الجمعة، 21 أكتوبر 2016

«تثبيت الحقائق» يُعيد إعلام أميركا إلى دوره... كسلطة رابعة

| واشنطن - من حسين عبدالحسين |

في كراسات العلوم السياسية حول العالم، ان الإعلام يلعب دور السلطة الرابعة في صناعة الرأي العام ومراقبة اداء السلطات الثلاث للدولة: التنفيذية والتشريعية والقضائية. لكن دور الاعلام الرقابي عانى من نكسات، فحكومات كثيرة عمدت اما الى ترهيبه او الى شرائه. وفي حالة الولايات المتحدة، قامت مجموعات الضغط المعروفة بـ «لوبي» بشراء ولاءات مؤسسات اعلامية كثيرة، عبر المساهمة المالية في موازنات هذه الوسائل، ما يجعل بعض الاعلام - مثل شبكة «فوكس نيوز» - مستندة في ديمومتها الى عطاءات اعمدة اليمين الاميركي من المتمولين او اعلانات مؤسساتهم الضخمة، ما يمنع الشبكة بدورها من انتقاد المواقف السياسية لهؤلاء. والامر نفسه تعاني منه قناة «ام اس ان بي سي» اليسارية، او المواقع الاعلامية مثل «برايتبارت» اليميني و«تي بي ام» اليساري.

لكن دورا جديدا بدأت تتسابق على لعبه المؤسسات الاعلامية الاميركية هو دور «تثبيت الحقائق»، وهو ما بدأ العام 2007 كزاوية تابعة لخبر ما تقيّم صحة ادعاءات تصريحات السياسيين، وخصوصا المرشحين. وكان اول من برعوا في هذا الدور الاعلامي في صحيفة «واشنطن بوست» غلين كسلر، الذي راح يختار تصريحات سياسي معين كل اسبوع، ويخضعها لعملية فحص لتثبيت صحتها من زيفها، ثم يصدر حكمه على شكل منحه «بينوكيو» او اكثر للسياسي.

و«بينوكيو» هو الشخصية الكارتونية المصنوعة من خشب، والذي يتمدد انفه مع كل كذبة يطلقها. هكذا، راح كسلر يعطي درجات تتراوح بين «بينوكيو» واحد للتصريح الذي يحمل القليل من المواربة، واربعة «بينوكيو» للتصريح الذي يجافي الحقائق بالكامل. وحقق كسلر شعبية واسعة، فحذت حذوه مواقع اعلامية ندرت نفسها لهذه العملية، ابرزها اليوم موقع «بوليتي فاكت» او «الحقائق السياسية»، وهذا يمنح بدوره ثلاث درجات للتصريحات: حمراء اي خطأ كامل، وصفراء، اي خليط من الخطأ والصحيح، وأخضر، اي تصريحات صادقة تتطابق مع الحقائق.

وتضاعفت اهمية هذه الصفحات والمواقع الاعلامية بأشواط مع اطلالة رجل الاعمال دونالد ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. وترامب غالبا ما يطلق كميات هائلة من الاقوال الزائفة، لكنها اقوال تلاقي رواجا لدى متطرفي الحزب من اليمينيين الذين يصدقونها من دون حاجتهم الى التحقق من صحتها.

وتحولت اكاذيب ترامب الى عالم قائم بذاته، فارتفعت اهمية كسلر و«بوليتي فاكت» الى حد دفع الشبكات التلفزيونية الى خلق فقرات موازية على شكل متخصصين يطلّون عبر الشاشة فيقدمون ادعاءات السياسيين، حسب تصريحاتهم، ويفندونها ويظهرون الصحيح منها من المزيف.

وبسبب امعان ترامب في اكاذيبه، دعت منافسته المرشحة الديموقراطية للرئاسة هيلاري كلينتون «مثبتي الحقائق» الى فحص اقواله. وفعلت كلينتون ذلك امام عيون عشرات ملايين الاميركيين الذين تسمروا امام الشاشات لمشاهدة المناظرات الرئاسية الثلاثة. وبسبب رواج عملية «تثبيت الحقائق» بين الناخبين الاميركيين، اشتعلت مواقع التواصل الاميركية بتغريدات هؤلاء الباحثين الاعلاميين في وقت المناظرات الفعلي، وهو ما حمل شبكة «سي ان ان» على بث شريط «تثبيت الحقائق» على الشاشة في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه المرشحان.

وقبل موعد المناظرة الرئاسية الثالثة بساعات، كتب الباحث الصحافي دانيال دايل على موقع «بوليتيكو»، ان التحقق من اقوال ترامب تحول الى مهنة مستقلة بذاتها بالنسبة اليه، وانه «على مدى الايام الـ 33 الماضية، أدلى ترامب بـ 253 كذبة».

وتتراوح اكاذيب ترامب بين ادعائه ان كلينتون تهدف الى «فتح الحدود مع دول الشرق الاوسط لادخال كل اللاجئين العرب المسلمين الى اميركا»، وقوله ان وزراة الخارجية عرضت على «اف بي آي» عدم تصنيف احد ايميلات كلينتون على انه سري، مقابل منح الوزارة منصبين للـ «اف بي اي» في البعثة الديبلوماسية في بغداد، وهو ما نفته الوزارة والـ «اف بي آي».

ويقول دايل ان لكلينتون لحظاتها التي تطلق فيها تصريحات تجافي الواقع، لكن ترامب هو في عالم آخر بسبب كمية الاكاذيب التي يطلقها في كل اطلالة. ويتابع دايل ان كلينتون، على غرار بقية السياسيين، غالبا ما تحاول التلاعب بالكلام، وتتراجع اذا ما انتقد قولها مثبتو الحقائق.

لكن ترامب لا يهتم ولا يتراجع، بل ان مؤيديه شنوا هجوما على دايل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ووجهوا اليه شتى الاتهامات، وكأنه لا يهمم الصح من الخطأ، بل ان كل ما يهمهم هو ان يقول ترامب ما يرضيهم، ان كان ذلك حقيقيا ام مزيفا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق