الثلاثاء، 12 يونيو 2018

عن القدس ويومها

حسين عبد الحسين

خصص مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي 19 من 25 تغريدة بثها منذ بداية الشهر الحالي للموضوع الفلسطيني، ذيل معظمها بهاشتاغ "سنصلي في القدس"، و"مسيرة العودة". وقال فيها إن السبيل الوحيد للتسوية هو "المقاومة" وصواريخها. وفيما يبدو رفعا للعتب، قال خامنئي إن بلاده قدمت في الماضي للأمم المتحدة اقتراح إجراء استفتاء يشمل "السكان الأصليين" لفلسطين، التي اعتبر أن أرضها تمتد "من النهر إلى البحر".

فلنفترض جدية المرشد ونعتبر أنه منفتح على نقاش حول الموضوع. أولا، من المفارقات أن خامنئي يتمسك باتفاقية "سايكس بيكو" البريطانية الفرنسية التي رسمت حدود دول المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، ففلسطين، مثل لبنان وسورية والعراق والأردن، أبصرت النور كدولة بشكلها الحالي بموجب هذه الاتفاقية وكانت قبل ذلك ولايات عثمانية بلا سيادة عربية أو محلية، وعبارة "من النهر إلى البحر" هي فلسطين بالضبط كما رسمتها الكولونيالية.

هو تاريخ يقدمه الإيرانيون للعرب، يحددون فيه أي من مدن العرب مقدسة وأي منها تجوز إبادتها

ثانيا، إذا كان المرشد يعترف بالأمم المتحدة ومرجعيتها، فلا بد له من الاعتراف بالقرارات الصادرة عنها، منها قرار تقسيم فلسطين التاريخية وقبول عضوية إسرائيل في المنظمة الدولية المذكورة.

ثالثا، إذا كان خامنئي من المتمسكين بالاستفتاءات بإشراف الأمم المتحدة للوقوف على رأي الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها، فما المانع أن يسمح المرشد للأمم المتحدة في إجراء استفتاءات مشابهة في محافظات إيران الـ31، خصوصا المحافظات ذات الغالبيات الكردية والعربية والبلوشية، بدلا من أن تقوم قوات الأمن الإيرانية بضرب وسجن وتعذيب المتظاهرين العرب الإيرانيين الذين يطالبون بحرية تعليم أولادهم العربية في المدارس؟ وهل يقبل خامنئي وقف عمليات التغيير الديموغرافي التي تشرف عليها "الجمهورية الإسلامية" في الأحواز وبلوشستان وكردستان، كما في ضواحي دمشق وحمص السوريتين؟ وهل يوافق خامنئي على إجراء الأمم المتحدة استفتاء لسكان سورية "الأصليين" حول رئاسة بشار الأسد في سورية؟

اقرأ للكاتب أيضا: من انتصر في أزمة الخليج؟

خامنئي لا يتوخى الدقة ولا العدالة، بل إن النظام الإيراني دأب على تقديم صورة عن الوضع الفلسطيني تخفي خلفها عورات طهران وسياساتها وممارساتها، وتسعى لتشتيت الانتباه بتصوير الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المعقد وكأنه بسيط، فيه أشرار، هم أميركا وإسرائيل والسعودية وباقي العرب، وأبطال، أي إيران والميليشيات الموالية لها في عموم منطقة الشرق الأوسط.

لكن الدعاية الإيرانية هي مجرد دعاية سياسية، يختلط فيها الديني بالتاريخي بالسياسي، فتقدم طهران رواية متخبطة عرجاء تشبه تغريدات المرشد في تناقضاتها، بعضها ورثها خامنئي من الخطاب العربي الذي يخلط في الغالب العروبة بالإسلام.

في تاريخ العرب، لا أهمية للقدس خارج الأدب الديني الأسطوري. حتى الرواية الدينية حول القدس ضعيفة، فآية "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى" تفتقد الدلالات الجغرافية، ويمكن أن يكون المسجدان في أي مدينتين أو حتى في مدينة واحدة، خصوصا إذا ما اعتبرنا أن نزول الآية سابق للوجود العربي في القدس بأربع سنوات، في أقل تقدير، أي أنه لم يكن في القدس مسجد كمثل الذي تشير إليه الآية.

والتشكيك في ارتباط القدس بالإسراء لا ينتقص من المساهمة العربية ـ غير الإسلامية بالضرورة ـ في تاريخ هذه المدينة، إذ أن أول أثر تاريخي عربي، أي مسجد قبة الصخرة، بناه "أمير المؤمنين" الأموي عبد الملك بن مروان في تسعينيات القرن السابع الميلادي، وزين داخله بآيات حول المسيح، تختلف قليلا عن صيغتها القرآنية الحالية. على أن هذه الحقيقة التاريخية لا تبرر الأساطير التي تلتها حول التاريخ الإسلامي للمدينة، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن ذروة التزوير العباسي للتاريخ العربي والإسلامي طالت القدس، مثل في قيام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد بنقش اسمه كباني المسجد بدلا من عبد الملك.

خارج الأساطير الدينية، لم تلعب القدس دورا يذكر في تاريخ المسلمين أو العرب. فالقدس لم تكن يوما عاصمة لأي من الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة، للأمويين والعباسيين والفاطميين والمماليك والعثمانيين، ولا حتى السلالات الصغيرة المحلية العربية أو الإسلامية. ولم تكتسب المدينة أهمية إلا مع سعي الصليبيين للسيطرة عليها، وبعد رحيل هؤلاء، لم يولها العثمانيون أو العرب أهمية تذكر، مثل مكة التي كان يرسل إليها سلطان اسطنبول سنويا كسوة على محمل، تتوقف في مدن عربية على الطريق مثل دمشق فتقام فيها احتفالات التكريم والتفخيم، وهو التقليد الذي استوحى منه السوريان فريد الأطرش واخته اسمهان أغنية في مديح المحمل، مطلعها التالي: "عليك صلاة الله وسلامه، شفاعة يا جد الحسنين، دا محملك رجعت إيامه".

اقرأ للكاتب أيضا: فتوى مقاطعة محمد صلاح

حمص، مثلا، مدينة أباطرة الرومان من سلاسلة سبتيموس سيفرس (أواخر القرن الميلادي الثاني وأوائل الثالث)، المدينة التي استضافت مقاما فيه حجر أسود مقدس، كالذي في مكة، والمدينة التي تقول الأسطورة إنها تحتضن رفات "سيف الله المسلول" وقائد فتوحات المسلمين خالد بن الوليد، مدينة لم يبق فيها حجر على حجر بفضل إيران وحليفها بشار الأسد والميليشيات الموالية لها. لم يوقف تاريخ المدينة حلفاء إيران من هدمها على رؤوس ساكنيها، ومع ذلك، لم تزعج إبادة حمص مرشد الثورة الإيراني.

هو تاريخ يقدمه الإيرانيون للعرب، يحددون فيه أي من مدن العرب مقدسة وأي منها تجوز إبادتها، ويحدد فيه الإيرانيون للعرب مواقيت الصلاة ومواقعها، ويحددون شكل العبادة والحياة والأصدقاء والأعداء.

لكن يوم القدس ليس اليوم الذي يصلي فيه العرب خلف الطغاة من رجال دين، بل هو اليوم الذي يتحررون فيه منهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق