الخميس، 22 يناير 2015

المؤرخة ليلى فواز تروي "حرب الحفاة".. العالمية

حسين عبدالحسين

قبل أن يكون في لبنان 8 و14 آذار، كان فيه 6 أيار و2 أيلول. أنصار 6 أيار كانوا يطالبون بإقامة "عيد الشهداء" في ذلك اليوم، للدلالة على إعدام جمال باشا للبنانيين وعرب في "ساحة الشهداء"، حيث اختلطت دماء اللبنانيين والعرب. اما جماعة استقلال لبنان عن العرب والعروبة، فكانوا يحتفلون بذكرى الشهداء في 2 أيلول، أي اليوم التالي لذكرى إعلان الجنرال غورو الفرنسي قيام "دولة لبنان الكبير".

واستمر الانقسام اللبناني المذكور حتى نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، عندما تنازلت جماعة "2 أيلول" لمنافسيها في "6 أيار"، الذين تراجعوا بدورهم عن أحلام الوحدة العربية واكتفوا بلبنان "ذي وجه عربي". وأذنت نهاية الانقسام - ربما برعاية خفية للجنرال البريطاني سبيرز - بقرب الاستقلال اللبناني، الذي تحقق العام 1943 وأفضى الى قيام "الصيغة اللبنانية"، التي ما فتئ اللبنانيون يعدلون فيها حتى وصلوا الى "اتفاق الطائف" وفراغ الرئاسة وهامشية الحكومة.

قصة انقسام اللبنانيين الى معسكري أيار وأيلول تنقلها المؤرخة اللبنانية – الأميركية والبروفسورة في جامعة "تافتس" المرموقة، ليلى فواز، في كتابها الصادر مؤخراً بالإنكليزية بعنوان "أرض القلوب الموجوعة: الشرق الأوسط في الحرب الكبرى". وفواز هي صاحبة الكتاب الذي تحول مرجعاً لحرب اللبنانيين الأهلية العام 1860، والذي أصدرته العام 1995 بعنوان "مناسبة للحرب: الصراع الأهلي في لبنان ودمشق في 1860".

في سبعة فصول شيقة، تستعيد فواز أحداث الحرب العالمية الأولى بعد قرن على اندلاعها. تبتعد عن الرواية التاريخية الاكاديمية. فعنوان الكتاب شاعري، أقرب الى الرواية، وكذلك الفصول وترتيبها. فهي لا تتبع الترتيب الزمني، ولا تجعل من الأحداث السياسية او العسكرية مفاصل تسلسل الاحداث، بل تنتهج ترتيباً مختلفاً. تحدد فواز الثورة الصناعية الأوروبية نقطة انطلاق، وتعتبر أن هذه الثورة انتجت امبراطوريات صناعية ومركنتيلية متنافسة في أوروبا أدت الى قيام تكتلين أوروبيين، واحد بقيادة بريطانيا وفيه فرنسا وروسيا، وآخر بقيادة ألمانيا وفيه الإمبراطورية النمساوية – المجرية. وبسبب التنافس على الأسواق العالمية، وخصوصاً على طرق التجارة حول الكوكب، وصلت تأثيرات الثورة الصناعية الى الإمبراطورية العثمانية، وراحت القوى الأوروبية المتنافسة تنهش أراضي السلطنة وتحولها الى محميات لها.

لكن فواز – على عكس مؤرخين كبار سبق أن تناولوا الموضوع – لا تعير التنافس على طرق التجارة، وخصوصاً بين خطي قناة السويس وخط قطار برلين – بغداد، الكثير من الأهمية، بل تنتقل لتتناول تأثير السباق التجاري بين الامبراطوريات الأوروبية على الحصول على امتيازات في السلطنة لانشاء وإدارة مشاريع بنية تحتية ومواصلات ومرافئ. هذه الفورة في المشاريع درّت أموالاً طائلة، ليس على المستثمرين الأوروبيين وحدهم، بل على شركائهم المحليين والمدن التي استضافتهم. هكذا، تحولت المدن الساحلية، مثل الإسكندرية وبيروت وإزمير، الى مدن حديثة وصاعدة، وساهمت في تكريس الانقسام داخل السلطنة، ومصر، بين علية القوم وأثريائهم من ناحية، وبين العامة الريفية بغالبية 80 في المئة من إجمالي السكان من ناحية أخرى.

بعد وصفها رياح التغيير، توجز فواز الحديث عن اختيار تركيا، المعسكر الألماني، وتعتبر أن ضباط "الاتحاد والترقي" كانوا يصبون إلى تحالف مع بريطانيا، لكن الأخيرة لم تُبدِ اهتماماً، فوجدوا ضالتهم ونهاية عزلتهم السياسية ومتاعبهم المالية في تحالف مع الألمان. ثم تنتقل فواز الى أهم المعارك العسكرية، التي تصورها ببراعة عالية وبلغة مكثفة ونص مختصر، فتتحدث عن معركة شبه جزيرة غاليبولي، التي أطلقت شهرة الضابط المغمور مصطفى كمال اتاتورك، وتكشف عن الصدف التي منعت سقوط إسطنبول، بعدما قامت الحكومة التركية بنقل الوثائق الحكومية الى داخل الاناضول خوفاً من سقوط العاصمة. كما تسهب فواز في الحديث عن معارك تركيا وروسيا في القوقاز وأذربيجان وإيران، وتتطرق الى اقتسام بريطانيا وروسيا مناطق النفوذ في بلاد فارس، وعن مجهود "لورنس الألماني" في تأليب القبائل الإيرانية لإنشاء مقاومة شعبية ضد الحلفاء، على غرار تحريض الإنكليز للعرب والشريف حسين لإعلان الثورة العربية في العام 1916 ضد الترك. ولا تنسى فواز حملة البريطانيين، المتعثرة أحياناً، في "بلاد ما بين النهرين"، وخطط جمال باشا، قائد الجيش الرابع، لغزو قناة السويس، ثم حملات الإنكليز لغزو غزة، ومن بعدها فلسطين وسائر المشرق.

وبعد المعارك، تنتقل فواز الى معاناة البشر، وتبني على ثروة من الكتابات لكبار راحلين من أمثال السوسيولوجي العراقي علي الوردي، والمؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة، وكتاب سوريين، وارشيف صحيفتي "المقطم" و"الأهرام" المصريتين، وروايات متنوعة مثل "الرغيف"، للبناني الراحل توفيق يوسف عواد، ومذكرات عنبرة سلام. وتصف فواز المجاعة التي ضربت لبنان وسوريا وفلسطين، وتلفت بشكل خاص الى التجار الذي أغنوا من الاحتكار، ولا تنسى الإشارة الى الحفلات الباذخة التي أقامها أهل المال، كعائلة سرسق، لأهل السلطة، مثل جمال باشا. وتتحدث بإيجاز عن سياسيي ذاك الزمن، وصعودهم، وتلفت الى ان خصوم السياسي السنّي الشهير سليم سلام، جد رئيس حكومة لبنان الحالي تمام سلام، كتبوا للقسطنطينية يشتكون ان سلام كان يوزع السكر الحكومي على أزلامه ومحاسيبه لضمان ولائهم.

وتعرج المؤرخة على أوضاع الجيش التركي، وتقول انه على الرغم من ان حكومة السلطنة كانت تصادر جزءاً كبيراً من المحاصيل للمجهود العسكري، الا أن الضباط كانوا غالباً يبيعونها في السوق السوداء لإثراء أنفسهم، حتى ان وزير الدفاع أنفر باشا سخّر أربعة آلاف عسكري للعمل في مزرعته في حين كان الجيش التركي يعاني من نسبة الفرار في صفوفه، والتي فاقت نصف مليون رجل.

وتقول فواز إن رعايا السلطنة أطلقوا على الحرب اسم "حرب الحفاة" لأن العسكر ذهبوا الى الجبهات من دون احذية أو معاطف أو تموين غذائي، فمات كثيرون من البرد والجوع، وراح الجيش التركي يغزو بلدات السلطنة الجائعة أصلاً، ويسطو على خيراتها. وكان التجار، إن رأوا العسكر يقترب، يقفلون مخازنهم ويلوذون بالفرار مع بضائعهم. كذلك، كان العسكر التركي يأمر أسرى التحالف بنزع ثيابهم واحذيتهم ليلبسوها بدلاً منهم، وكانوا يبحثون بين جثث جيوش الحلفاء عن حصص تموينية يقتاتون منها.

"المستقبل الموعود يبدو بعيداً جداً"، تكتب فواز. وتختم: "ان استخدام الماضي للمساعدة في الإضاءة على الحاضر والمستقبل، عملية ستستمر، لكن على المؤرخين ان يتنبهوا الى إسماع الأصوات الخافتة، وان يتأكدوا أن هذه الأصوات لا تسكتها طبول الحرب". 

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008