الثلاثاء، 26 فبراير 2019

عرفات وفلسطين في ذكريات بندر بن سلطان

حسين عبدالحسين

نشر الزملاء في "اندبندنت عربية" مقابلة مطولة وشيّقة مع رئيس استخبارات السعودية وسفيرها السابق في واشنطن الأمير بندر بن سلطان. وكان يمكن للزملاء الكرام تحويل الحلقات الخمسة إلى سلسلة وثائقية ممتازة، لو هم قاموا ببعض التحريات، وقارنوا ذكريات السفير السعودي السابق بمصادر أخرى.

والمثير للاهتمام هو أنه يندر أن يتحدث المسؤولون السعوديون عن تجاربهم الماضية وذكرياتهم في الحكم والدولة، وفي حالة الأمير بندر، ربما هي المرة الاولى التي يتحدث فيها مسؤول سعودي رفيع عن رأي المملكة الصريح في شؤون القضية الفلسطينية والعلاقة مع ياسر عرفات.

إذ صحيح أن الرياض هي صاحبة "المبادرة العربية للسلام" مع إسرائيل، والتي تبنتها الجامعة العربية في قمة بيروت في العام 2002، إلا أنه يندر أن يبدي المسؤولون السعوديون رأيهم في قضايا فلسطين وشؤونها، غير تقديم الدعم المتواصل للفلسطينيين.

في "اندبندنت عربية"، قدم بندر بن سلطان وجهة نظر لمواضيع فلسطينية عديدة سبق أن سمعناها من مصادر أميركية أو إسرائيلية حصرا. قد يبدو بن سلطان وكأنه يلمّع صورة الرياض في الموضوع، بإصراره أن حكام السعودية المتعاقبين جعلوا من القضية الفلسطينية همهم الأول، لكن أقوال السفير السعودي السابق صادقة إلى حد بعيد، ويمكن التأكد من صحتها لتطابقها مع مصادر أخرى.


يتحدث بندر بن سلطان عمّا تسميه أوساط واشنطن "عرض (رئيس حكومة اسرائيل السابق إيهود) باراك" إلى عرفات، في العام 2000، والذي كان يقضي بتسليم إسرائيل للفلسطينيين قطاع غزة وكل الضفة الغربية، باستثناء الكتل الاستيطانية الكبيرة المجاورة لإسرائيل في الضفة، والتي تعوّض إسرائيل الفلسطينيين عنها بمساحة من الأراضي مشابهة، إما شمال الضفة أو جنوبها. وفي "عرض باراك"، تقاسم للقدس كعاصمة لكل من الدولتين، وعودة كل اللاجئين الفلسطينيين إلى الدولة الفلسطينية، وعودة 50 ألف فلسطيني إلى دولة إسرائيل كل سنة، على مدى عشرين سنة.

بالتفاصيل، يروي الأمير بندر ألاعيب عرفات، وقيامه بالكذب على بندر نفسه بالقول إنه في الفندق ينتظر التوقيع على السلام الإسرائيلي المقترح، فيما كان عرفات سبق أن رفض التوقيع. وكان سبق لعرفات أن تلاعب بالسعوديين في مبادرات سابقة بتأكيده لهم قبول عرض السلام، ثم تراجعه عنه بدون إبلاغهم.

ويبرر بن سلطان تصرفات عرفات بالقول إنه ربما اعتقد "ابو عمّار" أن بإمكانه الحصول على عرض أفضل من "عرض باراك"، فهو كان يفاوض سرّا زعيم المعارضة أرييل شارون، عن طريق ابن شارون، الذي يبدو أنه وعد عرفات بعرض أفضل في حال وصل شارون لرئاسة حكومة إسرائيل.

ذكريات الأمير بندر حول عرفات تشي كلها بأن "أبو عمّار" كان يراوغ في كل ما يقوله، وهو ما يتطابق ومعظم إفادات من عاصروا الرئيس الفلسطيني الراحل، من المسؤولين اللبنانيين، والعرب، إلى الأميركيين من أمثال مبعوث السلام دينيس روس، الذي أشار الى الاعيب عرفات المتكررة في كتابه "السلام المفقود"، فعرفات كان يتراجع صباحا عمّا وافق عليه مساء، وأحيانا كان يتراجع قبل صعوده مسرح إعلان الاتفاق.

ألاعيب عرفات ربما وصلت خاتمتها بعدما خسر مصداقيته أمام الجميع، عربا وإسرائيليين وأميركيين، فحاصره شارون، وفتح الباب أمام استبداله بمحمود عبّاس.

على الرغم من مراوغة عرفات، واصلت السعودية ضغطها على واشنطن لتحسين وضع الفلسطينيين وإقامة دولة لهم. يقول الأمير بندر إنه في أول زيارة لولي العهد السعودي في حينه، الملك الراحل عبدالله، إلى مزرعة الرئيس السابق جورج بوش في كروفرد، تكساس، قدم عبدالله لبوش صورة امرأة فلسطينية على الأرض ورجل جندي إسرائيلي فوق رقبتها.

رد بوش بالقول إن الصورة قد لا تروي كل القصة، وإنه ربما كانت تحمل سلاحا أو سكينا، فغضب ولي العهد وأمر وفده بالاستعداد للرحيل، ولم تنجح محاولات وزير الخارجية السابق كولين باول في تهدئة الوضع، ولا تدخل بوش شخصيا. ويمكن التحقق من صحة رواية بن سلطان في مذكرات بوش، التي أشار فيها الرئيس الأميركي السابق إلى غضب ولي العهد السعودي، من دون أن يشير إلى السبب.

لم يتوسع الأمير بندر في الحديث عن فرص السلام التي أضاعها الفلسطينيون مع الإسرائيليين، لكن بوش يشير إلى إصرار شارون على انسحاب إسرائيلي وقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وهو ما بدأه شارون بانسحابه من غزة، لكن الغيبوبة التي دخل بها أخرجته من الحكم، بدون أن تقضي على خطته للسلام، التي قدمها خلفه إيهود أولمرت إلى الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، وهي تشبه "عرض باراك"، مع إقامة نفق بين الضفة وغزة.

نجح بوش في حمل أولمرت وعبّاس على البدء بتنفيذ الخطة، لكن أولمرت خرج من الحكم بتهم فساد، وانتهى حكم بوش، وانتهى معه الاهتمام الأميركي بدفع الفلسطينيين والإسرائيليين إلى السلام.

اقرأ للكاتب أيضا: العرب في عصورهم الظلامية

لم تكن عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهما دائما، بل هي قاربت تحقيق اختراق في أوقات عديدة، تارة قضت عليها ألاعيب عرفات، أو حسابات فلسطينية خاطئة، وطورا دمرها إرهاب إسرائيلي قتل رئيس الحكومة السابق اسحق رابين، أو شعبوية مسؤول إسرائيلي هنا أو هناك يعارض السلام وحل الدولتين.

في ذكريات الأمير بندر بن سلطان فرص ضائعة كثيرة، وعلى العرب الندم، لا لأنهم لم يتلقفوا فرص السلام فحسب، بل لأنهم ـ حتى اليوم ـ لم يدونوا مذكراتهم وتجاربهم حتى يتعلم منها الجيل القادم، ويبني عليها، للتوصل إلى السلام المنشود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق