الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

الزعتر الإسرائيلي

حسين عبدالحسين

يغرق الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في تفاهات لا قعر لها، منها سباق على تبني الفلافل والحمص، وآخرها غضب فلسطيني بسبب قيام موقع مأكولات إسرائيلي بوصف الزعتر على أنه "بهار إسرائيلي". يرى الفلسطينيون أن التسمية الإسرائيلية للزعتر هي "سرقة ثقافية"، وهي محاولة إمبريالية إسرائيلية لطمس هوية السكان المحليين الأصلية، كجزء من مخطط إسرائيلي مزعوم لمحو الهوية الفلسطينية.

وفي الغضب الفلسطيني على وصف الزعتر إسرائيليا مشاكل متعددة، أولها أن إسرائيل ليست إمبريالية ولا غريبة. صحيح أن حوالي نصف اليهود وفدوا فلسطين القرن الماضي من دول غير عربية، لكن نصفهم الآخر انتقل من بغداد والقاهرة وبيروت والدار البيضاء إلى إسرائيل، بعد قيامها أو قبله بقليل، وهو ما يعني أن جزءا كبيرا من هؤلاء الإسرائيليين يعرفون الزعتر، بل إنه جزء من تراثهم وماضيهم القريب.

ثانيا، لم يذكر كتاب المسلمين أي من الشعوب أو الدول العربية والإسلامية، لا العراق ولا إيران ولا تركيا، لكنه ذكر إسرائيل 42 مرة، منها 27 مرة بمعنى الشعب أو القوم أو الجماعة، "بني إسرائيل"، وهو ما يؤكد إن الإسرائيليين ليسوا من بولندا وروسيا البيضاء فحسب، بل هم من مصر والحجاز والعراق وبلاد الشام كذلك، وعليه، فقد ورد ذكرهم في القرآن، في وقت لم يرد ذكر شعوب أخرى، مثل الفلسطينيين أو اللبنانيين أو السوريين.

ثالثا، صحيح أن للشعوب مآكل صارت جزءا من هويتها وتراثها، لكن هذه المآكل ليست عرقية يحملها الشعوب معهم أينما ذهبوا، بل هي مآكل إقليمية بنكهات محلية مختلفة. وفي الدول اليوم، تختلف طرق تحضير وأطعمة المآكل بحسب ما تجود به الأرض، فنرى المآكل الهندية ببهارات حارة أحيانا، بسبب توفر البهارات في الهند، ونرى "المطبخ المتوسطي" مبنيا في غالبه على زيت الزيتون، المنتج الأكثر شعبية في حوض المتوسط.

هذا يعني أن اليهود الوافدين إلى إسرائيل، بعد قيامها، حملوا معهم تقاليد المجتمعات التي عاشوا فيها، بما في ذلك مآكل غير متوسطية، إن من بولندا أو من العراق، لكن هذه الأطباق إما يتعذر تحضيرها بسبب عدم توفر موادها الأولية في إسرائيل، أو إنها اكتسبت تعديلات جعلتها محلية، بحسب المواد المتوفرة، وبحسب تطور الأذواق المتأثر غالبا بالبيئة المحيطة والمناخ.

رابعا، في زمن العولمة، صار يصعب حصر بعض المآكل في شعوب دون غيرها. مثلا، يمكن لأي شخص في أميركا أن يشتري التبّولة، لكنها تبّولة تختلف عنها في حوض المتوسط، بسبب زيادة في البرغل والبصل ونقصان في الزيت والحامض، ربما لمماشاة الذوق المحلية.

والتبّولة طبق حديث نسبيا تلا اكتشاف البندورة (طماطم) بعد وصول أوروبا إلى العالم الجديد. قبل ذلك، كان دبس الرمّان هو المادة المعتمدة في تحضير الأكلات التي تعتمد في مذاقها على البندورة اليوم. ويمكن للقراء المهتمين مطالعة أعمال الأكاديمي اليهودي العراقي سامي زبيدة حول تاريخ المآكل المشرقية.

للفلسطينيين حقوق في إسرائيل، وخارجها، والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ما يزال معقدا وبدون حلول. لكن الحلول تشترط تحديد مكامن الخلاف، المتمحور حول سؤال "لمن السيادة" في الأرض الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، وهي سيادة تسمح لمن يمسك بها أن يحدد شكل الحيز العام، سياسيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا، وتسمح له بتحديد المواطنين من غير المواطنين، ما يترك غير المواطنين في عالم ضبابي، وينتقص من حقوقهم الفردية. وهنا لا نلقي باللائمة على إسرائيل وحدها في مسألة منح حقوق لمجموعة سكانية دون أخرى، فلو قيّض للفلسطينيين الإمساك بالسيادة، لتصرفوا بالأسلوب نفسه تجاه الإسرائيليين، وهو ما يقلّص من إمكانية التوصل إلى تسوية.

والتسوية تحتاج إلى تسامح أكثر من المعهود، من الطرفين، وتتطلب ضمانات تقدمها كل مجموعة للأخرى بفتح صفحة جديدة، والعيش بمساواة، بغض النظر عن التاريخ المرير بينهما، وهو ما كاد يتحقق في التسعينيات، ولم يحصل، لأسباب كثيرة لا مجال لتعدادها هنا.

أما تحويل كل قضية، مثل هوية الزعتر والفلافل والحمص، إلى صراع قومي وجودي، فهو ما يساهم في تأزيم الصراع، وتسخيفه، بدل السعي إلى تسوية وحقوق متساوية إلى كراهية متبادلة، بسبب وبدونه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق