الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

تفاهة المقاطعة الأكاديمية

حسين عبدالحسين

تحولت ندوة كان مقررا أن يتحدث فيها الفيلسوف جيف ماكماهان، في "الجامعة الأميركية في بيروت"، إلى جلبة وصخب أثاره بعض الطلاب ممن صرخوا ضد "التطبيع الثقافي" مع إسرائيل.

وعلى الرغم من أن ماكماهان أميركي من أصول إيرلندية ويعمل في جامعة أوكسفورد البريطانية، كانت زمالته في الجامعة العبرية في القدس كافية لدفع بعض الطلاب ووسائل الإعلام اللبنانية الموالية لإيران لاعتباره موظفا في الجامعة العبرية، أو إسرائيليا بالكامل؛ وهو ما تطلب، برأيهم، مقاطعته رفضا للتطبيع، وتمسكا بحق الفلسطينيين بالسيادة على كل الأرض، من النهر إلى البحر.

دفعت الغوغاء الطلابية منظمي الندوة من دائرة الفلسفة في "الجامعة الأميركية في بيروت" إلى محاولة تأكيد أن آراء ماكماهان قاسية بحق إسرائيل، وأنه يعتبر الحروب الإسرائيلية غير مبررة أخلاقيا، ويناصر الفلسطينيين. لكن هذا الدفاع، على قصوره، لم يثن الغوغاء الطلابية عن بث الفوضى.

تكمن مشكلة المدافعين عن حرية رأي ماكماهان في أنهم ربطوها برأيه، أي أنه يستحق الكلام لأنه مع الفلسطينيين ضد الإسرائيليين، فيما حرية الرأي مطلقة، غير مقيدة بفحوى أو مضمون الرأي، ولا هي مقيدة بهوية المتحدث، عربيا كان أم إسرائيليا.

اقرأ للكاتب أيضا: العدالة لجمال خاشقجي

وللإنصاف، لا ينفرد طلاب "الجامعة الأميركية في بيروت" في الغوغائية ومحاولات قمع حرية الرأي، بل هم يشتركون في غوغائيتهم مع مجموعات واسعة من المثقفين والجامعيين حول العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا. إذ كلما تم الإعلان عن ندوة أو حوار أو محاضرة لشخص لا يتفق الغوغاء مع آرائه، يعلنون حملة مقاطعة، ويخرجون في تظاهرات تصل أحيانا إلى حد الصراخ والتدافع وبعض العنف.

في الماضي القريب، حاول تنظيم طلابي إسلامي في "الجامعة الأميركية في بيروت" إقامة محاضرة عن المثلية الجنسية بمشاركة طبيب ممن يتمسكون بمقولة إن المثلية مرض نفسي يمكن الشفاء منه بالمعالجة. ثارت ثائرة بعض المجموعات، فتظاهرت، وصرخت، وشتمت، بدلا من أن يحضر المتمسكون بالرأي القائل إن المثلية حرية مثل الحريات البشرية الأخرى، وأن ينخرطوا في نقاش مع الطبيب الإسلامي المذكور.

وقبل أسابيع، أثارت دعوة مجلة "نيويوركر" الأميركية المستشار السابق للرئيس الأميركي، ستيف بانون، للمشاركة في مؤتمر استياء بعض المشاركين الآخرين، فهددوا بمقاطعة المؤتمر ما لم يتم تعليق الدعوة إلى بانون، فتراجعت المجلة اليسارية عن استضافة صاحب الرأي المخالف. والمستشار السابق من غلاة اليمين، وهو من الداعين إلى برنامج قومي في أميركا وأوروبا، وهو يعارض العولمة والهجرات والتجارة المفتوحة. آراء بانون معروفة، ولن يحجبها غيابه عن أي مؤتمر. كان الأجدى بالمقاطعين محاولة اغتنام فرصة مشاركته للانخراط في نقاش معه، ومحاولة إفحامه، وإظهار تهافت آرائه، أو التراجع أمام ما يقوله ـ إن ثبت تفوقه ـ وإعادة النظر بما يعتقده المقاطعون.

من غير المعروف من الذي ابتكر وعمّم اعتبار أن الحوار لا يكون بين المتخاصمين، بل بين الأصدقاء وحدهم! فالخصومة والمقاطعة والحرب تجري بسبب غياب الحوار، الذي يهدف لإنهاء الخصومة والحرب، أو على الأقل تنظيم الاختلاف في الرأي ووجهات النظر حتى لا يتطور الاختلاف إلى تضارب وعنف.

إن مناداة بعض العرب والفلسطينيين بمقاطعة إسرائيل، أو أي دولة أخرى تحلو لهم، هو في صميم حقوقهم السياسية. لكن المقاطعة وسيلة وليست هدفا، ومن أهدافها إجبار الخصم على الحوار للتوصل إلى تسوية، أو مواجهة خطر الخسائر المالية والمعنوية. أما مزج الاثنين ـ باعتبار الحوار جزء من المواجهة ـ فمشكلة.

والحوار غالبا ما يقتصر على النخبة بسبب تمتعها بالإمكانيات المطلوبة للمحاججة وفنون الكلام. أما تحويل المثقفين إلى "مقاومين" و"ممانعين" فهو يعني الطلب إليهم وضع إمكانياتهم الفكرية في خدمة المواجهة، وتحويلهم إلى أبواق دعائية، بدلا من الركون إليهم للخروج بأفكار خلاقة يمكنها أن تنهي المواجهة وتؤدي إلى تسوية.

ومع تحول المثقفين إلى "مقاومين" وغوغاء، تخلو ساحة القيادة الفكرية للديماغوجيين والشعبويين ممن يبنون زعاماتهم على الصراخ والعنف، وهو عنف ـ في حالة العرب ـ موجه في بعضه ضد الخصوم، وفي غالبيته ضد العرب الآخرين من أصحاب الرأي المغاير.


في السياق الجامعي، لا مشكلة في النقاش بين عرب وإسرائيليين، وهو نقاش لا يعني بالضرورة معادلة شهادات الجامعات الإسرائيلية في الدول العربية أو العكس، ولا يعني الاعتراف بوجود إسرائيل، على الرغم من أنه وجود معترف به في الأمم المتحدة ولدى غالبية حكومات العالم، بما فيها كبرى الحكومات الإسلامية والعربية، مثل تركيا ومصر.

إن الحوار بين الخصوم هو في أساس إنهاء الخصومة، أما من يسعون لإطالة الخصومة والصراع والانتقام، فهؤلاء لا تليق بهم ثقافة ولا جامعات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق