الثلاثاء، 10 مارس 2015

غالبيّة الأميركيين لا تستوعب الفرق بين سياسات الحكومة والكونغرس و «المركزي»

حسين عبدالحسين - واشنطن

في الولايات المتحدة سياستان، اقتصادية تقودها الحكومة والكونغرس عبر سياسات حوافز وضرائب وتشريعات، ومالية يقودها الاحتياط الفيديرالي المستقل في قراره عن الدولة. ويندر أن تفطن غالبية الأميركيين إلى الفرق بين الإثنين، إذ تفرد صفحات الإعلام المكتوب على سبيل المثال، صفحات ما تسميه أعمالاً، لكنها غالباً ما تدرج مقالات عن الاقتصاد في الصفحات ذاتها.

أما الإعلام المرئي والمسموع، فهو غالباً ما يقدم أرقام الاقتصاد الصادرة عن الوزارات، مثل نسب نمو الناتج المحلي والبطالة، ممزوجة بأخبار أسواق المال والأسهم من دون التمييز بين الإثنين.

لكن الفارق شاسع، وعلى رغم الارتباط الوثيق بينهما، يحدث بين الفينة والأخرى افتراق، إذ بالكاد بلغ النمو الاقتصادي الأميركي الصفر في الربع الأول من العام الماضي. فيما كانت أسواق الأسهم تحقق أرباحاً قياسية والعكس بالعكس، لأن إشاعات تؤدي إلى الإطاحة بالأسهم، على رغم متانة الأداء الاقتصادي في الفترة ذاتها.

ومنذ اندلاع الركود الكبير في أيلول (سبتمبر) 2008، أدى مجلس الاحتياط الفيديرالي دوراً لم يسبق لبنك مركزي أن اضطلع به، في وقت تخلّفت المصارف المركزية الأوروبية عن القيام بدور مشابه، ما دفع النمو الأميركي قدماً وأدى الى تأخير نظيره الأوروبي، حتى رأى المصرف المركزي الأوروبي أنه مجبر على اللحاق بخطوات سبقه إليها «المركزي» الأميركي بسنوات.

أما سبب الانخراط غير المسبوق للاحتياط الفيديرالي في مواجهة «الركود الكبير»، فيعود إلى طبيعة الركود الذي سببته أزمة مالية كانت في طور النشوء منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، إثر إلغاء إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون تشريعات كانت تمنع البنوك من استخدام أموال المودعين للمضاربة في أسواق الأسهم. ومنذ ذلك الحين، تتسابق البنوك والمؤسسات المالية وحتى الشركات الصناعية في سوق الأسهم تحقيقاً للربح.

وفي هذا السياق، قال الرئيس السابق لمجلس الاحتياط آلن غرينسبان في كتابه «المجازفة والطبيعة الإنسانية ومستقبل التنبؤ الاقتصادي»، إن «الوضع الأميركي قبل عام 2008 تحوّل إلى ما يشبه لعبة «الكراسي والموسيقى»، فراحت كل المؤسسات تضارب وخلقت فقاعة في سوق الأسهم. لكنها لم تخرج من اللعبة، على رغم إدراكها الأخطار، خشية تخلّفها عن تحقيق أرباح يخطفها المنافسون». واستمرت المضاربة والمجازفة إلى أن انفجرت الفقاعة، وتبين أن جزءاً كبيراً من الأرباح كان وهمياً.

عندما هدأ الوضع وطرحت المؤسسات أسهمها، تبين ألا أرصدة مالية حقيقية متوافرة لشراء هذه الأسهم، ما خلق أزمة سيولة ضخمة، فتدخل الاحتياط الفيديرالي وقدّم كميات من النقد حملتها شاحنات كبيرة الى أقبية البنوك في نيويورك، وضخّ نحو 15 بليون دولار، ساهمت في تضييق الهوة بين السعر الوهمي والنقد المتوافر للسعر الجديد لمنع الانهيار التام.

تلك كانت المرة الأولى التي يتخلى فيها «المركزي» الأميركي عن قلقه من التضخم، بعدما أمضى غرينسبان عقدين وهو يحاول مكافحته وإبقاءه في حدود 2 في المئة سنوياً، خوفاً من تكرار أزمة «الركود والتضخم» (ستاغفلايشن) التي ضربت البلاد في السبعينات.

بعد نجاح التجربة في وقف الانهيار التام، وجد الاحتياط الفيديرالي نفسه في موقع القادر على امتصاص ضربة «الركود الكبير» في شكل أوسع، فأعلن شراء سندات بمزيد من النقد المطبوع فيما عُرف بـ «التيسير الكمي». وفي وقت لاحق، حوّل الدفعات العشوائية إلى شهرية، ولم يتوقف البرنامج حتى تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بعدما راكم المصرف 4.5 تريليون دولار من الديون المكتتبة من محفظته.

أما الأداة المالية الثانية التي استخدمها «المركزي» الأميركي، فكانت أكثر تقليدية، وقضت بإبقاء الفائدة على السندات القصيرة الأمد في أدنى نسب ممكنة لتشجيع رأس المال على تفادي الإيداع والتوظيف في قطاعات من شأنها المساهمة في النمو.

وعلى مدى السنوات الست التالية لركود عام 2008، دأب مسؤولون في الاحتياط الفيديرالي على القول، إن لا إمكان لإعادة الاقتصاد الى النمو من طريق السياسة المالية وحدها، بل المطلوب أن تترافق مع سياسات اقتصادية. فراحت إذ ذاك الحكومة الأميركية بالتنسيق مع الكونغرس، تعمل على خفض عجز الخزينة السنوي بواقع الثلث، ورفع الضرائب وتشجيع الصناعة والتصدير. في وقت ساهم «التيسير الكمي» والفوائد المنخفضة في إبقاء سعر الدولار متدنياً عالمياً، ما شجّع الصادرات الأميركية وقلّص الواردات، تراجع العجز التجاري وساهم ذلك في مزيد من النمو.

ولم يساهم فائض النقد في نمو الصناعة والصادرات فحسب، بل دفع الشركات الى الاستدانة بسبب انخفاض الفائدة، لتسديد عائدات لأصحاب الأسهم. كما استخدم المضاربون «المال الرخيص»، وفق التعبير المتداول في أميركا، لتوسيع استثماراتهم في سوق الأسهم، ما رفعها الى مستويات لم تشهدها منذ التسعينات.

لكن ارتباط البورصة بالاقتصاد الأميركي اعتباطي في أحسن الأحوال، والأمثلة على ذلك كثيرة. إذ عندما استفحلت أزمة معارضة الجمهوريين رفع سقف الدَين العام الأميركي مهدِّدة واشنطن بالتخلّف عن دفع مستحقاتها بما في ذلك خدمة ديونها، انخفضت الأسهم الأميركية في شكل كبير بسبب التقارير السياسية. وطاول الانخفاض الفوائد على السندات في الوقت ذاته، فسحب المستثمرون أموالهم من البورصة وأقبلوا على شراء سندات حكومية بسبب خوفهم من الخلافات السياسية وثقتهم في الحكومة، على رغم أن الأزمة كانت حكومية. وكان مفترضاً سحب الدائنين أموالهم من السندات الحكومية، لاهتزاز الثقة في قدرة الخزينة على الوفاء بديونها، وإيداعها في البورصة فترتفع الأسهم.

ويعود ارتفاع الأسهم الأميركية في السنوات الماضية إلى تكاتف عدد من الأسباب، منها عودة الشركات الى تحقيق أرباح ما يدفع المستثمرين الى الإقبال على أسهمها. كما أدى توفير الاحتياط الفيديرالي «مالاً رخيصاً» بإبقائه الفائدة منخفضة، إلى رفع قيمة الأسهم.

لكن قوة الاقتصاد الأميركي والأسهم رفعت الإقبال العالمي على الدولار، ما أدى الى ارتفاعه الى مستويات قياسية لم يشهدها منذ 11 سنة. ومع ارتفاع قيمة الدولار، يُتوقع أن تتراجع الصادرات ويرتفع العجز التجاري ما يساهم في إبطاء النمو، أي مزيداً من التباطؤ للشركات وأسهمها في البورصة. وإذا قام المصرف المركزي برفع الفائدة، فقد يرى المستثمرون عائدات أكبر وأضمن في الإيداع والسندات، فيؤدي ذلك إلى ضمور في الاستثمار في الأسواق المالية وتالياً تراجعها، وهو مؤشر الى صحة الاقتصاد.

أما أن تتراجع المؤشرات الاقتصادية الأميركية وتنمو البورصة وحدها، فذلك مؤشر إلى فقاعة مشابهة لعام 2008، وهو تباين في حال حصل سيكون مصدر قلق لكثر، أولهم الاحتياط الفيديرالي الذي تساهم سياساته في رفع الأسهم الأميركية في الأساس، ما يعزز حتمية رفعه الفوائد لكبحها. ثم تدور العجلة الاقتصادية مجدداً بين ارتفاع وانخفاض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق