الثلاثاء، 15 يناير 2019

يحبون فلسطين ويكرهون الفلسطينيين

حسين عبدالحسين

كنت في جلسة في بغداد مع أهل وأصدقاء، بعد أسابيع قليلة على انهيار نظام صدام حسين في 2003، فاقتربت مني سيدة، وقدمت نفسها على أنها أم العباس، وقالت لي إنها سمعت لهجتي اللبنانية، وتود أن تطلب مني إيصال "غرض" لبيروت. يتبين أن "الغرض" هو كلب من نوع شيواوا صغير، وأن أم العباس هي زوجة أبو العباس، أي محمد زيدان، الأمين العام لـ"جبهة التحرير الفلسطينية“، وهي المجموعة التي كان ينتمي إليها اللبناني سمير القنطار يوم نفذ هجومه في مدينة نهاريا الإسرائيلية في العام 1979، قبل أن يتم سجنه والإفراج عنه بعد 29 عاما، في صفقة تبادل سجناء بين إسرائيل و"حزب الله" اللبناني.

بعد أيام، روى لي أبو أمين، الذي كان يعمل في حديقة منزل العائلة، أنه وإخوانه، وأولاده، وأولادهم، سارعوا إلى أحياء الفلسطينيين المقيمين في بغداد. "ذبّينا (رمينا) عليهم طابوك (أحجار بناء) إلى أن انهزموا (فرّوا)"، قال أبو أمين، وقد بدا فخورا بغزوته. سألته ما الدافع لإيذاء أبرياء، فأجاب: "يا أبرياء، يا معوّد؟ ذوله (هؤلاء) كلهم بعثيين مال صدام".

فرّ آلاف الفلسطينيين إلى الأردن، لكن عمّان رفضت إدخالهم، فاستقروا في مخيم على معبر طريبيل الحدودي؛ وفي وقت لاحق، قامت الأمم المتحدة بإعادة توطينهم في بعض دول أميركا اللاتينية.


هكذا كان الانطباع العراقي حول فلسطينيي العراق، وبقي على حاله ـ حتى بعدما اجتاحت الشعارات الإيرانية عن القدس ويومها العراق وشيعته ـ إذ واصلت الميليشيات الشيعية اختطاف، وتنكيل، وتعذيب، واغتيال فلسطينيي العراق، البالغ عددهم 35 ألفا، بتهم العمل تحت إمرة استخبارات صدام، وهي التهم التي تحولت فيما بعد إلى "بعثيين دواعش"، وبعدها إلى "مجاميع إرهابية"، وهي تهمة لا يطلقها عدد من القوى الحزبية الشيعية على فلسطينيي العراق فحسب، بل على غالبية السنة العراقيين.

ولأن العراقيين رأوا في ضيوفهم الفلسطينيين أزلام صدام، فهم رأوا في فلسطين "شماعة" يعلّق عليها صدام طغيانه. فمدن العراق وبلداته كانت تزخر بتماثيل صدام مرتديا خوذة صلاح الدين، فاتح القدس، وبرسومات عن صدام وصواريخه وتهديداته لإسرائيل. مزايدة صدام حول فلسطين تحولت إلى كراهية لفلسطين لدى عدد كبير من العراقيين، خصوصا أن فلسطين ـ تاريخيا ـ هي قضية السُنّة، فلا أحداث من التاريخ الشيعي جرت في فلسطين، ولا مقابر لأئمتهم في أي بقعة منها.

ولم تكن الشيعية السياسية في العراق وحدها ممن تعادي الفلسطينيين، فلشيعة لبنان تاريخ من القهر والمظلومية مع حكام عكا العثمانيين، الذين أحرقوا الجنوب اللبناني مرات كثيرة. ومن يعرف قصة عائلة الصدر، يعرف أن جدهم الأكبر فرّ من سجون الجزّار والي عكا إلى النجف، وأن نفرا من أبنائه استقر في إيران، فصارت العائلة منتشرة، جغرافيا، في عموم العالم الشيعي.

ويوم انتقلت الميليشيات الفلسطينية من الأردن إلى جنوب لبنان، على إثر أيلول الأسود 1970، كانت ميليشيا أمل الشيعية أول من قاتل الفلسطينيين لمنعهم من مهاجمة إسرائيل من لبنان، وهي الهجمات التي كانت تعود على سكان الجنوب، ذي الغالبية الشيعية، بردود فعل إسرائيل قاسية، حتى أن الإسرائيليين إيهود يعاري وزئيف شيف أوردا في كتابيهما حول حرب إسرائيل في لبنان في العام 1982 أن إسرائيل فكّرت في مصادقة الميليشيات الشيعية في الجنوب اللبناني بسبب عداوتهما المشتركة للفصائل الفلسطينية.

على أن الموقف الشيعي تجاه "القضية الفلسطينية" انقلب مع وصول الخميني وإسلامييه إلى الحكم في إيران، إذ رأى الملالي في القضية وسيلة فعالة لبناء جبهة إسلامية بزعامتهم. هكذا بدأت عملية إيرانية واسعة لتجييش الشيعة ضد إسرائيل، التي لم تكن، في الماضي الشيعي القريب، في مصاف الأعداء.

أثار إعلان الخارجية الإسرائيلية الأسبوع الماضي استقبالها وفودا عراقية جدالا واسعا في العراق، وطالب نوّاب بالتقصي حول هوية زوّار إسرائيل ومحاسبتهم، وجاء ذلك في أعقاب مطالبات نيابية بمحاسبة وزير الخارجية محمد الحكيم، الذي كان صرح أن بلاده تؤيد حلّ الدولتين. وقال مشرعون عراقيون ووسائل إعلام حزبية، تمولها إيران، أن "العراق لن يعترف يوما بـ"الكيان الصهيوني"، وأن محاسبة المطبعين ضرورية لأنها تخالف السياسة العراقية المعتمدة.

اقرأ للكاتب أيضا: المسيحيون ورسول المسلمين

لكن لا سياسة عراقية معتمدة تجاه إسرائيل، فباستثناء تدمير الإسرائيليين مفاعل أوزيراك النووي العراقي، وباستثناء 39 صاروخ سكود أطلقها صدام ولم توقع أي ضحايا إسرائيليين، ثم وافق على حسم تعويضات للدولة العبرية من عائدات برنامج "النفط مقابل الغذاء"، لم يسبق أن وقعت حروب تذكر بين الدولتين في تاريخهما الحديث، ما يعني أن متابعة السياسة العراقية "المعتمدة" تجاه إسرائيل هي متابعة لسياسة "المتاجرة" بالقضية الفلسطينية، التي كان ينتهجها صدام، فيستضيف وديع حداد وكارلوس وأبو نضال وأبو العباس، ثم يستخدمهم كمرتزقة في أعمال تخريب، أو في تصفية منافسيه العرب ومنافسيهم الفلسطينيين.

متاجرة الراحل صدام بالقضية صارت اليوم بأيدي الإيرانيين وأزلامهم العراقيين. هتافات وشتائم ضد إسرائيل، ووعود بتحرير الأرض، وفي نفس الوقت، معاملة الفلسطينيين كمجرمين ومرتزقة، بدلا من الإحسان في استضافتهم، ومساواتهم بالنفس، إلى أن يتم التوصل إلى تسوية مع إسرائيل يساهم العراق في صناعتها، بدلا من أن يساهم في تأزيم المشكلة، وفي نشر العنف والدمار والدماء، وهو نفس الأسى الذي عانى منه العراقيون في زمن صدام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق