الثلاثاء، 30 أبريل 2019

عن إسرائيل دولة اليهود

حسين عبدالحسين

تفاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأسبوع الماضي، لردة الفعل السلبية الناجمة عن قيام حكومته بمنح الجنسية الروسية للانفصاليين الأوكرانيين، وهم روس عرقيا، يعيشون شرقي أوكرانيا، على مقربة من الحدود مع روسيا. وقال بوتين إن حكومات كل من بولندا ورومانيا والمجر تمنح الجنسية للبولنديين والرومان والمجريين عرقيا، أينما كانوا حول العالم؛ وهو ما يعيد إلى الواجهة نقاشا متجددا حول الهوية القومية والحكومات: هل تمثل كل حكومة في العالم عرقا بشريا محددا، أم تمثل المواطنين ـ على اختلاف أعراقهم ـ ممن يعيشون داخل حدود الدولة وتحت سيادة الحكومة المذكورة؟

النظام العالمي الذي تم تشييده بعد الحرب العالمية الثانية استند إلى اتفاقية وستفاليا (1648م)، التي أقامت مبدأ السيادة الوطنية على مساحة محددة، وأنهت مقدرة حاكم ما على مساندة أبناء دينه داخل حدود دولة أخرى. في نفس الأثناء، سمحت الاتفاقية لأبناء المذاهب التي تختلف عن المذهب الرسمي للحكومة، بممارسة شعائرهم الدينية بحرية.

هكذا صارت حكومات أوروبا، ومستعمراتها في أميركا التي استقلت فيما بعد، تساوي بين مواطنيها ـ بغض النظر عن أعراقهم أو معتقداتهم ـ ولا تتدخل في شؤون الحكومات الأخرى، حتى لو تعرض أبناء مذهب حكومة ما لاضطهاد أو انتقاص لحقوقهم السياسية.

وفي النصف الأول للقرن الماضي، تقدمت العرقية على السيادة الوطنية لفترة، فراح النازيون يجتاحون دول جوارهم بحجة تحرير أبناء جلدتهم الألمان من اضطهاد حكومات هذه الدول، مثل النمسا وبولندا.

على أن العالم لم يعش التجربة الأوروبية المنصوص عنها في وستفاليا، فواصلت غالبية حكومات العالم اعتبار نفسها ممثلة لأبناء عرقها أو دينها. حتى يوم حاولت أوروبا إقامة دول قومية في مستعمراتها، كان من شبه المستحيل إقامة دول ذات صفاء عرقي أو ديني، فدولة العلويين في سوريا كانت تعاني من تخمة في السنة، ودولة المسيحيين في لبنان كانت تعاني من ارتفاع عدد المسلمين، سنة وشيعة.

أما الدول الأكثر تنوعا، مثل تركيا، فهي عانت الأمرين في محاولة لإقامة أمة تركية صافية، فدخلت مع اليونان في نزاع وصل حد التبادل الديموغرافي، فرحل الأناضوليون اليونان من تركيا إلى اليونان، ورحل اليونانيون الأتراك إلى الأناضول. لكن على الرغم من كل محاولاتها، بقيت تركيا متنوعة أكثر مما يسمح إقامة دولة صافية عرقيا، فتواصلت صراعات الدولة التركية لبسط سيادتها على مناطق ذات غالبية كردية وأرمنية وعربية، واستتب لها الأمر في مناطق، لكن الصراع مازال قائما في مناطق أخرى.

المشاريع القومية (تساوي المواطنين داخل حدود بلادهم) في الشرق الأوسط، ومعظم دول العالم، فشلت؛ فأعلنت إيران الخميني نفسها دولة قائمة على المذهب الشيعي الاثني عشري، وهو ما يستثني الإيرانيين من المذاهب الأخرى من اعتبار أن حكومة إيران هي حكومتهم. ومثل إيران، طرّز صدام حسين شعار "الله أكبر" على العلم العراقي، وكأن لا بأس أن يحمل المسيحيون العراقيون علم دولتهم وعليه عبارة إسلامية، وكذلك فعلت السعودية الإسلامية في دستورها، وعلمها، وتصنيفها مواطنيها، وحتى زوارها، بل إن المؤسس عبدالعزيز ابن سعود، يوم منعه البريطانيون والفرنسيون من إضافة البادية السورية ـ التي كان قد حاز على مبايعة عشائرها ـ إلى مملكته، قام بتجنيس هؤلاء، فصاروا سعوديون يعيشون في سوريا.

إذا، ليست دول الشرق الأوسط ملك مواطنيها بغض النظر عن عرقهم أو دينهم، بل هي دول يسيطر عليها عرق واحد أو مذهب واحد، ويستثني الأعراق والمذاهب الأخرى، أو يعاملهم كمواطني درجة ثانية، أي أقليات؛ مثل الكرد في العراق وتركيا، والشيعة في السعودية والبحرين، والسنة في إيران والعراق.

وينصّب حكام هذه الدول أنفسهم حكاما عابرين لحدودهم، فتعتبر إيران نفسها حكومة الشيعة أينما كانوا في العالم، وتتنافس السعودية وتركيا على زعامة السنة في العالم، ويعتقد رئيس لبنان ميشال عون أنه رئيس مسيحيي المشرق (طالما أن لشيعة لبنان حكومتهم في طهران ولسنة لبنان حكومتهم إما في الرياض أو في أنقرة).

وسط كل هذه الفئوية والعنصرية والطائفية الدينية المذهبية، يتنطح سكان الشرق الأوسط للتعييب على إسرائيل، واتهامها بالعنصرية ضد العرب ممن يعيشون داخل حدودها، وسماحها لنفسها بلعب دور حكومة اليهود حول العالم.

واقعيا، لا تختلف إسرائيل عن دول الشرق الأوسط، ولا بعض دول أوروبا التي أشار إليها بوتين، ولا روسيا والصين وغيرها من الدول، التي ترى نفسها حكومات عابرة للحدود، على حسب انتشار أبناء عرقها أو دينها، وهو ما يجعلها حكومات غير محدودة بمساحة جغرافية.

وحده الغرب في أوروبا، وأميركا الشمالية، وأستراليا، هو الذي يرى الدولة على أنها حكومة ذات سيادة محدودة بمساحة جغرافية معينة، وأن مواطنيها هم من مولودي هذه المساحة، أو من المهاجرين إليها ممن استحقوا الجنسية، وجميعهم يتساوون في الحقوق والواجبات تحت سقف القانون. هؤلاء المواطنون هم من تدافع عنهم حكومات الغرب، أينما كانوا حول العالم، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم.

أيهما النموذج الأصلح؟ للمعجبين بعصر التنوير الأوروبي والفكر السياسي الناجم عنه، يتقدم النموذج الغربي، الذي يساوي بين مواطني الدولة بغض النظر عن عرقهم أو دينهم. أما المتمسكون بأن الدنيا هي جماعات متنافسة، وأنه "لا يحك جلدك إلا ظفرك"، فنموذج الهوية القبلية العابرة للحدود يناسبهم أكثر، والقبيلة في العادة مغلقة ويستحيل الانتساب لها.

والقبيلة أيضا تنظر إلى نفسها كوحدة متجانسة، ذات رأي واحد، وطموح واحد، ومصلحة واحدة، وهو ما يقلص الحرية الفردية إلى حد العدم، ويحول كل فرد إلى مناصر، دوره ينحصر في نصرة قبيلته على منافسيها، والتصفيق لزعيمها، وهي ثقافة تبدو أنها منتشرة في العالم، ولكنها لحسن الحظ ما تزال متعثرة في دول الحريات، على الأقل حتى الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق