الأربعاء، 30 أبريل 2014

عندما كنت عراقيا

حسين عبدالحسين

اصدقائي من العراقيين المرشحين والمؤيدين لهم في الانتخابات النيابية، تحية وبعد.

آسف لتخلفي عن الاقتراع للمرة الأولى منذ ادلائي بصوتي في العام 2003 في يوم الزحف الكبير لتجديد البيعة للسيد الرئيس القائد صدام حسين. يومها دونت اسمي في سجل المتطوعين لقتال علوج بوش دفاعا عن إنجازات ثورة تموز المجيدة. ثم صفقت مشاركا في هوسة "بوعدي اسمك هز أمريكا".

بعد ذلك، اقترعت لمصلحة إقرار دستور لم أوافق على معظم بنوده، لأن الخيار كان الدستور او العدم. بعدها اقترعت في الانتخابات النيابية، على وقع اهازيج "على عناد البعث شيعة وشيوعية"، وادليت بتصريحات لتلفزيونات أميركية كانت تبحث بيأس عن بصيص امل يشير الى ديموقراطية العراق، وان عرجاء.

واقترعت بعد ذلك في غرفة كاد ينشب فيها العراك الطائفي بعد ان ادلى الموظف المسؤول، حامل اللقب السني حسب بادجه، بملاحظة حول اسمي، فتنطح شيعي بطل يقف خلفي للدفاع عن اسمي فيما حاولت ان أقنعه عبثا أنى لم اشعر بالإهانة، وان لا ضير في مزاح الموظف.

في كل استفتاء، شاركت. وفي كل انتخابات، اقترعت. في كل مرة كنت اذهب متأبطا "هوية الأحوال المدنية"، الصادرة قبل ان تتكون معالم وجهي. لا رسمي الشمسي عليها، وطولي فيها 50 سنتمترا، وحالتي العلمية امي. الى جانب هويتي كنت احمل جوازي العراقي المنتهية صلاحيته، والذي شاركني المذلة في مطارات العالم وعواصمه على مدى عقود.

تلك كانت عراقيتي التي كنت احملها معي للاقتراع: أوراق ثبوتية يستحيل تجديدها في سفارات العراق المتمسكة دائما ببطاقة الحصة التموينية، الصادرة بعدما كنت اغتربت أصلا، وشهادة الجنسية التي لم أكن بلغت السن القانونية للحصول عليها قبل هجرتي.

لم اهتم يوما ان سفارات العراق الجديد لم تجدد لي عراقيتي، فانا كنت على موعد دائم مع تجديد عراقيتي بنفسي، بشعوري أنى متساو مع باقي العراقيين، أصحاب بطاقات الحصص التموينية وشهادات الجنسية او بدونها. انا والعراقيين كنا نتساوى بابداء الرأي، بالاقتراع، بالقول ان العراق حاضر في اذهاننا وان كنا بعيدين عنه، وان لا خلاص للعراق او العراقيين من دون ديموقراطية، وان الديموقراطية عملية تحتاج الى عقود من الزمن، والى مثابرة وصبر. كنا نقترع، العراقيون وانا، لإيماننا بأن مستقبل العراق سيكون أفضل من ماضيه.

هذا العام لم اذهب الى مركز اقتراع ولم انتخب. لا لأني اضعت اوراقي الثبوتية المتهالكة، فهذه محفوظة قرب مرقد رأسي الليلي، الى جانب صور احبابي واوراقي الثبوتية الأخرى غير منتهية الصلاحية.

هذا العام لم اذهب الى مركز الاقتراع لأن عراقيتي باتت في الماضي، وأنا لم اعد عراقيا في المستقبل. الماضي كان لي وحدي. المستقبل لي ولأولادي.

لأولادنا حق علينا. لا يجوز ان نرهن مستقبلهم بذاكرتنا. لا يجوز ان نعيق طموحاتهم بطموحاتنا. لا يجوز ان نبقيهم رهن احلامنا حول العراق وديموقراطيته التي لا تأتي. مستقبل اولادنا سيتناسب وذكرياتهم، وذكرياتهم عن العراق شحيحة، متواترة في بعض الالحان ولمحات الكتب، وفي قصص امهاتهم وآبائهم، وفي أحاديث جداتهم واجدادهم.

لم اعد عراقيا. الأيام مرت. السنوات مرت. وانا انتظر. في اثناء انتظاري، تغيرت. صرت انتمى لمكان آخر ولزمان آخر. زرعت روحي في وطن جديد. ذكريات جديدة. علاقات جديدة. أصدقاء جدد. مصالح. كلها من دون العراق. وان عدت يوما، فأعود اليه غريبا مغتربا، والغرباء لا يشاركون في صناعة الأوطان، ولا في تحديد مصيرها، ولا في الاقتراع.

على موقع فيسبوك صفحة "مدرسة المنصور التأسيسية". امضي ساعات وانا أحدق في الصور، ربما أرى وجها اتذكره واعرفه. ربما أرى صورتي انا مع اقراني في شعبة البرتقالي. لا أجد شيئا. هذه صورة المدخل. اتذكره. هذه صورة الممرات. هذه اتذكرها أيضا. الصورة الأولى التي عرفتها تعود لمعلمتي "الست لمعان". بالكاد عرفتها لأني لم أرى وجهها منذ عقود. "الله يرحمك يا ست لمعان ويجعل مثواج الجنة"، كتبت احدى تلامذتها.

انا لم اعد عراقيا. عراقيون غيري سيولدون ويكبرون ويعيشون في العراق. اما يهجرونه بحثا عن مستقبل أفضل، او يراهنون على مستقبله ويتمسكون به، حتى لو هجروه قسرا. هم سيقترعون. ربما يفهمون ان المعركة بين الحسين ويزيد انتهت قبل أربعة عشر قرنا، وان المعركة التي تنتظر هي معركة اخراج العنف من الحياة العامة، والخاصة، والتداول على ادارة البلاد، لا بين الطوائف، بل بين الأجيال، وإدراك الفارق بين العام والخاص، واحترام الآخر، والاستماع لرأيه المغاير، والصبر، والأناة.

اما انا، فقلت، وكتبت، ومشيت. لم اعد عراقيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق