الأربعاء، 17 يناير 2018

عن مارتن لوثر كينغ وحلمه

حسين عبدالحسين

بعد خمسين عاماً على مقتله على يدي متطرف من البيض، احتفلت الولايات المتحدة بالذكرى الـ89 لميلاد القس مارتن لوثر كينغ الابن. والذكرى هي يوم عطلة رسمي في البلاد تكريماً للرجل الذي تحول الى ايقونة النضال السلمي والحقوق المدنية.


ويمكن تلخيص نضال القس، المعروف اليوم بـ"إم إل كاي" اختصاراً، بخطابه الشهير "لديّ حلم"، الذي أدلى به في العاصمة الأميركية العام 1963 أمام تمثال بطل تحرير العبيد الرئيس ابراهام لينكولن. 

واختيار كينغ عنوان "لديّ حلم" كان تماهياً مع مقولة الحلم الأميركي، وهو الحلم الذي دفع الناس من أرجاء المعمورة الى الهجرة الى الولايات المتحدة سعياً إلى حياة أفضل لهم ولأولادهم، وطلباً للحرية من الطغيان، والعيش الكريم في سعادة وبحبوحة.

الأميركيون من ذوي البشرات الداكنة هم وحدهم من لم يفدوا أميركا بملء ارادتهم، بل اقتيدوا في إغلال من القارة الإفريقية، ليعملوا في مزارع التبغ والقطن، في ظروف معيشية تشبه ظروف الماشية والدواب، رغم أن الوثائق المؤسِّسة لقيام الجمهورية، خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تبنت مبادئ التنوير، خصوصاً لناحية الحرية الفردية.

بعد أقل من 75 عاماً على قيام أميركا، انقسمت البلاد بين شمال صناعي أراد تحرير العبيد، وجنوب زراعي رأى في تحريرهم تهديداً لاقتصاده، فانفصلت الولايات الجنوبية عن الفيدرالية، وأسست كونفيدرالية لا تلتزم بقرار الشمال إنهاء العبودية، وكانت الحرب الأهلية التي انتصر فيها الشمال، وأعاد وحدة البلاد، وحرر العبيد.

لكن حرية الأميركيين من أصول إفريقية لم تعن لغالبية البِيض، جنوبيين كانوا أو شماليين، اختلاطاً حتمياً بين العبيد السابقين وأسيادهم. فمنع البِيض الاختلاط، وأجبروا السُّود على الانكفاء الى مناطق مخصصة لهم، تحولت إلى أحزمة فقر وبؤس. أما الأسباب التي ساقها البِيض للحفاظ على الفصل العنصري، فكانت أبرزها عبارة "متساوون لكن منفصلون"، وثانيها أن حرية البِيض لا تجبرهم على الاختلاط مع السود.

هكذا، أمضت الولايات المتحدة القرن التالي لحربها الأهلية وهي تعيش في ظل توتر عنصري، تَوَّجَه كينغ بحركة التمرد السلمي والمطالبة بالحقوق المدنية، الى ان نجح في حمل الرئيس ليندون جونسون، خلال النصف الثاني من الستينات، على إصدار مرسوم الحقوق المدنية والمساواة.

على أن السود، كما معظم حركات "الحقوق المدنية" في الولايات المتحدة اليوم، ترفع مطالب مناقضة لأهداف كينغ، على الرغم من تنصيبه أيقونة لنضالها. ذلك أن "إم إل كاي" لم يطالب بتعويضات عن العبودية، ولا هو طالب بمعاملة خاصة لمجموعة السود، ولا هو سعى الى تكريس هوية إفريقية منفصلة عن الهوية الأميركية كما كرّسها المؤسسون البِيض. بل إن كينغ تمسك، في خطابه "لديّ حلم"، بأبرز مبادئ الجمهورية، خصوصاً المساواة، وشعار "الحياة والحرية والسعي الى السعادة" الوارد في "إعلان الاستقلال". 

مع بداية عقد السبعينات، المعروف بين الأميركيين بـ"عَقد الأنا"، بدأت المجموعات الأميركية المختلفة تسعى إلى تكريس هويتها وإعادة تقديم تراثها كما تتخيله. هي العودة إلى الجذور الإيطالية التي أعطت العالم فيلم "العرّاب" الشهير، وهي العودة الى الجذور التي أعادت تسريحة الشعر المعروفة بـ"آفرو" بين السود، ودفعتهم إلى أن يطلقوا على أنفسهم تسمية "أفارقة أميركيين"، وتبني أزياء ملونة على الطراز الإفريقي.

وفيما راحت الأقليات تعود إلى جذورها، عاد البِيض الى المسيحية كعنصر رئيس في هويتهم، فكان "الحزام الإنجيلي" الذي يمتد عبر الولايات الجنوبية المحافظة. ومع عودة هذا "الحزام"، كانت عودة الى المطالبة بانفصال الجنوب، وإعادة الفصل العنصري، قبل ان يكتسح رونالد ريغان و"النيوليبرالية" الاقتصادية الثمانينات، وتفوز أميركا في الحرب الباردة، و"ينتهي التاريخ" بحسب فرانسيس فوكوياما، وهو تاريخ يبدو انه انتهى مع الانهيار المالي في البلاد في خريف 2008.

منذ ذلك التاريخ، سعت الولايات المتحدة إلى إعادة تعريف نفسها. الأقليات، التي تسمي نضالها دفاعاً عن "الحقوق المدنية"، لا تشبه كينغ كثيراً، بل هي تشبه المحاصصة الطائفية في لبنان والعراق. إذ تطالب الأقليات المكونة للحزب الديموقراطي — وأحدثها مجموعة الأميركيين المسلمين الصغيرة جداً — بحصص مكفولة لها، بغض النظر عن الكفاءة، تعويضاً عن ماض جائر بحقها ولتحسين أوضاعها امام البِيض. 

أما البيض، فيعتبرون أنفسهم "حماة الجمهورية" والمساواة، لكنها جمهورية كما يُخيّل إليهم أنهم صنعوها. جمهورية مبنية على المبادىء "يهو-مسيحية"، حيث المساواة لا تعني مساواة للمثليين جنسياً، ولا لغير المسيحيين، ولا لغير البِيض.

احتفلت أميركا بمارتن لوثر كينغ، وما أحوجها إليه اليوم، على الأقل كي ينتزع أسطورة المساواة في الحقوق المدنية من أيدي اصحاب المحاصصة، وكي يذكّر البِيض بالمبادئ التي قامت عليها الجمهورية أصلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق