الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

عالم عربي بلا مثليين

حسين عبدالحسين

قد لا يتذكر العالم كثيرا عن الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد مثلما يتذكر تصريحه الشهير أن "لا مثليين في إيران"، التي يعاقب القانون فيها على المثلية الجنسية بالإعدام.

في العالم العربي، لم يسبق لمسؤولين أن أدلوا بتصريحات مثيرة للسخرية مثل أحمدي نجاد؛ لكن العالم العربي، مثل إيران، يتصرف وكأنه خال من المثلية الجنسية. وعندما يضطر نفر من العرب لمواجهتها، غالبا ما يطلقون عليها تسمية "انحراف" أو "شذوذ"، ويتصرفون وكأنها مرض هرموني أو نفسي قابل للشفاء! وهو مرض يعتقدون أنه يستوجب مقاطعة المثليين ومعاملتهم كذليلين، إلى أن يتراجعوا عن مثليتهم ويقبلوا العلاج.

هذه السطور ليست لمناقشة أسباب المثلية، بل هي لمناقشة التصور العربي لكيفية التعامل مع كل ما يختلف عن السائد، إن كان مختلفا في الرأي الديني، أو مخالفا في التصرفات المجتمعية؛ وإلى أي مدى يتوجب على الغالبية، وتاليا الحكومة المنبثقة عنها (على الأقل نظريا)، أن تتدخل في هندسة المجتمع، ومراقبة تصرفاته، ومعاقبة ما لا يتوافق مع العادات والتقاليد.

وقد يكون عالم العرب، كما الإيرانيين والأفغان والباكستانيين، متأثرا بالمجتمع الإسلامي الفاضل، والدولة الإسلامية التي تعيش في ظل الحاكم الصالح، ويأمر أهلها بالمعروف وينهون عن المنكر. لكنه مجتمع وهمي في دولة خيالية، لم يصدف أن عاش المسلمون ـ ولا غيرهم ـ يوما في تاريخهم في مجتمع أو دولة من هذا النوع، ولن يعيشوا مستقبلا.

اقرأ للكاتب أيضا: تفاهة المقاطعة الأكاديمية

في "الجامعة الأميركية في بيروت"، عرين النخبة الليبرالية المفترض، كتبت طالبة في الجريدة الطلابية مقالة اعتبرت فيها أن المثلية مرض قابل للشفاء. لا مشكلة في أن تعبر الطالبة عن رأيها. المشكلة تكمن في أنها ختمت المقالة بتصنيف المثليين إلى قسمين؛ واحد ذو ميول يجب احتضانه و"إعادته" إلى رشده، وثان يمارس المثلية، وهؤلاء من "تجب مواجهتهم". كلمة "مواجهة" هي المشكلة؛ إذ تشي باعتقاد الكاتبة بأنها والرأي الذي تنتسب إليه وصية على الناس، وأن من مهامها القيام بهندسة مجتمعية تنتج المجتمع الفاضل الذي تتخيل أنها تعيش فيه.

وفي لبنان أيضا، منعت الرقابة حملة نظمها المجتمع المدني، كان من شعاراتها أن المثلية ليست مرضا، وأنه لا بأس في اختيار الهوية الجنسية من دون خوف أو ذعر من عنف مجتمعي أو نفسي، أو الخوف من إيذاء جسدي بحق المثليين أو المتحولين وما بينهما.

وفي لبنان، بادر أحد كبار رجال الدين المسلمين إلى دعوة أقرانه من الطوائف والأديان الأخرى لمنع نشاط طلابي في "الجامعة الأميركية في بيروت" اشتبه رجل الدين هذا وغيره بأنه حفل مخصص للمثليين. ووسع رجال الدين تحركهم، لا ضد المثليين فحسب، بل ضد كل ما لا يتوافق مع مذاقهم الاجتماعي أو الديني المحافظ.

لبنان، هو البلد الذي يموت سكانه بأعلى نسبة إصابات بمرض السرطان في المنطقة، أولا بسبب الفشل الحكومي المزمن والذريع في القيام بمهمات أساسية بسيطة مثل جمع النفايات والفصل بين مجاري المياه ومجاري الصرف الصحي، وثانيا بسبب الجهل المدقع الذي يغرق فيه اللبنانيون ويجعل منهم في صدارة الدول المستهلكة للتبغ في العالم. لبنان هو البلد الذي تشتَمّ فيه رائحة نتانة النفايات في اللحظة التي ينفتح فيها باب الطائرة على أرض مطار بيروت.

هذا البلد، لبنان، ترك كل مشاكله المستعصية والمزمنة، وراح يطارد المثليين، ويسعى لبرامج إعلامية خالية من أي قبلة أو عري. رجال الدين أنفسهم، تراهم صامتين أمام أي أنباء عن مقتل صحافي أو سجن ناشط، لكن ترى حماستهم للحفاظ على المجتمع الفاضل المتخيل تتفتق فقط ضد مثلية هذا أو قبلة ذاك على برنامج تلفزيوني.

وفي العراق، قتل مجرمون فتى في سن المراهقة بسبب نعومته، واغتالوا صاحبة مركز تجميل، وطاردوا ملكة جمال. مثل اللبنانيين، لا يلاحظ العراقيون أنهم يعيشون في حفرة من الجحيم: ماء النهرين الملوثة تجف، والأسماك تنفق، والحقول تغرق بالملح، ولا كهرباء، ولا ماء، ولا عمل.

في العراق الفقير المتهالك، ما يهم هو أن لا يقبل أحد أحدا، وأن لا يرى الناس نعومة في المساحات العامة؛ فالمساحات العامة في العراق مخصصة لصور من يخالون أنفسهم ممثلي الله على الأرض، العراقيين منهم والإيرانيين.

والمساحات العامة العراقية مشغولة بـ"الهوسات" و"الهلهولات" والهبل. والدوائر العامة العراقية تغرق في فساد، قد يكون الأعلى في الكوكب.

وسط كل مصائب العراق وفساده، لا يقلق حفنة من المجرمين إلا فتى لا يتصرف بخشونتهم نفسها. المجرمون لا يحبون الجمال ولا الجميلات، بل يحبون استعراضات الرجولة البائسة، التي تنجب إجراما ولا تنجب مجتمعات قابلة للحياة.

اقرأ للكاتب أيضا: العدالة لجمال خاشقجي

لو التفت اللبنانيون إلى مصائبهم، ولو اشتغل العراقيون بعيوبهم، لارتقى مجتمعهم. ولو فهم اللبنانيون والعراقيون وسائر "الأشقاء العرب" أنه يستحيل بناء مجتمعات فاضلة، وأنه يستحيل أن يتطابق الناس في الرأي والدين والذوق والخيار، وأن المجتمع الأفضل هو الذي يتسع لكل الآراء والأديان والأذواق والخيارات، وأن الحرية تحتاج إلى عنف أقل وإلى تسامح أكثر. لو تصالح العرب مع أنفسهم ومع من يختلف معهم، يومذاك قد يلوح في الأفق العربي المظلم بصيص ضوء وأمل.

ليست المثلية الجنسية ظاهرة حديثة، ولا هي بدعة، ولا هي من مظاهر الانحطاط والتشبه بالغرب، بل هي خيار وحق لمن يختارها، كما أن رفضها هو خيار لمن لا تعجبه، طالما أن يبقى الرفض في سياق النقاش والحوار، لا المواجهة والمنع والقتل والقصاص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق