الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

رسالة إلى صديقي اليهودي العراقي

حسين عبدالحسين

عزيزي إدوين، تحية وأشواق؛

مر زمن على لقائنا الأخير، يوم تحدثنا عن العراق، وتاريخه، والرحيل عنه. الأسبوع الفائت، شاهدت وثائقيا عرضه التلفزيون الألماني حول يهود العراق، وتظهر أنت في زيارة للمنزل الذي نشأت فيه في بغداد، ثم وأنت تشتري منزلا في كردستان، وتصر أنك لن تربي أولادك على أنهم من شمال لندن، حيث تقيم، بل إنك ستقول لهم إنهم من العراق، الذي يحتضن رفات أجدادهم منذ ألفي سنة وأكثر. شاهدتك تزور الكنيس في بغداد. تجلس فيه، وتدمع عيناك.

لكني أقول لك، صديقي إدوين: لا تخل أن العراق وباقي دول العرب ضاقت باليهود وحدهم وأخرجتهم من ربوعها. أنا لست يهوديا، ولكني مثلك، جذوري عراقية ضاربة في الكاظمية والكرخ، ورفات أجدادي في النجف. أنا مثلك أيضا، خرجت وعائلتي من العراق فرارا. رفض والدي القتال في حرب دموية أشعلها غرور الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وأكملها اعتقاد روح الله الخميني أنه ظلّ الله على الأرض.

لا تخل أن العراق وباقي دول العرب ضاقت باليهود وحدهم وأخرجتهم من ربوعها

أثناء إقامتنا في المنفى، منع صدام السفر من وإلى العراق. توفيت جدتي. لم نحضر دفنها. توفي جدي. لم نحضر دفنه. تزاوج أقاربنا، وأنجبوا، ونحن لا نسمع أخبارهم. كانت الرسائل من وإلى العراق مراقبة وصعبة، وكذلك الاتصالات الهاتفية. ابتكر أقاربي كل أنواع الأكاذيب للتستر على هوية صاحب بيتنا، أي أبي، فصدام وعد بمصادرة أملاك المتخلفين عن الخدمة العسكرية والمهاجرين، ومصادرة المنازل التي استهواها ولده الأرعن عدي.

في لبنان، بلد أجدادي لأمي الذي كبرت فيه، بقيت غريبا، فالعرب، وأولهم اللبنانيون، لا يكنّون بالأم. قضينا سنواتنا الأولى نعاني من رهاب استخبارات حافظ الأسد السوري، عدو صدام. ثم تصالح صدام والأسد، وعادت سفارة العراق إلى بيروت، فصرنا نعيش في رهاب استخبارات صدام.

اقرأ للكاتب أيضا: لبنان السيادة والنفايات

عشية إعادة انتخاب صدام بنسبة مئة في المئة، قبل الحرب التي أطاحت به بقليل، خابرني سفير العراق في بيروت. أخبرني أني سأزحف في اليوم التالي إلى السفارة للمشاركة في "يوم الزحف الكبير". رحت. وقفت. قال لنا عناصر الاستخبارات الذين يتظاهرون أنهم ديبلوماسيون: "الإخوان ممن يرغبون بالاقتراع سرا، أكو هنا ستارة". لم يجرؤ أي منا، من عراقيي لبنان، الاقتراب من الستارة. كلنا كتبنا نعم لصدام، وأريناها بعضنا للآخر، وتظاهرنا بفرح غامر. ثم قام أحدنا، وصرخ أنه دفاعا عن منجزات ثورتنا المجيدة، يعلن فتح باب التطوع للعودة إلى العراق والقتال. كتبت اسمي كالآخرين، وتواعدت معهم على فداء صدام بأرواحنا ودمائنا.

خرج اللبنانيون وبعض العرب إلى الشوارع يعارضون الحرب الأميركية للإطاحة بصدام. بعضهم كان من أصحاب المصالح المباشرة ممن يتقاضون كوبونات النفط من صدام، وبعضهم من معادي الغرب والإمبريالية ومشعوذي فلسطين والقضية. يوم لفّ الجنود الأميركيون رأس تمثال صدام في ساحة الفردوس بالعلم الأميركي وأسقطوه مع عراقيين، نشرت أول مقالة لي في "نيويورك تايمز"، وعنونتها: "أول يوم حرية لي".

لم يمض أسبوعان حتى وصلت بغداد لأول مرة في ربع قرن. تواعدت وأصدقاء لي، أشوريين أميركيين، وأميركيين وبريطانيين مغامرين، على اللقاء في المنصور. دخلت بيتنا. شممت رائحته. خرجت إلى الحديقة. رأيت ذكرياتي تركض على غير هدى، مثلما يركض الأطفال. وقفنا في العراق الجديد. حوّلنا المنزل إلى مقر مجلة صدرت بالإنكليزية، وكان اسمها "بغداد بوليتن".

الغرب لم يكن بلادنا، إدوين العزيز، ولكنه صار. صار بلادنا، وبلاد أولادنا. هناك ولدنا، وهنا نموت

مر عام كامل، شهد مقتل أحد المحررين. أغلقنا المجلة، ورحنا، كباقي الشعوب، نشاهد انهيار حضارة بأكملها. حضارة يبدو أنه لم يكن يبطئ قضاءها على نفسها إلا طغيان صدام. تعلمنا أن صدام لم يكن استثناء في العراق، ولا هو كان صنيعة الماسونية والصهيونية وباقي أركان المؤامرات الخيالية. صدام هو العراق، وصدام هو نتاج البلد وثقافته. رحل صدام، فرحل رعبه معه، واستأنف العراقيون رحلة اقتتالهم المستمرة منذ انهيار الأسرة النيو بابلية واختفاء الملك نبونيد في الحجاز في منتصف القرن السادس قبل الميلاد. أما المفارقة، فهي أن صاحب نبوءة انهيار حضارة ما بين النهرين هو النبي دانيال، الذي كان من أمثالك، عزيزي إدوين، من يهود العراق.

لا يغرنك، عزيزي إدوين، تاريخ العراق، فكثير منه صنعه أرباب الدعاية، وإلا، ما معنى أن تغرق حضارة متقدمة كالتي كان يديرها الخليفة هارون الرشيد في حرب أهلية بين ولديه الأمين والمأمون في اليوم التالي لوفاته، هذا إن صدقنا روايات هذا التاريخ.


البلاد ليست أرضا. البلاد هي من يعيشون على الأرض، وكيف يعيشون. أنت وأنا، لم تتسع لنا أرض أجدادنا. أما في الغرب البارد الأناني المادي، رحابة صدر لم نعشها من قبل. هنا، في الغرب، تتساوى حقوقنا مع الحكام وأنصاف الآلهة. هنا رائحة الورد تختلف، وكذلك ألوانه. هنا طعم الفاكهة يختلف. هنا المآكل بطعم لم نعتده. هنا أنغام الموسيقى لا تطربنا، ولا أكتاف نشبك معها لنتراقص جماعيا.

هنا، في الغرب، الحب أقل، والحرية أكثر، ونحن أبناء الشرق الأوسط البائس، نعرف أن لا حب ولا من يحبون بلا حرية. الغرب لم يكن بلادنا، إدوين العزيز، ولكنه صار. صار بلادنا، وبلاد أولادنا. هناك ولدنا، وهنا نموت.

والسلام!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق