الثلاثاء، 26 فبراير 2013

كل السياسة في لبنان "تجليط"

بقلم حسين عبدالحسين - واشنطن

احسن الصديق الزميل جهاد الزين في استخدام كلمة "تجليط" في وصفه النقاش الانتخابي المسيطر على المشهد السياسي اللبناني. على انه يمكن اطلاق التسمية نفسها على الحياة السياسية اللبنانية برمتها. 

في لبنان تكثر السياسة (politics) وتنعدم السياسات (policies). الاولى هي نوع من الثرثرة والشعارات الشعبوية التي لا تؤثر في حياة اللبنانيين اومستقبلهم. اما الثانية فهي مجموعة خطط حكومية مترافقة مع تشريعات تحدد وجهة البلاد اقتصاديا وعسكريا وماليا واداريا واجتماعيا. 
والعجيب ان اللبنانيين لا يعيرون الشؤون المصيرية اهتماما كثيرا الا من باب المناكفات السياسية، فالحديث عن الدين العام غالبا ما يتم ربطه بسياسات الحريري الاقتصادية، فيما ينحصر مفهوم "الاستراتيجية الدفاعية بصواريخ "حزب الله" وعلاقة تنظيمه المسلح بالجيش اللبناني. والواقع ان الاداء الاقتصادي لاي دولة لا يتأثر كثيرا بالفساد بل يرتبط اكثر بالاستقرار، فيما النزاعات المسلحة ترتبط بأمور اعمق من الجيوش والصواريخ والاداء العسكري وتؤثر على الاداء الاقتصادي وتماسك الدولة.
وفي هذا السياق تندر الحكومات اللبنانية التي قدمت فلسفة حكم، منذ الاستقلال، وربما تنحصر بتجربتي الرئيسين الراحلين فؤاد شهاب ورفيق الحريري. الاول نجح في تحييد لبنان عن الصراعات الاقليمية وامسك بالامن الداخلي من طريق "المكتب الثاني"، مما اتاح الفرصة لاصحاب الاختصاص في انشاء معظم المؤسسات التي يقوم عليها كيان الدولة الحالي. اما الثاني، فحاول العمل ضمن الممكن تحت سيطرة سورية تامة على شؤون الامن والسياسة الخارجية، وفي خضم حرب مستعرة مع اسرائيل. وهو لم يكن له قرار في اي من المسألتين. 
وحتى اليوم، لا يوجد تقويم لتجربة الحريري خارج حدود زعامته الطائفية، فالرجل تم اتهامه بادارة الاقتصاد حسب رغبات "البنك الدولي" و"صندوق النقد"، وفي وقت لاحق القيت عليه لائمة ارتفاع الدين العام. 
لكن على عكس الرغبات الدولية، تمسك فريق الحريري - فؤاد السنيورة، مثلا، بتثبيت سعر صرف الليرة لضرورة الامن الاجتماعي اللبناني، اولا، ولاستعادة ثقة المستثمرين الاجانب بلبنان، ثانيا. وفي وقت لاحق، وقف الحريري في مجلس النواب ليشير الى فشل تجربة تركيا اقتصاديا في حينه حتى بعد تخليها عن سياسة تثبيت ليرتها.
حتى لبنانيون مثل الرئيس سليم الحص ووزيره للمال جورج القرم، عارضا سياسات الحريري قولا، ولكنهما تمسكا بها فعلا، ولم نر الحص في فترة 1998 - 2000 يتخلى عن تثبيت النقد، بل رأينا القرم يمارس المزيد من التقشف، او "ترشيق الدولة"، على ما كان يحلو للوزير السنيورة القول.
اما ارتفاع الدين العام فيرتبط بعناصر عديدة، منها ان البلاد كانت خرجت للتو من حرب اهلية قضت على قدرتها في جباية الضرائب وتحصيل الموارد، ما اضطرها للاستدانة من اجل اعادة الاعمار واعادة تأهيل مؤسساتها، وخصوصا الامنية، والانفاق عموما. 
ثم ان الاستدانة، وبسبب الحرب مع اسرائيل، جاءت بفائدة مرتفعة. تلك الحرب نفسها اضطرت لبنان الى استدانة المزيد من النقد الاجنبي من اجل تثبيت سعر صرف الليرة. 
حتى "اعادة الاعمار"، لم تكن تماما في يد الحريري، فوزارة "الموارد المائية والكهربائية" لم تكن يوما بامرة وزير "يمون" عليه، والمعلوم ان "شركة كهرباء لبنان" تكلف الخزينة خسائر تقدر بربع الانفاق السنوي، فيما يتكفل الجيش والقوى الامنية بالربع الآخر.
بعد مقتل الحريري، اقترح امين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله على ورثة الحريري، في خطابين له على الاقل، عودة الصيغة السابقة بقوله ما مفاده ان اديروا انتم سياسة اعادة الاعمار ونهتم نحن بالسياستين الخارجية والدفاعية. هذه الثنائية نفسها يبدو ان الرئيس السوري بشار الاسد يقدمها اليوم الى معارضيه، يحتفظ هو بالاجهزة الامنية والسياسة الخارجية، ويتخلى لهم عن الجوانب الاقتصادية والمالية في الحكم.
لكن التجربة اللبنانية أظهرت انه يصعب التمييز بين السياستين، اذ يستحيل بناء اقتصاد مزدهر في دولة تعج بضباط الجيش والاستخبارات، الذين يمكن ان يستولوا على الاقتصاد وعلى اصحابه، كما حصل في ولاية الرئيس السابق اميل لحود وجميل السيد وصحبهما في مواجهة الحريري. كذلك، يصعب الازدهار الاقتصادي والاجتماعي في بلد يتوعد بعض قادته بالحرب الدائمة والمقاومة المستمرة.
ورثة الحريري في السياسة رفضوا عرض السيد نصرالله، بل اصروا على المشاركة في كل سياسات الحكم، الاقتصادية، كما الدفاعية والخارجية، ما اخرجهم من الحكم تحت طائلة التصفية الجسدية على غرار ما حصل للحريري الاب نفسه. 
على ان من تلقف عرض "حزب الله" هو الجنرال ميشال عون، الذي ربط الخوف المسيحي بنفوذ الحريري، بدلا من ربطه بأجهزة الامن الرسمية والحزبية الخارجة عن سلطة الدولة. طبعا لم يستنبط عون مواقفه، بل هو استلهمها مما يهوم في بال غالبية المسيحيين، وهو ما يظهر عمق ازمتهم في لبنان.
المسيحيون يمتلكهم حنين الى نصف قرن تلا حرب 1860 وحكموا اثناءه لبنانهم الصغير، وسمحت لهم بحبوحتهم المالية المبنية على اقتصاد الحرير ممارسة نفوذ سياسي سمح لهم بالتوسع، بمساعدة فرنسية، وانشاء دولة مبنية على هيمنة اقليتين، المسيحية وتابعتها الشيعية، وعلى اقلية سنية في لبنان تنتمي الى الاكثرية في المنطقة. 
لكن سطوة المسيحيين تراجعت امام المد المالي السني والشيعي في المنطقة. ومع تراجع اقتصادهم، تراجعت اعدادهم، فنفوذهم السياسي. ومازاد في ازمتهم تعقيدا اعتقادهم ان الحلول تأتي من طريق مشايخ الشباب والزعماء "الاقوياء" من امثال بشير الجميل او ميشال عون، ومن طريق رؤساء الجمهورية.
على ان ما يحتاجه المسيحيون فعلا لاستعادة دورهم هو اقتصاد مزدهر عموما يثبت الباقين منهم في لبنان، ويعيد بعضا من مهاجريهم. الازدهار الاقتصادي بدوره يحتاج الى بلد ليس في حالة حرب مع احد، او على الاقل حرب بجدول زمني مفهوم. 
كما يحتاج الازدهار الى ورشة اصلاح دستورية تؤكد حريات الافراد المسيحيين وحقوقهم، لا حقوق زعمائهم في المناصب. ومن مصلحة المسيحيين كذلك دولة متحررة من الارقام الديموغرافية التي يؤدي تغيرها الدائم الى ضعضعة الصيغة الكيانية بشكل مستمر.
هذا هو النقاش المفقود في لبنان، والذي يستعيض عنه ارباب الطوائف بـ "التجليط" على شاكلة الشعارات الشعبوية، وتخويف جماعاتهم، واثراء انفسهم، وخوض معارك فارغة حول الميثاق والمناصفة والمثالثة. ويبدو ان غالبية اللبنانيين تغرق في هذه المتاهات، وتتلهى بها عن السياسات التي يمكنها ان تخرج المسيحيين من خوفهم، والشيعة من مظلوميتهم، والسنة من نقمتهم، والدروز من تحولهم الى "هنود حمر".

هناك تعليق واحد: