الخميس، 20 فبراير 2014

... ويبقى الرحيل هو الحل

حسين عبدالحسين

قال ابي لاهثا بلكنة عراقية: "حسين". هو لم ينادني بالعراقي منذ زمن بعيد. ذلك اليوم، قبل عشر سنوات، عاد الى عراقيته. ربما لان العاطفة تتدفق بلهجة الام. قبّل وجنتي مبللهما بدموع قليلة لانه كان يحاول تماسك نفسه. لو تكلم اكثر، لاجهش بالبكاء، ولو تكلمت انا لبكيت وابكيته اكثر. امي تبكي. طبعا، النساء يبكين. اما الرجال، فيستديرون ويهاجرون. وداعا بيروت. مرحبا واشنطن.
ابي رحل قبلي. ابوه قال له "عليك ان ترحل الى بيروت يا علي". لا قادسية صدام قادسيتنا ولسنا من الخميني الدجّال في شيء. حرب ايران ستنتهي في اسابيع، او اشهر. قبلات سريعة بين جدي وابي من دون دموع. ينقضي الصيف ونعود. لم نعد. وداعا بغداد، مرحبا بيروت.
المهاجرون لا يتحولون الى مهاجرين. في البدء يعتقدون انهم سواح. يبهرهم العالم الجديد. يمنحهم قصصا يخبؤونها. يدونونها. يعتقدون انهم سيعودون كي يقصونها على احبابهم. ثم تكثر القصص، وتتزاحم الذاكرة، ويتلاشى بعضها، ويتلاشى معها الاصدقاء الذين كانت القصص مخصصة لهم.
ثم يستوطن المهاجرون في مهجرهم. يتزوجون، ينجبون. اولادهم يكبرون.
تبقى في مخيلة الاباء والامهات صورة الوطن الاول، الصديق الاول، الصديقة الاولى، الفكاهة الاولى، الاحرف الاولى، القبلة الاولى، الصبا، الشباب.
لكن لاولادهم مخيلتهم، ولهم وطنهم الاول. لابي بغداد، ولي بيروت، ولابني واشنطن. هي قصة البشرية منذ ما قبل الحضارة. الناس يرحلون. يبحثون عن حياة افضل. بعضهم يشيّد وطنه الاول في مهجره ويسميه غربة. البعض الآخر يندمج في مهجره ويحتفظ بوطنه الاول في ذاكرته. لدى الاثنين، حنين يتفاوت في قسوته وفي التعبير عن نفسه.
قبل عشر سنوات غادرت بيروت. اعتقدت ان احوال العرب ستتحسن واني سأعود.
منذ عشر سنوات، وفلسطين مازالت قيد التحرير. اسرائيل مازالت متينة كبيت العنكبوت. الامبريالية مازالت تنهار، يوما بعد يوم وعاما بعد عام.
منذ عشر سنوات، والفتنة مازالت قيد الاعداد. لم تقع. الاعداء يحاولون بث سمومها فيرسلون اشباحهم ليقتلون هنا، اويفجرون هناك. لكن الفتنة لم تقع، والمنطقة لم تقسم، ولم تضعف. مازالت قوية ممانعة صامدة تواجه المخططات المرسومة لها، او هكذا يقولون لنا. 
منذ عشر سنوات والعراقيون يتباحثون في مشاركة السلطة. صدام حسين صار بطلا لانه قال لا مشاركة ولا مشاركين، فقط قطع آذان والسن واقتلع اظافر واعدم، وعلى اغاني "يا كاع ترابج كافور".
منذ عشر سنوات واللبنانيون ينتخبون رؤساء بالاجماع. يشكلون حكومات وحدة وطنية. رتابة ووضاعة وتفاهة لا متناهية ودلعونا عن الحبايب الذين راحوا وما ودعونا.
منذ عشر سنوات والثابت الوحيد في لبنان والعراق، والآن سوريا، هو الرحيل. الرحيل هو الحل.
نرحل. نوضب ذكرياتنا ونأخذها معنا. الذكريات جميلة، لكن الاشواق مؤلمة. اما العودة، فمؤلمة اكثر، وغبية.
لم يعد ابي الى بغداد. لم اعد انا الى بيروت. كلانا في انتظار. ولكلينا مخيلة يتكئ عليها. تمنحه بسمة تعينه في غربته، ثم تتلاشى، ويتلاشى الوطن الاول.

وداعا بغداد، وداعا بيروت، مرحبا واشنطن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق