الثلاثاء، 19 نوفمبر 2019

لستم وحدكم يا أحرار العرب

حسين عبدالحسين

نجح طغاة العرب وإيران في إيهام المجتمع الدولي أن العالم أمام خيارين لا ثالث لهما: استقرار الطغيان أو فوضى الحرية. وبعد فشل الولايات المتحدة في نقل العراق من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، تأكد في ذهن العالم الحر أن لا حلول ممكنة للدول الفاشلة، وأن ثقافة المسلمين تعيق إمكانية بنائهم حكومات رشيدة، وأنه إذا كان العرب والإيرانيون غير مستعدين للنضال من أجل حريتهم وديمقراطيتهم، فلا يمكن للغرب أن يقوم بذلك عنهم.

لذا، لجأت عواصم القرار في العالم إلى "أفضل الممكن"، أي العمل على إدارة الأزمة المتواصلة بما يضمن مصالح الديمقراطيات الغربية، بأقل تكلفة مالية وبشرية ممكنة. هكذا، ثبّت الجيش الأميركي الوضع الأمني في العراق ورحل، وسعت الولايات المتحدة إلى ترتيبات مع الطغاة الحاكمين.

لكن الشعوب في لبنان وإيران وتونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ثم في الجزائر والسودان، ولبنان مجددا والعراق، ثارت على الطغيان، حتى بعد رحيل الولايات المتحدة وتلاشي اهتمامها بنشر الديمقراطية.

والثورات العربية جاءت متفاوتة في أهدافها، ووعي ثوارها، وعمق معرفتهم، وإدراكهم أن التغيير، أي تغيير، مستحيل بدون ثورة على الذات، وبدون إصلاح مجتمعي داخلي، بما في ذلك تعديل بعض العادات والتقاليد، ومواجهة حرّاس الهيكل في مجتمع أبوي يختلط فيه العنف الجسدي بالضغط النفسي والمجتمعي والمادي، وتختلط فيه المعتقدات الدينية بالعادات المحلية، وتختلط العقيدة ـ القابلة للتفسير بأوجه متعددة ومختلفة وحتى متضاربة ـ بالرأي، ويصير أي رأي معارض كفرا بالدين وإلحادا، ويصير الإلحاد جريمة.

والقمع المجتمعي ليس حديثا في دنيا العرب، الذين سبق لهم أن أجبروا أرباب "النهضة العربية" على التراجع، فعدّل محمد عبدّه المصري من مواقفه الناقدة للدين والمجتمع، ومثله تراجع طه حسين عن تشكيكه بتاريخية الشعر الجاهلي والسيرة النبوية. وفي زمن لاحق، تعرّض السوري الراحل صادق جلال العظم إلى عاصفة من الهجمات، بما في ذلك دعاوى قضائية لحظر كتابه "نقد الفكر الديني".

مضت دول العرب، "المستقرة" في ظلّ طغاتها، في التطرف، فتعرض المصري فرج فوده لحملة أدت لاغتياله بعد مطالبته بفصل الدين الإسلامي عن الدولة. وكان حظّ الإصلاحي المصري الراحل نصر حامد أبو زيد أفضل بقليل، إذ أدت الحملة ضدّه إلى نفيه إلى هولندا.

على أنه على الرغم من الصورة القاتمة، وانتشار التخلّف الفكري والمجتمعي، وقساوة الاستبداد، لا يبدو أن دنيا العرب والفرس تنضب من المثقفين الشجعان، الذين يتوقون إلى نشر الوعي، وإلى الحرية والديمقراطية.

الصديق إياد شربجي كان صحفيا لامعا في دمشق، ورئيسا لتحرير مجلة "شبابلك"، وكان من أول من ساروا في التظاهرات السلمية في دمشق لإنهاء طغيان آل الأسد، فتعرض لملاحقة أجبرته على الهروب وعائلته، وفيما بعد اللجوء إلى الولايات المتحدة.

والغربة، التي قلّما ترحم المهاجرين، قست على إياد، لكنها لم تكسره، فواصل نضاله بتأسيسه موقع "السوري الجديد"، بالتزامن مع نشاطه الخارق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعمد غالبا إلى التعليق على احداث في دنيا العرب وفي موطنه الجديد، الولايات المتحدة.

وعلى عكس العقل المؤامراتي العربي، الذي يلقي بلائمة شقاء العرب على الصهيونية والماسونية وإلى ما هنالك من نظريات خنفشارية، يرى إياد أن السبب الأول للشقاء العربي هو في الثقافة السائدة، وفي الانفصام في عقول العرب بين مجتمع مثالي يعيشونه في مخيلتهم، وواقع معاكس يعيشونه في سرّهم وخلف أبوابهم الموصدة.

ولأن الدين الإسلامي يشكل الجزء الأكبر من ثقافة العرب، يوظّف إياد معرفته بالنصوص الإسلامية، ويضعها في سياق عصري حديث ليظهر أنها نصوص نافرة تنتمي لزمن قروسطوي، وهي نصوص يحاول بعض المسلمين السذّج العيش بموجبها حرفيا، فتكون النتيجة "الدولة الإسلامية" المتخلفة المعروفة بـ"داعش".

وبسبب ضحالة محاوريه ـ الذين يهتز إيمانهم أمام أي محاولة انتقاد أو نقاش مهما كان حضاريا وهادئا ـ يعمدون إلى تكفيره، ويحاولون حظر ما كتبه، لا بالحجّة التي لا يملكونها، بل بالعنف اللفظي والمجتمعي، فتتعرض عائلته في سوريا والشتات إلى ضغط مجتمعي هائل، وتاليا يجد إياد نفسه محرجا: إما يواصل نقاشه التنويري، أو يصمت حتى لا يتحول من يحبهم إلى رهينة في أيدي قوى الظلام والقمع الفكري.

ومثل إياد المثقف، صاحب العقل المتقد والفكر المنفتح، يتعرض صديقي مكرم رباح إلى ضغط مجتمعي كبير في بيروت. ومكرم مؤرخ حائز على بكالوريوس وماجستير من "الجامعة الأميركية في بيروت"، وعلى دكتوراه من "جامعة جورجتاون" الأميركية المرموقة، وعلى بكالوريوس في الحقوق من "الجامعة اللبنانية"، وهو ما يجعل منه أكثر ثقافة وعلما من رؤساء لبنان وحكوماته وزعمائه الطائفيين مجتمعين.

ويوم انتفض اللبنانيون في 17 أكتوبر، لم ير مكرم في مذهبه الدرزي عائقا لمواطنيته، بل انخرط في الثورة، وسخّر لها كل إمكاناته، وراح يمضي أوقاتا طويلة على شاشات الفضائيات يشرّح فيها الأحداث للعالم، وراح يكتب في الصحف، ويناقش، ويحلل. كما راح مكرم يعقد صفوفه الجامعية وسط بيروت، حيث التظاهرات، وراح يقول لطلابه إنه غالبا ما يعلّمهم عن تاريخ لبنان، لكنه هذه المرة أحضرهم إلى حيث يكتب اللبنانيون تاريخ بلادهم.

لم يمرّ نشاط مكرم الفكري ومشاركته في التظاهرات والتنظيم مرور الكرام، فاستهدفته صحيفة تابعة لـ"حزب الله"، وراحت تحرّض عليه لأنه طالب ـ في مشاركة له عبر الإنترنت في نقاش عقده مركز أبحاث في واشنطن ـ بفرض عقوبات أميركية على حلفاء "حزب الله" المسيحيين، أي وزير الخارجية السابق الساعي للرئاسة جبران باسيل، بسبب تورطه في عمليات مالية مع الحزب اللبناني.

طبعا لا يهم صحيفة الدعاية الحزبية أن مكرم أجاب أن أفضل دور لواشنطن هو بقاؤها بعيدة عن أحداث لبنان، وتركها اللبنانيين يناضلون لحريتهم. كان لمكرم طلب وحيد من لأميركيين والغرب: لا تبيعونا إلى جلادينا في صفقاتكم المعتادة مع الطغاة.

وإلى تهديدات "حزب الله"، يعاني مكرم ـ مثل إياد ـ من ضغط مجتمعي يهدف للجم نشاطه الثوري، الفكري منه والجسدي، وإقناعه بالالتزام بمواقف بطريرك الطائفة والعودة إلى الوضع المزري الذي أوصل لبنان واللبنانيين إلى ما هم عليه اليوم.

تحت شدة الضغط، كتب إياد: "توقعت أن يكون الأمر سيء، لكني لم أتخيله بهذا السوء، ولا أحد يعرف كم كلفتني حريتي". وأضاف: "أعتذر من أهلي وأقاربي لما طالهم بسبب ما كتبت، أنا لست قادرا أن أتحمل، ولست قادرا أن أكذب على نفسي وأن أنافق". وختم إياد: "قررت أن أنسحب وأغلق صفحتي حتى إشعار آخر… سأكون لوحدي بدءا من اللحظة… أحبكم وسامحوني".

لا يا إياد لست وحدك، ولست وحدك يا مكرم، ولستن وحدكن يا حلا ومريم ودارين. لستم وحدكم يا أحرار العرب. الثمن مرتفع ولا يمكن لأي منّا أن يطلب من الآخرين التضحية، ولكن أقلّ ما يمكننا هو أن نعبّر لمن يضحّون عن حبنا لهم وتقديرنا، وعن مساندتنا لما يقومون به، فالحرية لا تعطى، بل تنتزع، ويا ليتنا كنّا مثلكم أقوياء، قادرين على المواجهة فكريا وتنظيميا وجسديا. على أنها طريق سار فيها أناس من قبلكم، وسيسير فيها كثيرون من بعدكم. سيتذكركم التاريخ، وسينسى قوى الظلام المجتمعي، والعنف الأبوي، والقدسية الزائفة، والطغيان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق