الخميس، 15 مايو 2014

نجاحات حافظ الأسد وخيبات ابنه بشار

حسين عبدالحسين

الحديث عن الأحداث الكبرى التي غيّرت في أوضاع لبنان وسوريا غالبا ما يتطرق الى الثورة الإيرانية، ونهاية الحرب الباردة، وأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وحرب العراق. لكن أبرزها، وهو ما يندر الحديث عنه، هو رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد. ربما بقاء نظامه من بعده، في عهدة ولده بشار، قد يكون سببا لاعتبار ان يوم موت حافظ في 10 يونيو (حزيران) 2000 لم يكن تاريخا مفصليا، لكن الحقيقة هي ان الأسد الاب كان الرجل الوحيد الذي أخرج سوريا من دوامة انقلاباتها، ونجح في تثبيتها، ثم تثبيت لبنان من بعدها، وإبقاء الصراع الإقليمي السني – الشيعي خارج البلدين، فيما الأسد الابن هو الذي أدخل سوريا في حرب دموية طائفية ودمار لم تعرف له مثيل منذ زمن الاجتياح المغولي.

على أننا اليوم، بعد 14 عاما على رحيل حافظ الأسد و11 عاما على انهيار صدام حسين ونظامه، صرنا نعرف ان الأنظمة القمعية ليست مؤسسات ولا أجهزة، بل هي منظومات تتمحور حصريا حول فرد واحد، وحول شخصيته ومزاياه ومزاجه. وبرحيل الشخص، ترحل منظومته بأكملها، وبحلول ابنه مكانه – كما في الحالة السورية – تحل منظومة جديدة تتمحور حول شخصية جديدة وأسلوب مختلف.

القصص عن حافظ الأسد كثيرة. هنا في واشنطن، يكرر وزير الدفاع تشاك هيغل أنه أثناء عمله سيناتورا قرر لقاء حافظ الأسد، فطلب من وزير الخارجية السابق جيمس بيكر – الذي التقى الأسد مرارا – نصائح؛ «لا تشرب أي سوائل عند الفطور او قبل لقائك به... لا قهوة ولا شاي ولا عصير برتقال».. كانت تلك نصيحة بيكر لهيغل لأن الاجتماعات مع الأسد الأب كانت تمتد لساعات، وكان يقول ما يريده فعليا في كلمات قليلة قبل النهاية بقليل فيما ضيفه يستعجل الخروج.

وفي لبنان، تقول الرواية إن حافظ الأسد قال لوليد جنبلاط، الذي زاره بعد مقتل ابيه كمال، «هنا جلس ابوك»، ما اعتبره البعض تهديدا ضمنيا لجنبلاط الابن بالتخلي عن خط الأب او مواجهة المصير نفسه. وتقول رواية أخرى إن اللقاء الأخير الذي منحه حافظ الأسد للوزير والنائب السابق وأمين حزب البعث السابق في لبنان عبد الله الأمين، قال له فيه: «سمنان يا عبد الله».

وفي سنوات من اللقاءات بين رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري وحافظ الأسد، لم ينقل أحد عن الحريري انه عاد مذعورا وأنه تلقى تهديدات، فحافظ الأسد حكم لبنان بواسطة الحريري وجنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه بري و»حزب الله» وغيرهم. وحدهم المسيحيون لم يأنسوا لفكرة أنهم لم يعودوا أسياد الشرق ولا شياطينه، وأن حاكم دمشق هو الذي يسيّر أمور سوريا ولبنان.

المؤرخون يستخفون أحيانا بحافظ الأسد. يقولون إن اميركا كافأته لمشاركته في حرب الخليج الأولى بتوكيل أمر لبنان إليه. لكن ذلك لم يحدث من باب المصادفة. الأسد أنفق سنوات، حقق في بعضها نجاحات أكثر من أخرى، قبل أن يسيطر على سوريا ولبنان كليا.

مثلا، أقلق الأسد تمدد الثورة الإيرانية شيعيا في لبنان، فهو كان عمل منذ أوائل السبعينات مع الإمام موسى الصدر على إنشاء قوة شيعية لبنانية موالية له، فيما إيران دخلت الساحة اللبنانية بالاستعانة بمقدرات وعلاقات ياسر عرفات، غريم الأسد. لكن الأسد، لفطنته، لم يواجه الإيرانيين فورا، بل ماشاهم، واختار الوقت المناسب لإخضاعهم.

هكذا، لم يكن من قبيل المصادفة أن الأسد اختار مطلع العام 1987 ليرسل قواته لتصفية مقر «حزب الله» في ثكنة فتح الله. كانت القوات الإيرانية في ذلك الوقت تشن حملات «كربلاء» للاستيلاء على البصرة العراقية. الدول العربية كانت تطلب من الأسد تأييد العراق. إيران كانت تحتاج لحلفاء عرب. ولعلمه أن الجميع يخطبون وده، اجتاحت قوات الأسد مقر «حزب الله»، ولم يستقبل الأسد موفدي إيران الذين سارعوا للشكوى والاستيضاح، وهو عندما فعل ذلك، أجبر الإيرانيين على قبوله آمر لبنان الفعلي، وهو ترتيب بقي قائما حتى العام 2005.

بلدة لبنانية بعد بلدة، طائفة بعد طائفة، عاصمة إقليمية بعد الأخرى، لم يطل العام 1990 وانهيار صدام حسين آخر عرابي بعض القوى اللبنانية، حتى أصبح الأسد «آخر الواقفين» في لبنان، ففاز هو، وفاز حلفاؤه، ولكنه مع ذلك لم يطح بخصومه، بل سمح لهم بالبقاء، على شرط احتفاظه بالكلمة الأخيرة، وهذه كان يقولها بالترميز في اجتماعاته معهم.

بشار الأسد شخصية مختلفة. منذ تسلمه «ملف لبنان» في العام 1998، عمد إلى بناء حلفاء جدد من صفوف العسكر والاستخبارات، وحاول استنساخ نظام سوريا الأمني في لبنان. حليفا الأسد الأب، الحريري وجنبلاط، حاولا عبثا تكريس الترتيب القائم، والذي يحفظ لكل زعيم لبناني حقه في الداخل ويعطي سوريا حق الوصاية. لم يعبأ بشار الأسد بالترتيب السابق، ولم يعمد إلى الترميز في حواراته حتى، وهو إن صحت الرواية، هدد بـ «كسر لبنان على رأس الحريري و(رئيس فرنسا السابق جاك) شيراك».

هكذا أطاح بشار الأسد بإنجازات حافظ، في لبنان أولا، ثم في سوريا. خرجت قوات بشار الأسد من لبنان بعد 29 عاما، وأصبح نفوذ آل الأسد في لبنان مستندا إلى قوة «حزب الله» وإيران، التي ارتمى الأسد الابن في أحضانها تماما، من دون أن يفطن أن الموازنة بين إيران والدول العربية كانت سر سطوة الأسد في لبنان كما في سوريا.

وكما أخطأ في لبنان، كذلك فعل في سوريا، وإن صحت الرواية الأخرى عن زيارة وفد درعا إلى بشار الأسد، على أثر التعذيب الذي لقيه أولادهم على أيدي الاستخبارات، والمذلة التي وجهها الأسد الابن إليهم، لصار مفهوما أن الاختلاف في الشخصية بين الأسدين هو في صلب التغيير الكبير الذي طال لبنان ثم سوريا.

ربما لو زار وفد درعا الأسد الأب، لقال لهم «تكرم عيونكم»، ولحاول تحديد الشخصية الأبرز من بينهم وصادقه ضد الثاني منهم، ثم يصادف أن يموت الثالث في «حادث» بعد شهور. ثم بعد سنوات، ينظر زعيم الوفد إلى وفده فيجده تبعثر ويجد نفسه وحيدا، فيختار إما الانصياع لحافظ الأسد، أو السجن، أو النفي.

اليوم، حتى لو تغلب الأسد الابن على معارضيه في سوريا، من الصعب أن يتخلص من وصاية إيران. في لبنان، خسر الأسد نفوذه كليا لمصلحة «حزب الله». في سوريا، أصبح حاكما باسم إيران. لم تكن الظروف هي وحدها التي فرضت على بشار الأسد الموقف الذي يجد نفسه فيه اليوم، بل هو الاختلاف الهائل في الشخصية بين الأب الحاذق والصبور والابن العديم الخبرة والمتهور.

* كاتب لبناني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق