارسية. ويعتقد باحثون ان خامنئي كثير التأثر بأفكار قطب، وانه يحاول خلق "سلفية شيعية"، على الرغم من ان البعض يعيد الأمر الى تأثر المرشد الاول للثورة روح الله الخميني بهذين الكتابين قبل خامنئي.

هذا الارتباط دفعني بدوره الى الاعتقاد بأن "السلفية الشيعية" الايرانية، على غرار نظيرتها السنية العربية، هي في طور الانحدار، او على حد تعبير كيبيل في حواره مع مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، ان العنصر الجديد في ربيع العرب "هو اختفاء اللهجة الإسلامية المعهودة للإخوان المسلمين في مصر"، فهم "يتحدثون اليوم بلغة الديموقراطية وحقوق الإنسان والثورة الشعبية". ذلك لا يعني بالضرورة انهم يتغيرون، حسب الخبير الفرنسي، " بل انهم يلحقون بالحركة القائمة... وخطاب الاخوان المسلمين نفسه قد اصبح، إن صح التعبير، باليا".

الا ان الفارق الوحيد بين حركتي مصر وايران هو ان الاولى لم تحكم يوما، ما يجعل من السهل تحولها، فيما حركة ايران حاكمة منذ ثلاثة عقود وسيحتاج اي تغيير فيها الى ما يشبه "البيريسترويكا" السوفياتية التي ادت الى انهيار الشيوعية واحزابها حول العالم، كخيار اول. اما الخيار الثاني، وهو ما ارادته ادارة الرئيس باراك اوباما، فيقضي بانفتاح الاسلام السياسي الذي يحكم في ايران على واشنطن والعالم، على غرار انفتاح الشيوعية الصينية بدءا من السبعينات، وتبني اسلام اقرب الى غولن منه الى سيد قطب. يبقى الخيار الايراني الثالث، وهو طريق الامبراطورية الشيوعية المعزولة في كوريا الشمالية، اي الانغلاق، وهو ما يبدو ان طهران تسلكه حاليا وخصوصا، على سبيل المثال، مع انباء عن نيتها خلق شبكة انترنت ايرانية صرفة غير مرتبطة بالشبكة العالمية.

في لبنان، اصبح "باليا" خطاب المستضعفين، السلفي والشيوعي في الآن نفسه، والذي لاقى رواجا كبيرا مطلع الثمانينات لدى ابناء الطائفة الشيعية المتأخرين اجتماعيا واقتصاديا في حينه. لم يعد بين الشيعة اليوم اي عدد من المستضعفين يذكر، وادى انحسار نفوذ الطوائف الاخرى، وخصوصا المسيحيين والدروز، الى غياب من كانوا بمثابة المستكبرين في لبنان. ومن يتذكر شعارات "حزب الله" الاولى يتذكر شعار الموت لـ" اميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا واسرائيل والكتائب".

كذلك لم يعد الشيعي قرويا، كما في الماضي، ولم تعد لهجته نافرة، ورافق هذا التحول تخلي "حزب الله" عن شعاره "الثورة الاسلامية في لبنان" واستبداله بـ "المقاومة السلامية"، التي سارع الى التخفيف من طابعها الاسلامي بابتكار شعار "كلنا للوطن، كلنا للمقاومة"، ولكن حتى الشعار الاخير انتهى مع زوال الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان في العام 2000. ثم كان الانسحاب السوري في العام 2005، مما اضطر الحزب الى الغوص في تفاصيل السياسة اللبنانية، فاصبح حزبا متساويا مع الآخرين في حكاياته السياسية ونكاياته.

ولأن "حزب الله" استكمل عملية "اللبننة" التي خاضها، على الارجح عن غير قصد ولمواءمة التغييرات الظرفية، تلاشت فكرة "امة حزب الله"، وصار بين ظهرانيها من قام باحتيالات مالية، ومن اتصل باستخبارات غربية، حتى ان امين عام الحزب السيد حسن نصرالله اطل علنا ليطلب من الامن اللبناني دخول الضاحية الجنوبية لبيروت لوقف انتشار آفة تعاطي المخدرات، فيما نقلت صحف انه عقد حلقات مع اعضاء الحزب للطلب منهم العودة الى العيش بما تمليه ادبيات الحركة الاسلامية، اي بتقشف وتواضع بعيدا عن نشوة السلطة والمال.

هنا نعود الى نظرية كيبيل في ان الحركة الاصولية السنية اعتقدت ان هجمات 11 ايلول كان من شأنها ان تخلق التفافا اسلاميا عالميا حولها تستعيض به عن نهاية الدعم الذي تمتعت به ابان عملها كحركة "مقاومة" ضد الاحتلال السوفياتي لافغانستان. "حزب الله" كذلك حاول قلب الطاولة في العام 2006، وخاطب امينه العام مؤيديه بقوله "يا أشرف الناس، و"يا أطهر الناس"، الا ان هؤلاء الناس لم يستسيغوا خساراتهم الفادحة اثناء الحرب، واقفلوا باب "المقاومة"، الا في حال الرد على اعتداء اسرائيلي عسكري واضح، وهو ما لايبدو انه في حسبان الاسرائيليين الذين يتمتعون بهدوء على حدودهم الشمالية لم يعرفوه منذ العام 1967.

بذلك، لم يبق امام الحزب الا اعتماد سياسة "لي الاذرع" في الداخل بالاتكال على قوته العسكرية الكبيرة، وصار نوابه وحلفاؤهم يتنابزون بالالقاب مع خصومهم داخل مجلس النواب. في الخلاصة، تدل المؤشرات على انحدار الحركة الاصولية في شقها السني، كما في شقها الشيعي.

قد لا يوافقني كثيرون كما لم اوافق انا ما قاله كيبيل قبل عقد، ولكني اعتقد ان "الكتابة على الحائط" اليوم تشي بضعف "حزب الله"، وتدل على تحول الحركة الاسلامية الشيعية، على الاقل اللبنانية، في اتجاه "غولاني" لم تظهر معالمه بعد.

(صحافي مقيم في واشنطن)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق