الثلاثاء، 4 يونيو 2019

القدس في يومها الإيراني

حسين عبدالحسين

احتفلت "الجمهورية الإسلامية" في إيران، وميليشياتها، والسياسيين من أتباعها في منطقة الشرق الأوسط، بـ "يوم القدس العالمي"، الذي تقيمه سنويا في آخر يوم جمعة من شهر رمضان، وهو يختلف عن "يوم القدس"، الذي تحتفل به دولة إسرائيل سنويا، مطلع كل حزيران/يونيو، في ذكرى سيطرة إسرائيل على النصف الشرقي من المدينة وضمّه لنصفها الغربي في العام 1967.

وتعاني المناسبتان من مناقضتهما القرارات الدولية، فاليوم الإسرائيلي لا يتوافق وقرارات التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة، التي وضعت القدس الغربية تحت سيادة إسرائيلية، والقدس الشرقية تحت سيادة عربية. وما يزال النزاع قائما بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول مصير النصف الشرقي.

أما "يوم القدس" الإيراني، فيعاني من اختراقات أكثر بكثير للقانون والأعراف الدولية، أولها أن القانون الدولي يعتبر العرب ـ الأردنيين أصلا ومن بعدهم الفلسطينيين بعد اتفاقيات أوسلو ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية ـ أصحاب الحق في التفاوض مع الإسرائيليين حول السيادة على القدس الشرقية. صحيح أن بعض المواقع في هذه القدس هي تراث عالمي يهودي ومسيحي وإسلامي، إلا أن السيادة محصورة بطرفين متنازعين هما الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا صفة لأي حكومات أخرى ـ إسلامية مثل إيران أو عربية مثل سوريا أو العراق ـ في رفض أو قبول أي تسويات محتملة، وهو ما يعني أن "يوم القدس" الإيراني هو تدخل في سيادة وشؤون دول أخرى.

و"يوم القدس" الإيراني يتسبب بحرج لحلفاء إيران. المسيحيون المتحالفون مع إيران في لبنان، بزعامة رئيسه ميشال عون، يرددون أن "حزب الله" هو مقاومة دفاعية لرد أي عدوان إسرائيلي على لبنان. لكن احتفال "حزب الله" بـ "يوم القدس" لا يشي بالدفاع، بل يعني تدخلا لبنانيا بشؤون دول أخرى. ربما يحرص عون على مصير المواقع المسيحية في القدس، وهو حرص غير مبرر لأنه خارج السيادة اللبنانية، ولكن إذا نصب رئيس لبنان نفسه مدافعا عن المسيحيين في الشرق، يمكنه أن يتوسط لدى حلفائه في طهران للتخفيف من قمعها للمسيحيين، والذي كان آخره نزع السطات الإيرانية صليبا من على كنيسة للأشوريين المسيحيين الإيرانيين، وإقفال الكنيسة.

في العراق، بدا مشهد "المقاومين" وشيوخ العشائر، في شارع فلسطين في بغداد، أكثر عبثية منه في لبنان. صور القدس، وصواريخ، ودوس على أعلام إسرائيل وأميركا، وعلى صور الرئيس الأميركي، وكأن صدام ـ الذي كان يرى نفسه صلاح الدين الأيوبي فاتح القدس الصليبية ـ ما يزال حاكما للعراق.

ومن يتذكر، قد يتذكر أن العراقيين رموا حجارة "طابوك" على منازل الفلسطينيين، في شارع فلسطين، في اليوم التالي لانهيار نظام صدام، لاعتقادهم أن كل الفلسطينيين عملوا مرتزقة لدى صدام واستخباراته، فرحل خمسة آلاف فلسطيني، وأقاموا في مخيم طريبيل، على الحدود مع الأردن، قبل أن تعيد الأمم المتحدة توطينهم في دول المعمورة.

ختاما، لا بد من التذكير ببعض تاريخ القدس، المدينة التي لم تمارس أي سيادة في الأزمنة التي حكم فيها العرب. والقدس لم تتمتع بأهمية تذكر في عصر العثمانيين، ولم تتقدم أهميتها في التاريخ إلى أن رسم السيدان الأوروبيان سايكس وبيكو خريطة فلسطين، وجعلوا من القدس عاصمة لها، وسط سعي صهيوني لجعلها عاصمة دولة إسرائيل المزمع إقامتها. وقتذاك، استعاد العرب علاقتهم التاريخية المميزة مع القدس، بحسب التراث الإسلامي.

لكن علاقة الإسلام بالقدس ـ التي لم يرد ذكرها في القرآن، على عكس مكة ـ ليست مميزة كثيرا، وهي ترتكز إلى آية قرآنية نصها هو "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى". يعتقد المسلمون أن العبد المذكور هو رسولهم، وأن المسجد الحرام هو في المدينة المنورة، والمسجد الأقصى هو مجمع "قبة الصخرة" و"مسجد عمر" في القدس. لكن القدس، في ذلك الزمن، كانت تحت حكم بيزنطي مسيحي، وخالية من أي مسلمين، وتاليا أي مساجد، وهو ما يجعل اعتبار "المسجد الأقصى" في القدس، في زمن الرسول، أمرا لا يتوافق والتسلسل التاريخي.

ثم أن فعل أسرى هو جذر كلمة إسرائيل. صحيح أن العهد القديم يفسّر اسم إسرائيل على أنه لقب يعقوب لأنه "صارع الرب"، إلا أن التفسير التوراتي يتنافى وإيتمولوجية الكلمة، فلو كان الجذر هو صراع، لصار اسمه "يصارع إيل" أو يصرعئيل. والعبرية، مثل العربية، فيها الصاد والسين، وإسرائيل بالعبرية مكتوبة بالسين، لا بالصاد، ما يجعل تفسير "أسرى إيل" هو الأكثر احتمالا. هنا يصبح يعقوب، أو أي شخص يحمل لقب "إسرائيل"، هو الشخص الذي قاده الرب في عملية سير، هجرة أو عبور، فإن اعتبرنا أنها هجرة، فهي تنطبق إذ ذاك على هجرة الرسول، ويصبح المسجد الحرام مكة، والمسجد الأقصى المدينة.

أما إذا اعتبرنا أن الإسراء يدل على العبور، فيمكن ربطه بأكثر من شخصية توراتية وقرآنية، مثل عابر (هود)، الذي قاد عبور قومه، فمنحهم اسمه، عبرانيون، أو مثل موسى، ومن بعده يشوع (يهوشع أو جوشوا) النبي (أو ذي النون في قراءة مغايرة). ويشير المسيحيون إلى تشابه بين يشوع ويسوع، الأول قاد العبرانيين إلى الخلاص من مصر إلى أورشليم، والثاني قاد البشرية إلى الخلاص الأبدي. إذن، الإسراء هو الخلاص، وهو صفة لمعظم الأنبياء والرسل، ولا يمكن تفسيره كصك ملكية تاريخية، مثلما يفعل بعض المسلمين في حالة القدس.

هذه الأمثلة هي لتفسير الإسراء، وأهدافه، بشكل مغاير للتفسير غير المقنع الذي يقدمه التراث الإسلامي، والذي تخالطه خرافات، من قبيل امتطاء الرسول في إسرائه حصانا مجنحا، البراق، ثم ربطه بحائط المبكى، وكأنه يمكن ربط حصان طائر بحائط.

على أن التاريخ للتاريخ، وما يهم اليوم هو تسوية تضمن حقوقا متساوية لكل سكان القدس، اليهود والمسيحيين والمسلمين، وتحفظ التراث البشري التاريخي الديني فيها، وهذا، في الغالب، متعذر بالصواريخ والحروب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق