السبت، 18 فبراير 2012

أنتوني شديد عاشق الهجرة المتعاكسة عاكسته هجرة الحياة في شمال سورية

| واشنطن من حسين عبدالحسين |

عندما التقيته للمرة الاولى كنا في مراحل متعاكسة من حياتنا: انا كنت وصلت توي من بيروت الى مهجري في العاصمة الاميركية آتيا من الشرق الى الغرب، وهو كان يستعد لهجرة معاكسة من الغرب الى الشرق ليسكن في قرية اجداده، جديدة مرجعيون، في الجنوب اللبناني. لم تكن هجراتنا وحدها المتعاكسة، بل وجهات نظرنا في مواضيع السياسة كذلك. 
انتوني شديد، مراسل «واشنطن بوست» وفي ما بعد «نيويورك تايمز» في الشرق الاوسط، كان يلقي باللائمة على الدول الغربية لتردي اوضاع الشرق الاوسط، فيما خالفته انا الرأي مرارا مصرا على ان للعوامل المحلية دورا كبيرا في تقويض دول العرب وشؤون معاشهم.
شديد، لبناني - اميركي من الجيل الثالث، اي ان أبويه ولدا في الولايات المتحدة لاجداد هاجروا من لبنان في العشرينات من القرن الماضي. والده من آل شديد ووالدته من آل سمارة، والعائلتان على مذهب الروم الاورثوذوكس. 
قال لي انتوني انه نشأ في بيئة لبنانية في ولاية اوكلاهوما الاميركية الجنوبية. كانت الكنيسة التي يرتادها انتوني وعائلته لبنانية. قساوستها لبنانيون وروادها كذلك.
الاكل في المنزل كان لبنانيا. كانت عائلته والمحيطون به يتمسكون بجذورهم حتى في المهجر. بيد ان اللغة العربية هي الشيء الوحيد الذي لم تحافظ عليه عائلتا شديد او سمارة، ما اجبر انتوني على الالتحاق بأحد معاهد القاهرة ليتعلم العربية بعد تخرجه في الجامعة في ولاية ويسكونسن فيما كان يبلغ من العمر 23 عاما.
داخل انتوني كان حبه لاستكشاف الجذور. من يعرفه يعلم انه كان يحاول في كل مرة ان يعيش القصص التي يكتب عنها. اثناء جلستنا في احد مقاهي واشنطن، اراني صورا على كمبيوتره المحمول من تغطيته للحرب الاميركية في العراق التي اطاحت بصدام حسين ونظامه. 
احدى الصور كانت لفتوى استحصلها شديد من المرجع الشيعي السيد علي السيستاني اثر اقتراح حاكم العراق المدني في حينه بول بريمر تعيين برلمان وحكومة قبل الانتخابات. ذهب شديد الى النجف، وطلب اجراء مقابلة مع السيستاني، الا ان مساعدي الاخير قالوا له ان المرجع لا يعطي لقاءات صحافية، لكنهم اقترحوا عليه كتابة سؤاله على ورقة للحصول على اجابة، وجاءت فتوى السيستاني مسجلة باسم انتوني شديد وفيها رفض المرجع لاقتراح بريمر.
الصور الاخرى كانت لاقاربي في بغداد، الذين عرفونا ببعضنا البعض، في حدائق بيوتهم، فؤاد وياسمين ولبنى، تحدثنا عنهم ولم يقل لي يومها انه كان ينوي ان يكتب قصصهم واحاديثه معهم في كتابه الثاني «عندما يدنو الليل» الذي صدر العام 2005.
انتقلنا للحديث عن لبنان.
قال لي انتوني انه كان ينوي اعادة ترميم دار جده الكبير، والد جدته، في جديدة مرجعيون، والانتقال للعيش فيه. كان يحلم ان يعود الى شرق اوسط تغيرت معالمه، الى ذلك الزمان الذي عاش فيه اجداده في لبنان. اجبته ان الواقع تغير كثيرا ورحت اروي له اقاصيص من تلك القرى، التي عرفتها عن كثب بعد الانسحاب الاسرائيلي العام 2000. 
كان انتوني يكره ما كان يعتقده «هجرة المسيحيين فقط» من مناطق الجنوب اللبناني، وكان يعتقد ان التنوع الديني والمذهبي هو «سر جمال» البلاد. لكني رويت له قصة آل طراد من المذهب الشيعي، وهم اصدقاء لي من قرية دبين المجاورة لمرجعيون. عدد كبير من اجدادهم هاجروا الى المكسيك. منهم من عاد بعدما جمع ثروة، فاشترى املاكا في بيروت وانتقل اليها. الجيل الثالث من العائلة اصبح في استراليا وكندا والخليج ودنيا الله الواسعة.
الهجرة اللبنانية لم تنحصر بمذهب، بل النمو السكاني الكبير للمسلمين في مقابل نظيره الضئيل لدى المسيحيين هو ما يفرغ القرى اللبنانية من مسيحييها.
نعود للحديث عن المسيحيين المشرقيين، ويحدثني عن قبيلة غسان ويعتبر ان اجداده منها.
اقول له انهم الغساسنة، وقد اسسوا لهم مملكة جنوب سورية، وكانوا عربا وثنيين ثم اصبحوا نصارى، ودخل كثيرون منهم الاسلام ابان الفتوحات في القرن السابع. كان انتوني مهتما بـ «المسيحيين العرب»، فأقول له انه باستثناء الكنيسة المارونية الانطاكية، يندر ان يعتبر مسيحيو الطوائف المشرقية الاخرى انفسهم الا عربا اقحاحا. أرى ابتسامة ارتسمت على وجهه.
انتوني كان مسيحيا عربيا، وكان مصمما على العودة الى جذوره في هجرة معاكسة كان يأمل ان تكبر يوما وتعيد الازدهار المسيحي الى المشرق العربي. 
لذلك، انهى انتوني زواجه من زوجته الاميركية، وهي دكتورة وله منها ابنته ليلى البالغة من العمر 10 اعوام. انتقل الى بيروت، وهناك تزوج من الزميلة مراسلة «نيويورك تايمز» ندى بكري وانجبا طفلا اسمياه مالك ويبلغ من العمر سنة ونصف السنة.
بعد لقائنا في واشنطن، انقطع التواصل بيننا حتى اندلاع الثورة المطالبة بانهاء حكم الرئيس السوري بشار الاسد في مارس الماضي. 
استفقت على مقابلة في «نيويورك تايمز» كان اجراها مع اركان حكم الاسد في دمشق، ابرزهم ابن خال الاسد رجل الاعمال رامي مخلوف. راسلته معتبرا ان الذهاب الى سورية والحديث مع المسؤولين من دون نقل الصورة كاملة بالتجول في المدن الثائرة كان بمثابة دعاية مجانية للنظام على حساب المعارضين لاستمراره. 
في اجابته، قال لي انتوني ان مخلوف حمله تهديدا الى قوات «اليونيفيل» العاملة في جنوب لبنان بأنها ستتعرض لهجمات في حال استمرت التظاهرات داخل سورية.
لم ينشر انتوني هذا الجزء من الحوار مع مخلوف، لكنه اتصل بكبار المسؤولين في «اليونيفيل» ونقل اليهم تهديدات ابن خال الرئيس السوري. بعدها بأسابيع، استهدفت احد التفجيرات دورية لـ «اليونيفيل» في جنوب لبنان.
لم يحاول انتوني تبرير ذهابه الى دمشق للقاء المسؤولين فقط. قال انه كان يأمل ان تكون هناك فرص مستقبلية تسمح له بنقل معاناة ضحايا عنف نظام الاسد ضدهم الى الرأي العام الدولي. 
الخميس الماضي، كانت احدى الفرص التي كان انتوني يأمل انها ستسمح له بلقاء السوريين ونقل معاناتهم. لم أكن اعرف ان تلك الفرصة ستكون الاخيرة له. دخل شديد يرافقه مصور اميركي الاراضي السورية عبر تركيا ممتطين احصنة، بمساعدة مهربين عبر الحدود. في طريق العودة، تحركت حساسية انتوني من الاحصنة وادت الى ازمة ربو خانقة وانهياره، فحمله رفيقه عبر الحدود حتى وصل الى اقرب رعاية صحية، لكنه كان رحل الى رحمة ربه.
كان انتوني شديد رقيقا، ملتصقا بالناس وحكاياتهم، نسج لنفسه عالما جميلا في المشرق العربي وحاول ان يعيش فيه. من يعرفه، لم يكن يتصور ان الرجل الذي اصيب بطلق ناري في ذراعه في الضفة الغربية اثناء تغطيته للانتفاضة الثانية في العام 2002، والذي كتب مرارا تحت القصف في بغداد اثناء حرب 2003، والذي تم اختطافه على يد مؤيدي معمر القذافي ثم تحريره في ليبيا العام الماضي، ستقتله أزمة ربو.

هناك تعليق واحد: