الثلاثاء، 14 يناير 2020

عن انحيازنا لوطننا الأميركي

حسين عبدالحسين

يستغرب قراء عرب كثيرون نصوصنا التي تظهر انحيازنا لوطننا الأميركي. يعتقدون أننا مهاجرون نعيش في الولايات المتحدة، ونحمل جواز سفرها لأنه يسهّل مرورنا في مطارات العالم، ويمنحنا رعاية دولة عظمى في ترحالنا. بعضهم الآخر يعتقد أننا نكتب نصوصا مؤيدة للسياسة الأميركية بسبب "حفنة دولارات" نتقاضاها من الحكومة مقابل مواقفنا.

ما لا يعرفه القراء الأعزاء أن الولايات المتحدة دولة تختلف عن معظم دول العالم في تعريفها لمن هو الأميركي. قد يكون السبب أنها دولة يافعة نسبيا، عمرها أقل من ثلاثة قرون، تأسست على أيدي خليط من الأعراق والأجناس والمذاهب، ما جعل من المواطنية فيها مبنية على الولاء للأفكار المؤسسة للجمهورية، لا الولاء لقبيلة أو لعرق أو لمكان جغرافي.

والأميركي هو كل من أقسم الولاء للجمهورية ودستورها، ومطلعه "نحن الشعب"، وتمسك بتعديلاته، وأولها حرية الرأي والمعتقد. والدستور الأميركي هو وليد الثورتين الأميركية والفرنسية، اللتين ثارتا على آلاف السنين من المبادئ التي تبني شرعية الحاكم على اختيار إلهي، يتمثل غالبا بمراسم يسبغها الهيكل على الملك. وفي الفلسفة اليونانية القديمة أن الفيلسوف، أي الأكثر علما، هو الملك، وهو من يجمع عنصري الحياة الأساسيين: الحكمة والقوة.

أميركا هي فكرة، إذن، مفادها أن الناس ولدوا أحرارا، وأن الحكومة التي يختارونها ويقسمون الولاء لها تكفل استمرار هذه الحرية، مع محاولة التوفيق بين الحرية الشخصية ومقتضيات الحيز العام (مثلا يصعب تجول الفرد عاريا في المساحات العامة، على الرغم أن هذا يندرج في خانة الحرية الفردية).

أما في نطاق الرأي، فالحرية في أميركا مطلقة، ولا يحدها إلا التحريض على العنف. وغالبا ما يختلط على غير الأميركيين الحرية المطلقة في أميركا مع المقيدة بعض الشيء في أوروبا. مثلا، يعاقب القانون في فرنسا كل منّ ينكر حصول المحارق اليهودية. لكن في أميركا، الحرية مطلقة، حتى في إنكار المحارق، لا مسؤولية قانونية أو جزائية على من ينكرها، أو على من يجدّف بالأديان، أو على من يتعبد لأي إله أو بأي شكل.

هذه الحرية ترفع من تقدير المواطن لنفسه، وتعلي من شأن رأيه الذي لا ينصاع بالضرورة لرأي الجماعة، وتجعله فخورا بمواطنيته التي تساويه بعلية القوم، حتى برئيس الدولة نفسه. وهذه الحرية تفتح باب الابتكار، في العلوم والتكنولوجيا والسياسة والأدب والفن. وغياب القمع، بدوره، يساهم في تعزيز الاستقرار الأمني والمجتمعي.

يقول بعض المهاجرين إلى أوروبا إنهم على الرغم من نيلهم الجنسية، ما يزالون يعانون من تمييز الأوروبيين الأصليين ضدهم. هذا أمر لا يحصل في أميركا، وإن حصل، فبنسب منخفضة جدا. لهذا، يشعر المهاجرون إلى الولايات المتحدة بملكيتهم لوطنهم الجديد، ما يدفعهم للحرص عليه والدفاع عنه، أكثر من نظرائهم الأوروبيين.

أميركا الفكرة أنجبت دولة تتربع على عرش العالم على مدى أكثر من قرن: أكبر اقتصاد، أكثر الجيوش تطورا، أكبر عدد من براءات الاختراع، ريادة في الثقافة والفن، ريادة في التغييرات المجتمعية.

وكالفكرة الأميركية المتجددة، كذلك الحكومة، فالنظام الأميركي يصرّ على تغيير رئيس الدولة وفريقه كل ثماني سنوات، وهو تغيير له تأثيرات إيجابية لا تحصى، إذ هو يضخ أفكارا جديدة في الحكم، ويسمح بتجربة السياسات بشكل مستمر، وانتقاء الجيد منها، والتخلي عن السيء.

انحيازنا لأميركا هو بسبب تجربتنا الشخصية التي لا تضاهى، وهي تجربة نعيشها في وطن يمنحنا كرامة فردية لم نحس بها في أوطاننا الماضية، حيث الكرامة جماعية دائما، وبتصرف القائد وحده.

ووطننا الاميركي يمنحنا حرية شخصية تسمح لنا أن لا نخفي أهواءنا أو أخطاءنا، وتسمح لنا أن نطلق عواهن مخيلاتنا، قولا وفعلا، وأن نكون من نريد أن نكون، وقت نشاء، بلا ضرورات أمنية وقومية، وبلا محظورات مجتمعية، وبدون تخوين، أو تعييب، أو قمع.

هي كرامة وحرية فردية تخلص الفرد من قيود الجماعة وظلمها، فالأمة ليست كائنا متجانسا، بل مجموعة أشخاص مختلفين في كل شيء، لا يجمعهم ـ كما في الحالة الأميركية ـ إلا احترامهم لحرية الآخرين، وللديمقراطية، وللمساواة.

التجربة الأميركية هي تجربة نتمناها لإيران، وللعراق، وللبنان، ولسوريا، ولكل دول العالم. هي تجربة يمكن لأميركا دعمها معنويا، وسياسيا، ولكن ـ منذ تجربة العراق ـ لا يمكن للقوة العسكرية الأميركية فرضها أو هندستها، إذ على قول المثل الإنكليزي، "يمكن أن تأخذ الحصان إلى النهر، ولكن لا يمكن أن تجبره أن يشرب".

اخرجوا إلى الشارع، قولوا ما شئتم، أحبوا من شئتم، اشتموا من شئتم

والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الولايات المتحدة يشي بنجاح تجربة الديمقراطية الأميركية، وضرورة تكرارها في دول العالم، خصوصا الدول التي ما تزال تعيش في ظل أنظمة قروسطوية، مثل إيران، التي ينص دستورها على أنها دولة الشيعة الاثني عشرية، ما يحصر قيادتها بمواطنين من مذهب واحد، ويحرم الإيرانيين من مذاهب أخرى من ملكية وطنهم بشكل كاف، والطموح لقيادته يوما.

لن تأتي حرية اللبنانيين، ولا العراقيين، ولا الإيرانيين، ولا حقوق نسائهم، إلا بتضحياتهم، وأصوات صراخهم، وثوراتهم، لا على الطغاة فحسب، بل على موروثات المجتمع البالية والتقاليد: اخرجوا إلى الشارع، قولوا ما شئتم، أحبوا من شئتم، اشتموا من شئتم، عادوا إسرائيل، صالحوها، صلّوا، اكفروا، تعلموا من تجاربكم، واسعوا لسعادتكم، شخصيا لا جماعيا.

هي حياتكم، وهي حريتكم، وليس ابن الأسد أحسن منكم في شيء، ولا بنات عون، ولا صهر إردوغان. هو وطنكم، هي تجربتكم، عيشوها أحرارا، أو لن تعيشوها أبدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق