الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

الحرية لا تنتهي

حسين عبدالحسين

يردد بعض العرب مقولة أن حرية الفرد تنتهي حيثما تبدأ حرية الآخرين. من غير المعروف من هو الذي ابتكر هذه الحكمة، ولكنها بلا شك خاطئة، بل تافهة، فالحرية ليست قيمة معلومة يتم تقاسمها حصصا بالتساوي بين الناس، بل إن الحرية مطلقة لكل فرد، وغير محدودة بأي قيد أو شرط.

والحرية فوضوية، لا خصوصية فيها ولا احترام، لا لقوميات، ولا لمقدسات، ولا لمعتقدات، باستثناء التحريض على العنف، من قبيل "بلاغة" خال رئيس العراق الراحل خيرالله طلفاح، الذي قال يوما إن "ثلاثة لا يستحقون الحياة هم الفرس واليهود والذباب"، وهي مقولة عنصرية مقيته، تحرّض على العنف ضد شعوب وأعراق، وتدعو لحرمانهم الحياة، وهي لا تندرج في إطار "حرية التعبير"، بل هي دعوة إلى القتل مطلوب حظرها، ومنع التداول بها، وتوعية الناس على ظلاميتها ودمويتها والمخاطر التي تنتج عنها.

وفي الولايات المتحدة، حددت "المحكمة الفدرالية العليا" حرية التعبير بالإشارة إلى أنها مطلقة، باستثناء التحريض على العنف أو الأذى، مثلا، لا حرية لشخص يدخل مسرحا مكتظا بالناس، ويصرخ "نار" عمدا للتسبب بهلع الحاضرين وقيامهم بالتدافع للخروج، مما قد يؤدي إلى إصابة أو مقتل بعضهم تحت الأقدام.

هذه هي الحرية، مطلقة وفوضوية، باستثناء التحريض على إبادة شعوب، أو التسبب بالتدافع والموت تحت الأرجل. كل ما عدا ذلك مسموح، بما في ذلك رسم أي من الأنبياء، أو الرسل، أو القديسين، أو القادة التاريخيين للشعوب والأمم والقبائل في رسوم غير لائقة، وبما في ذلك أيضا كتابة أو غناء أو قرض الشعر الذي يذمّ أي عقيدة أو شخصية أو جماعات أو أفراد

ومنذ وقوع هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة، اندلع النقاش حول سبب العنف الذي قاد الإرهابيين المسلمين العرب التسعة عشر إلى القيام بمجزرتهم البشعة، وقال البعض ـ في الغرب وفي الشرق ـ إن مشكلة بعض المسلمين هي في نصوصهم الدينية التي تدعو صراحة إلى العنف، وإن الخلاص هو بتعديل هذه النصوص، واعتبارها مرتبطة بزمن غابر ولى، وإنها لا تنطبق على مفاهيم اليوم والحياة العصرية.

بعض هذه الدعوات صحيحة وتستحق النظر، لكنها دعوات لا تعني اتهاما لدين المسلمين بأنه دين عنفي، والدليل أن بعض مسيحيي العرب، كبعض مسلميهم، لا يفقهون معنى الحرية، بل هم يسعون إلى منعها باللجوء إلى نفس المقولة المتهافته أن "حرية الفرد تنتهي حيثما تبدأ حرية الآخرين".

لدى بعض الكنائس المسيحية في لبنان "مراكز إعلامية" على صورة وزارات إعلام الحكومات الديكتاتورية، وهي مراكز لا تعمل على نشر الدعاية فحسب، وهو نشاط لا بأس به، بل هي تعمل على حظر أي مواد تحسبها مهينة بحق "الإيمان المسيحي"، أي أنها تنصّب نفسها وصيّة على المواد التي تسمح للشعب اللبناني بالاطلاع عليها، وتلك التي ترغب في حجبها عنهم، وهو أمر غير مفهوم في عصر باتت فيه غالبية الرعية الكنسية قادرة على القراءة والكتابة والاطلاع على ما تخاله مفيدا لحياتها الروحية، وتفادي ما لا يروق لها.

والحظر الكنسي في لبنان، كنظيره الإسلامي، يعود إلى عقود. وكانت الكنيسة أوقفت بثّ مسلسلا إيرانيا يقدم الرؤية الإسلامية للسيد المسيح، وقامت بذلك يوم كان على رأس الكنيسة الرجل الذي يصوّره اللبنانيون على أنه أحد أركان "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية، للعام 2005، والتي شاركت فيها أحزاب صوّرت نفسها تحالفا ساعيا للحرية والديمقراطية، وإذ بالتحالف نفسه لا يتردد في مساندة حظر بث العمل التلفزيوني المذكور.

وبعد رحيل رأس الكنيسة المذكور، لم تتغير سياسة الكنيسة اللبنانية في حظرها ما لا يعجبها، وكانت آخر إنجازاتها منع فرقة شبابية لبنانية من لعب موسيقاها في إحدى الاحتفالات في مدينة جبيل، ذات الغالبية المسيحية، مبررة حظرها بأن واحدا أو أكثر من أعضاء الفرقة هم من مثليي الجنس، وأن أحد أعضاء نشر سابقا رابط مقال يحوي صورة للسيدة العذراء وقد استبدل وجهها بوجه المغنية الأميركية مادونا، التي يعني اسمها "السيدة" ويستخدمه بعض المسيحيين للإشارة إلى العذراء مريم.

أما الأسوأ من الحظر الكنسي للفرقة الموسيقية فتجلى في البربرية التي أظهرها مسيحيون لبنانيون كثر، طالبوا بالاعتداء على أفراد الفرقة الموسيقية، ووصل الأمر ببعض المسيحيين حد المطالبة، عبر وسائل التواصل الاجتماعية، بحرق وقتل الموسيقيين، وهو أمر غريب لأتباع ديانة مبنية على المحبة والتسامح، وتدعو ضحايا من يتلقون لطمة على خدهم الأيمن إلى إدارة الأيسر بدلا من مبادلة اللطمة بلطمة.

وفي العراق، ثارت ثائرة "الغيارى على الدين" بعد إقامة حفل افتتاح بطولة غرب آسيا في كرة القدم في مدينة كربلاء. واعترض "دواعش" الجنوب العراقي بالقول إن المدينة مقدسة، وإنه يمنع دخول غير المحجبات إليها، وكأن الوطن العراقي مفتوح لناس وعصي على آخرين، بحسب تصرفاتهم وهندامهم.

في الإسلام آيات وأحاديث يتعامل معها بعض المسلمين على أنها تنطبق على كل زمان ومكان، وهي ليست كذلك، بل يجب الاستغناء عنها واعتبار أنها تنتمي إلى زمانها، مثل عدالة "العين بالعين والسن بالسن"، أو مبدأ قتل المرتدين عن الإسلام، أو ما إلى ذلك من تعاليم تتعارض ومبدأ الحرية المطلقة والعدالة الحديثة.

أما عند المسيحيين، فنصوص تدعو إلى التسامح والمحبة، وهي نصوص خرجت عنها كنائس وجماعات مسيحية في الماضي، فتسببت باضطهاد وكوارث بشرية، وهي نصوص على المؤمنين المسيحيين العودة إليها، والعمل بموجبها، واحترام الحرية المطلقة.

ليست الحرية حصصا، بل هي مطلقة، وهي من سمات الحضارة والتنوير، وهي من أسباب الرفاه والرقي لمجتمعاتها، وهي تقوّي إيمان المؤمنين، وتثبت أنه إيمان لا يهزه كاريكاتور مسيء عن نبي، ولا مسلسل إسلامي عن المسيح، ولا صورة أو أغنية عن العذراء مريم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق