الأربعاء، 25 ديسمبر 2013

هل انتصر سنودن؟

حسين عبدالحسين

المقالة التي أعلن فيها المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية، ادوارد سنودن "فوزه" في صحيفة "واشنطن بوست" في إشارة إلى تمكنه من كشف وثائق بحوزته من دون الوقوع في قبضة السلطات الأميركية، جاءت في أكثر من أربعة آلاف كلمة، لكنها لم تذكر تفصيلاً أساسياً هو أن سنودن وأباه ومحيطه ينتمون إلى التيار السياسي المعروف بـ "الليبرتاريين"، وهو تيار محسوب على الحزب الجمهوري اليميني، ولكنه في الواقع متطرف، معروف بعدائه لمبدأ وجود الحكومة الفيدرالية وعملها.

التيار، هو نفسه الذي يعتبر المحرك الأساسي لحركة "حفلة الشاي"، التي تتمتع بكتلة من قرابة 50 عضواً في مجلس النواب، وحفنة من الأعضاء في مجلس الشيوخ، يتصدرهم السيناتور عن ولاية تكساس، تيد كروز، وهم من قادوا عملية تعطيل الحكومة الفيدرالية 17 يوماً في تشرين الأول الماضي، وفي 17 منه، حاولوا إجبارها على التخلف عن سداد ديونها. وهو ما كان من شأنه أن يطيح لا بالسمعة المالية للحكومة الأميركية وتصنيفها الائتماني فحسب، بل بالاقتصاد الأميركي -- وربما العالمي -- برمته.

والليبرتاريون هم مدرسة فكرية فلسفية في الحكم قائمة على مبدأ الحرية الفردية، أو ليبرتي، ومن أبرزهم المرشح السابق للرئاسة رون بول ونجله السيناتور راند بول، يعتقدون أن من شأن الحكومة، أي حكومة، أن تنتقص من هذه الحرية.

كذلك، يعتقدون، أن الثورة الأميركية قامت على نجاح العموم، أو الأهالي من الأميركيين من سكان المستوطنات في القرن الثامن عشر، بإلحاق الهزيمة بحكومة الملك البريطاني جورج الثالث أثناء الثورة الأميركية.

هذا التيار يكاد يقدس الثورة الأميركية وأحداثها. ومن قرأ مقابلة سنودن مع صحيفة "واشنطن بوست"، يمكن أن يلاحظ قيام سنودن بتشبيه تنصت "وكالة الأمن القومي" الأميركية على مواطنيها بقانون "مذكرات التفتيش" الذي أصدرته بريطانيا في زمن حكمها لأميركا، الذي سمح للبريطانيين بتفتيش الأميركيين وممتلكاتهم من دون أي إذن صادر عن محكمة مخولة.

وكما يتصور سنودن ثورته ضد الادارة الاميركية على انها شبيهة بانتفاضة الاميركيين في وجه "التفتيش" البريطاني التعسفي في القرن الثامن عشر، كذلك يطلق التيار السياسي الذي يتماهى معه اسم "حفلة الشاي" على نفسه. و"حفلة الشاي" هي واقعة قيام أميركيين باعتلاء سفينة راسية في مرفأ بوسطن وإلقاء حمولتها من الشاي في البحر، بعد أن فرضت الحكومة البريطانية ضريبة جمركية على الشاي. تلك الحادثة كانت الشرارة التي أطلقت الثورة الأميركية ضد ملك بريطانيا، الحاكم المستبد، وحكومته.

وفي مقابلة سنودن نفسها، نجد تجاهله لمبدأ الانتخابات عندما يسأله مراسل الصحيفة حول من كلفه القيام بما قام به، ويردد سنودن انه قام بذلك باسم عموم الأميركيين، وباسم مصلحة الديموقراطية ضد الحكومة الجائرة.

القيام بأعمال يعتقد أصحابها أنها مبررة عقائدياً، حتى لو كانت منافية للقوانين أو نتيجتها تدمير الحكومة مالياً، هو نوع من الشعوبية التي تلقى رواجاً عند فئات محدودة من اليمين الأميركي، لكنها فاعلة ونجحت في محطات عديدة على إجبار الحزب الجمهوري على اللحاق بها إلى ما قبل أسابيع، عندما انتفضت القيادة الجمهورية في ما يبدو أنها مواجهة ساخنة اندلعت بين الطرفين.

فسنودن، الذي مجدّه الليبرتاريون، لم يلق الكثير من الشعبية بين الجمهوريين عموماً، الذين أدانوا تسريباته التي اظهرت الحكومة الاميركية في موقع المتجسس على حلفائها، مثل حكام ألمانيا والبرازيل، ما أضر حكماً بالمصلحة الأميركية، وكشف قنوات التجسس التي كانت تستخدمها. 

سنودن انطلق من عداء مطلق للحكومة الأميركية، فيما يعادي الجمهوريون إدارة باراك أوباما الديموقراطية، لا الحكومة الفيدرالية برمتها.

في الماضي، لطالما أفاد الجمهوريون من حماسة وعقائدية الليبرتاريين من أمثال سنودن، فهم استخدموا موضوع التجسس لمهاجمة أوباما، وهم يستخدمون الأفكار الليبرتارية في محاربتهم للضرائب وسعيهم تخفيضها محاباة للشركات الكبرى، على مثل ما فعل الرئيس الراحل رونالد ريغان. كذلك، استخدم الحزب الجمهوري الأفكار نفسها لتقويض مبدأ الاتحادات العمالية، والتمسك بمبدأ الفردية، وهو ما جاء أيضا لمصلحة كبرى الشركات.

وبالطريقة نفسها، يستخدم لوبي السلاح مبدأ "ليبرتي" للإبقاء على حرية شراء وحمل السلاح الفردي، من دون أي قيود حكومية، مستعيداً في كل مرة فكرة سوء الحكومة وإمكانية تحولها إلى حكومة ظالمة وجائرة قد تفرض على المواطنين انتفاضة مسلحة عليها بأسلحتهم الفردية، كما في القرن الثامن عشر ضد الانكليز.

على أنه لعقيدة سنودن و"حفلة الشاي" والليبرتاريين نتائج تكون ايجابية أحياناً. فكشف سنودن لممارسات "وكالة الأمن القومي" أجبر بعض المحاكم الأميركية على شطب بعض الصلاحيات التي كانت الوكالة تتمتع بها، وأجبر الكونغرس على ممارسة دور رقابي أكبر، وأجبر أوباما على إصدار مجموعة توجيهات جديدة في محاولة منه لإصلاح صورة حكومته التي شوهها سنودن.

في هذه الأثناء، سارعت شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل غوغل وياهو، إلى تبني سياسات أكثر تشدداً في حماية الخصوصية الفردية في وجه أي محاولات حكومية للتنصت أو التجسس، وكذلك فعلت شركات الهاتف، إذ لا تريد هذه الشركات أن تكتسب صورة المتواطئة مع الحكومة ضد خصوصيات المواطنين.

هل انتصر سنودن؟ قد تكون تسريباته أثارت نقاشاً عاماً أدى إلى إجبار الحكومة الأميركية على التراجع في بعض مساحات المراقبة والتجسس، لكن هذه التسريبات لم تؤد حتماً إلى انتفاضة أميركية شعبية شاملة ضد حكومتهم، بل أدت إلى تشديد المراقبة ضد موظفي الحكومة تحسباً لانشقاقات مماثلة، وأدت إلى مواجهة بين الليبرتاريين وغالبية الأميركيين، من غير المرجح أن تنتهي بفوز سنودن ومجموعته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق