السبت، 18 مارس 2017

"التقليديون" من بعلبك إلى ألبي

حسين عبد الحسين

في ظاهرها تبدو فورة لليمين المسيحي في الولايات المتحدة وأوروبا، وتبدو ردة فعل ضد الاسلام السياسي المتطرف وتوافد اللاجئين. بريطانيا خرجت من اوروبا ونصّبت يمينها حاكما، وأميركا انتخبت دونالد ترامب، غير الموزون، رئيسا، والعنصرية مارين لوبن تتصدر استطلاعات الرأي مع الاقتراب من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وغيرت ويلدرز المعادي للمسلمين يتصدر في هولندا، فيما تخشى المستشارة الالمانية انجيلا ميركل من مفاجأة يمينية تطيح بها وبالاتحاد الاوروبي وبما تبقى من "تحالف الأطلسي". لكن الغالب ان ما يشهده العالم ليس صعود اليمين المسيحي المتطرف ردا على نظيره الاسلامي، بل هو جزء من الاهتزاز الذي يرافق مسار التاريخ، وهو اهتزاز قديم قدم الحضارة الانسانية، ويسير على الشكل التالي: تراكم مجموعة بشرية علوما وتحديثات تسمح بتعديل طرق معاشها، وتفرض استبدال السائد من الانماط الاقتصادية، وتاليا الاجتماعية والسياسية، بأخرى جديدة. عملية التغيير هذه لا تتسع لكل المجموعة البشرية، فينتفض من يبقى خارج مسار التغيير، ويعيق عملية التقدم، ولكنه بانتفاضته ينضم للعملية التغييرية ويصبح جزءا من "المؤسسة الحاكمة"، فتستأنف عملية التطور مسارها، الى ان تخرج مجموعة جديدة ممن لم تتسع لهم العملية وتنتفض مجددا، وهكذا دواليك، يتأرجح المسار التاريخي بين تطور يقوده تقدميون واعاقة يفرضها المحافظون.
السنوات الثلاثون المجيدة (١٩٤٥ - ١٩٧٥)، بحسب ما يسميها الفرنسيون، هي التي تلت الحرب العالمية الثانية، والتي تخللتها بحبوحة اقتصادية عالمية وانتشار للتطور في الانماط، بما فيها الاجتماعية، حول العالم. لم تكد هذه الحقبة تنتهي حتى كان الشرق الاوسط اول منطقة في العالم ممن يثور فيها "التقليديون". في السعودية، انتفضوا ضد "البدع"، بما فيها ضد افتتاح التلفزيون الرسمي، وهو ما ساهم في مقتل الملك الفيصل بن عبدالعزيز.
في العام ١٩٧٩، انتفض الايرانيون واطاحوا بالشاه، وفرضوا نظاما اجتماعيا محافظا ربطوه بالتعاليم الاسلامية بحسب المذهب الشيعي. في العام نفسه، احدث المحافظون المتطرفون اهتزازا في السعودية باحتلالهم الحرم المكي. لم تتراجع الرياض امام المتطرفين، لكن الجو السائد، في السعودية كما في باقي الدول العربية والاسلامية، أخذ في الاتجاه نحو اليمين والأسلمة واحيانا التطرف. ومن يطالع صور افغانستان او ايران او مصر، ويقارنها مع صور اليوم، لا بد ان يلاحظ المسافة الشاسعة التي قطعتها مجتمعات هذه الدول برفضها الحداثة وعودتها الى التقاليد بشكلها الديني.
في الغرب، قاد اليمين ثورة تصدرها المحافظان، الاميركي رونالد ريغان والبريطانية مارغريت تاتشر. لكن الثورة الغربية اصطدمت بحواجز مؤسساتية ومصالح مالية، فصعد "الحزام الانجيلي" في الولايات المتحدة، من دون ان يؤدي ذلك الى تغيير يذكر في عملية التطوير العلمية والاقتصادية والاجتماعية. ثورة ريغان وتاتشر لم تنجح في وقف عملية التمدين المستمرة وافراغ القرى والارياف، مع ما يعني ذلك من زيادة السخط لدى الريفيين، المحافظين عادة، ضد المدينيين، الاكثر تقدمية وتحررا.
اخيرا ، نشرت "نيويورك تايمز" مقالة عن بلدة ألبي، جنوب فرنسا، والتي يبلغ عدد سكانها ٥٠ الفا. فحوى المقالة ان المدينة تفرغ من سكانها، وان محالها التقليدية، مثل البقّال والخبّاز وبائع الجبنة والمقاهي، أقفلت جميعها، وان البلدة تحولت الى قرية مقفرة. وتشير المقالة الى ان السكان انتقلوا في غالبيتهم الى ضواحي البلدة، حيث تم افتتاح مجمّع تجاري في العام ٢٠٠٩، يقدم كل انواع الخضار والخبز والجبنة والمقاهي. الفرنسيون، مثل باقي الشعوب، يسعون الى التطور والتحديث، ولكنهم في الوقت نفسه يشعرون بضياع "الاسلوب الفرنسي" في الحياة الممتعة. هؤلاء الفرنسيون النادمون على فقدان اسلوب حياتهم وتقاليدهم هم الذين يؤيدون لوبن.
ظاهرة تطور البلدات ليست جديدة، ولا ترتبط بالعولمة. من يطالع صور بيروت مطلع القرن قد يخالها بقعة مختلفة من العالم عن بيروت اليوم. البلدات اما تتحول الى مدن، وهو ما يحصل في غالبية الدول العربية بسبب كثافة السكان، او تموت، وهو ما يحدث في معظم ريف أميركا - الذي انتخب ترامب - وبعض مناطق اوروبا.
في بعلبك، كانت الطريق التي تربط الطاحونة بالبياضة، نبع نهر رأس العين، طريقا خلابة يسوّرها شجر الحور، ويمر بجانبها النهر الذي يمكن المشاة سماع خريره. على ضفة النهر كانت مقاه تفوح منها رائحة التبغ العجمي من نراجيل المرتادين. اليوم، بلّطوا فوق النهر، الذي جفّ اصلا، وتحول الطريق القديم الى غابة اسمنتية وشارع مكتظ. بعلبك تحولت من بلدة تاريخية، تشبه قرى مسرحيات فيروز، الى مدينة ينتقل اليها أهالي القرى المحيطة بها.
في الولايات المتحدة، ينتفض من يطلقون على انفسهم سياسيا اسم "تقليديون"، من امثال مستشار ترامب للشؤون الاستراتيجية ستيفن بانون. والأخير، الذي يتحدث عن "اقتصاد قومي" بدلا عن اقتصاد أميركا الحالي المعولم، لا شك انه يتأثر بكتابات الايطالي جوليان ايفولا، الذي ألهمت كتبه صعود الفاشية في اوروبا مطلع القرن الماضي.
كالتقليديين في ايران او العالم العربي ممن يحاربون "البدع"، يدعو "التقليديون" في اوروبا واميركا وروسيا الى مواجهة العولمة، والحفاظ على التقاليد، وعلى القرى الصغيرة التي يعرف اهلها بعضهم البعض و"يخافون الله". كما يدعو تقليديو أميركا واوروبا الى الحفاظ على نقاء العرق الوطني، وصفائه من الوافدين ومن عاداتهم التي تفسد الحضارة الغربية، التي يعتقدها هؤلاء سبب تفوق الغرب منذ صعود اليونان حوالى القرن الخامس قبل الميلاد. هي محاولات تتكرر منذ فجر التاريخ. يحاول نفر الوقوف في وجه التطور التاريخي عنوة، مثلما فعل الامبراطور الروماني جوليان، المعروف بالمرتد، مطلع القرن الرابع الميلادي، عندما اعاد الامبراطورية من المسيحية الى الوثنية، ولكنها عودة دامت أقل من سنتين، وانهارت مع موته، واستأنفت المسيحية انتشارها. كما جوليان المرتد، كذلك في ايران وأميركا وهولندا، قد ينجح "التقليديون" في منع التطور وفي التمسك بالماضي وعاداته. لكن نجاحاتهم ستقتصر على حقبات زمنية قد تطول او تقصر، وهي نجاحات لم يسبق ان دامت او نجحت في اعادة عقارب الزمن الى الماضي العظيم المتخيل.

واشنطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق