الخميس، 18 أبريل 2019

الخليج بين ضفتيه

حسين عبدالحسين

تقول صديقة تركية إن في نقاشاتهم حول تحالف أنقرة والدوحة، غالبا ما يرى الأتراك انفسهم أنهم سليلو حضارة عمرها مئات السنوات، فيما قطر هي دولة وليدة بلا تاريخ، وأن التحالف بينهما أسبابه سياسية آنية فحسب.

ومثل تركيا، تنظر إيران إلى الدول العربية جاراتها نظرة تباهي، فيعتبر الإيرانيون أنهم ينحدرون من حضارة عمرها آلاف السنوات، فيما الجزيرة العربية سكانها بدو رحل، بلا تاريخ ولا حضارة، وأنه لولا اكتشاف مخزونات الطاقة الضخمة عند عرب الخليج، لكانوا ما زالوا في مصاف البرابرة. لكن نظرتي تركيا وإيران تجاه العرب خاطئة، تاريخيا، وتنم عن عنصرية فاقعة.

ومن يعرف تاريخ جزيرة العرب قد يعرف أنها تعرضت لعملية تغيير مناخي أدى إلى تحول معظمها من واحة خضراء إلى صحراء قاحلة. لكن سكانها لم يرحلوا، بل ابتكروا قنوات جرّوا فيها المياه من مصادر ارتوازية وغيرها، ووصل طول بعض هذه القنوات مئات الكيلومترات. تقنية هذه القنوات نقلتها إيران فيما بعد، وكان المؤرخون يعتقدون، حتى الماضي القريب، أنها اختراع إيراني، إلى أن تم اكتشاف الأصلية في واحات عربية، في العين في أبوظبي مثلا، وهي قنوات يسميها السكان أفلاج، المشتقة من فلج، وهي اللفظ المحلي للفظة فلق المذكورة في القرآن، والتي تعني خلق الكون بفتق كتلة واحدة. ويصف كتاب المسلمين رب العالمين بـ "رب الفلق“.

وبسبب بقائهم في ديارهم التي راحت تتصحر، ولأن جزيرة العرب، وإلى شمالها، الصحراء السورية، شكلتا جسرا بريا إلزاميا لقوافل التجار بين الشرق والغرب، تحولت النقاط الصحراوية إلى معابر الزامية، وأثرى أهلها لمرور التجارة في أراضيهم. ثم بعد اكتشاف الرياح الموسمية فوق المحيط الهندي، مع بداية الألفية الأولى للميلاد، انتهت حصرية خطوط التجارة داخل جزيرة العرب والعراق والمشرق، وراحت تنافسها قناة الفراعنة، السابقة للسويس، والبحر الأحمر، وتقدمت أهمية مدن ساحل جزيرة العرب، مثل عدن ومسقط.

ومع صعود البرتغال وإسبانيا وبريطانيا كقوى بحرية، منذ القرن الخامس عشر، أرشد العرب البحّار البرتغالي فاسكو داغاما إلى الهند، فداغاما انطلق من البرتغال جنوبا، وأطلق اسم "رأس الرجاء الصالح" (كايبتاون) على المدينة الجنوب إفريقية، واستدار شرقا حول إفريقيا، ووصل سواحل زنجبار (تانزانيا وكينيا اليوم)، ومن هناك، قاده الملاّح العربي أحمد بن ماجد، ابن رأس الخيمة الإماراتية، إلى الهند.

إذا، لم يكن الإماراتيون برابرة، بل هم ابتكروا الأفلاج قبل آلاف السنوات، ونقلها عنهم الإيرانيون، وهم برعوا في الملاحة وفتحوا الباب أمام الأوروبيين إلى الهند، وبين التاريخين، لعبت الإمارات، مثل دول الخليج — الكويت والبحرين وقطر — دور محطات للملاحة التجارية بين العراق والبحر الأبيض المتوسط، من ناحية، والهند، من ناحية ثانية، وحصل ذلك بين ظهور الإسلام، في القرن السابع الميلادي، واكتشاف طريق الهند من أوروبا حول إفريقيا، في القرن الخامس عشر.

والدور العربي في التجارة البحرية العالمية موثق، على سبيل المثال في الآثار والنقود التاريخية التي تم العثور عليها في الدور، في إمارة أم القيوين، فضلا عن الآثار التي تركها الرومان ومن تلاهم في الكويت والبحرين (دلمون).

حتى اسم قطر يأتي من التسمية الآرامية القديمة بيت قطرايا، وجذر الكلمة هو كتل أو جدر، بمعنى حائط (كوتل بالعبرية) أو جدار، أي الجدار الذي يحيط بأرض فيجعل منها كتلة. واسم قطر مرادف ايتومولوجيا لاسم مدينة قادش الإسبانية، أقدم مدينة اوروبية، وهي أصلا مستوطنة فينيقية اسمها جدار (الجيم الفينيقية تلفظ مثل المصرية).

والهيمنة العربية في الخليج واضحة، حتى على الضفة الإيرانية، التي يسكن مساحات واسعة منها عرب يعانون من اضطهاد طهران لهم. والآثار العربية التاريخية ماتزال قائمة في مواقع إيرانية، كما في جزيرة خرك، التي تحوي قبورا نبطية ومسيحية عربية. واستمرت السطوة العربية على الخليج مع صعود سلطنة عمان وزنجبار، التي سادت الخليج وبحر العرب والقرن الإفريقي، ولم تنته السلطنة في زنجبار الا في ستينيات القرن الماضي.

لعرب الخليج تاريخ عريق ينافس التاريخ الإيراني والأوروبي، وإن كانت القرون الخمسة الأخيرة جارت عليهم مع شح المياه والموارد، إلا إن الثورة النفطية كانت بمثابة ابتسام القدر لهم، وهي ابتسامة تعاملت معها غالبية الحكومات الخليجية بحكمة، فشيدت دولا تتفوق اقتصاديا ومعرفيا على دول ذات مخزونات نفطية مشابهة، مثل إيران والعراق، اللتين تعانيان من "لعنة النفط"، بدلا من العيش في نعيمه.

في أبوظبي، الأسبوع الماضي، انعقدت القمة الثقافية السنوية الثالثة، التي جمعت خبراء من أكثر من 90 دولة، تباحثوا في كيفية حوار الحضارات، وكيفية الحفاظ على التراث البشري، الذي يعاني خطر الاندثار، كما في تدمر السورية والموصل العراقية. في أبوظبي، تناقش المثقفون، وعلى الضفة الإيرانية، كان مسؤولو الجمهورية الإسلامية يتوعدون الجيش الأميركي بالحرب.

للخليج ضفتان ضاربتان في التاريخ وتتمتعان بمخزونات كبيرة من الطاقة، ضفة إيران الثورية تعيش في فاقة وعوز وانحدار فكري، وضفة العرب تعيش في نعيم ورغد ومؤتمرات ثقافية، وفي الفارق بين الاثنين دروس وعبر لمن أراد أن يعتبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق