الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

لماذا تتخبّط سياسة أميركا في سورية والعراق؟


خمس وكالات حكومية أميركية على الأقل تقدم آراءها المختلفة حول ملفي سورية والعراق وكيفية التعاطي معهما. وتعمد كل من هذه الوكالات الى تحريض السياسيين المقربين منها لتبني رأيها، كما تلجأ الى تسريب المعلومات التي تدعم وجهة نظرها الى الصحافيين. اما النتيجة، فهي تخبط أميركي رهيب في السياسة تجاه الأزمتين السورية والعراقية. يترافق ذلك مع عناد قل مثيله للرئيس الأميركي باراك أوباما حول ضرورة إبقاء أي تدخل أميركي في الشرق الأوسط مقتصرا على الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في سورية والعراق، وحصر أي تدخل أميركي آخر بالجهود الديبلوماسية.

اما الوكالات الحكومية الأميركية الخمس فهي، حسب أهميتها ونفوذها داخل واشنطن، «مجلس الأمن القومي» الذي تترأسه مستشارة الأمن القومي سوزان رايس، «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي أي) برئاسة جون برينان، الجيش الأميركي ممثلا بقائد الأركان الذي تسلم منصبه للتو الجنرال جو دانفورد وقبله مارتن ديمبسي، وزارة الدفاع ممثلة بوزيرها آش كارتر، ثم وزارة الخارجية ممثلة بوزيرها جون كيري، وهي الأكثر ظهورا بين الأربعة والأقل تأثيرا بينهم في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

رايس ورئيس موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدنو هما الأكثر نفوذا عند أوباما، وهما، حسب العارفين، يعتقدان ان عليهما «حماية» الرئيس من التورط في مستنقعات خارجية مثل الحرب السورية، او التوغل أكثر في الحرب العراقية ضد «داعش».

داخل «مجلس الأمن القومي»، يبرز روب مالي الذي يتمتع بعلاقة مميزة مع الرئيس السوري بشار الأسد وسفيره السابق في واشنطن، والذي أصبح سفيره الى الصين، عماد مصطفى. ومالي هذا، ينحاز بشكل فاضح الى جانب الأسد منذ ان كانت واشنطن تفرض عزلة دولية عليه على إثر مقتل رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في العام 2005. وكان مالي من مهندسي فكرة «الانخراط مع الأسد» قبل العام 2001. بعد ذلك، تحول مالي الى مدافع عن بقاء الأسد، متبنيا روايته للأحداث والقائلة بأن انهيار النظام سيسمح حتما للإرهابيين بالسيطرة على دمشق وعموم البلاد وتحويلها الى بؤرة ينطلق منها الإرهاب نحو أوروبا والعالم.

في وكالة «سي آي أي» برينان، ضابط الاستخبارات السابق الذي عمل كمستشار لشؤون الإرهاب اثناء الولاية الأولى لأوباما، ثم تسلم منصبه في الوكالة خلفا لـ «بطل حرب العراق» ديفيد بترايوس.

وكان بترايوس، الى جانب وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون والدفاع ليون بانيتا، تبنوا فكرة تدريب وتسليح «الجيش السوري الحر» في الأشهر الأولى من الحرب التي شنها نظام الأسد ضد المتظاهرين والمعارضين لبقائه في الحكم. وقال الثلاثة وقتذاك لأوباما ان عدم بروز قوة معتدلة مسلحة تنافس الأسد سيخلي الساحة لبروز قوى إرهابية متطرفة، وهو ما حصل فعلا.

هكذا، ورث برينان من بترايوس برنامجا «محدودا» قامت خلاله الوكالة بتدريب بعض المعارضين السوريين وتوزيع الوجبات الجاهزة للأكل ووسائل التواصل العسكرية عليهم. وكان رأي بترايوس ان انخراط أميركا مع الثوار في وقت مبكر من شأنه ان يسمح للاستخبارات الأميركية بان تبقي عيونها مفتوحة بين الثوار حتى تحدد المعتدلين من المتطرفين منهم.

لكن برينان، الذي أشرف اثناء عمله في البيت الأبيض على برنامج الشراكة لمكافحة الإرهاب مع الحكومة اليمنية، وهو برنامج انهار كليا مع اجتياح قوات الحوثي العاصمة صنعاء، لم يتابع برنامج بترايوس لتسليح ثوار سورية، واعتبر ان برنامجا من هذا النوع لا يجب ان يكون سريا، بل يجب ان يتحول الى برنامج علني بتمويل وموافقة الكونغرس، لرفع المسؤولية عن الرئيس والإدارة.

في الجيش الأميركي، برز قائد الأركان السابق الجنرال مارتن ديمبسي الذي اشتهر بقوله ان مصلحة الولايات المتحدة هي في استمرار الحرب «بين القاعدة وحزب الله» داخل سورية. لكن مع انهيار القوات الحكومية العراقية وسيطرة «داعش» على الموصل، انقلب موقفه، وقام بالتسلل الى الليموزين الرئاسية، واقنع أوباما بضرورة تدخل أميركا لوقف زحف «داعش» نحو أربيل وبغداد. وهكذا كان.

واعتبر ديمبسي ان الحجر الأساس في الحرب الدولية ضد «داعش» هو إعادة تشكيل «قوات الصحوات» العراقية تحت اسم «الحرس الوطني» المؤلف من عشائر غرب العراق. لكن رئيس حكومة العراق حيدر العبادي قال لأوباما ان أي قوة من هذا النوع تزعزع موقعه امام إيران وحلفائها في العراق، فتراجعت واشنطن.

ومع قرار تدريب قوات عراقية، وجد برينان الفرصة مناسبة لنقل برنامج تدريب المعارضة السورية من الوكالة الى الجيش، ممثلا بالجنرال مايك ناغاتا الموجود في الدوحة. لكن البرنامج تعثر لأسباب متعددة، وتحول الى مادة للتندر.

ديمبسي لم يحاول اقناع أوباما بالضغط على العبادي لإنشاء القوة العراقية السنية لمكافحة «داعش». ويعتقد كثيرون ان تراجع ديمبسي يرتبط بالعلاقة المتوترة بين أوباما وعسكره، فالرئيس الأميركي يتدخل في شؤون الجيش أكثر من المعهود، ويرفض منح قيادته كل طلباتها، فيمنحهم مثلا نصف عدد القوات التي يطلبونها في أفغانستان، ويحدد مدة وجودهم على عكس نصيحة الجيش، ويرفض انخراط المستشارين الاميركيين في العراق على مستوى كتيبة لتحديد اهداف «داعش» للمقاتلات الاميركية، ويصر على إبقاء هؤلاء المستشارين في المقرات المحصنة. على أن أوباما غالبا ما يتراجع، ولكن بعد فوات الأوان.

مركزية أوباما الحديدية، وانعدام خبرته في السياسة الخارجية وتردده، ورفضه مقترحات كبار ضباطه، واتخاذه قرارات متأخرة، فضلا عن انخراط وكالات أميركية متعددة ومسؤولين متعاقبين بآراء مختلفة حول كيفية التعاطي مع الأزمتين السورية والعراقية، كلها انتجت واحدة من أكثر السياسات الخارجية الأميركية تخبطا منذ زمن بعيد. اما النتائج السلبية لسياسة أوباما الخارجية، يعتقد كثيرون، فبادية للعيان ولا تحتاج الكثير من التمحيص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق