الثلاثاء، 11 فبراير 2020

السلطنة العثمانية وفسادها وطغيانها

حسين عبدالحسين

في صفوف النخبة العربية، وعدد كبير من العرب السنة في المشرق، حنين لماضٍ عثماني مجيد متخيل، كما في كتب الصحافي اللبناني الأميركي الراحل أنتوني شديد، والأكاديمي اللبناني أسامة مقدسي، والمستشرق الأميركي مايكل بروفنس، وهو حنين مبني على العداء للإمبريالية الغربية ولسلطة الانتداب في المشرق والعراق ومصر والخليج، وهو العداء نفسه الذي بنى عليه الفلسطيني الأميركي الراحل إدوار سعيد نظريته حول "الاستشراق".

في هذه النظريات المعادية للإمبريالية تصور أن السلطنة العثمانية لم تكن مريضة، ولا متعثرة، بل كانت متقدمة ومتطورة، ولكن مختلفة في عاداتها وطرقها عن الغربيين، الذي اجتاحوا السلطنة مدفوعين بنظرية غربية مسيحية فوقية تجاه ما كانوا يعتبرونه دونية الشرقيين المسلمين.

ولأن الكولونياليين حاقدون أشرار، عمدوا إلى تفتيت السلطنة وتقاسم مغانمها، بما في ذلك إهداء قسم منها لليهود لإقامة دولتهم في ولاية القدس وجزء من ولاية بيروت.

ولا يرى معادو الإمبريالية التناقض بين عدائهم لترسيم الأوروبيين لحدود دول المشرق وتمجيدهم لفلسطين واعتبارها قائمة منذ الأزل. حتى أن معادي الإمبريالية غالبا ما يسخرون من دول مثل لبنان، ويعتبرونه صنيعة الإمبريالية الأوروبية، وكأن فلسطين لم يصنعها الانتداب الأوروبي نفسه.

"في العام 1874، هزم محافظو بنيامين دزرائيلي رئيس حكومة بريطانيا وليام غلادستون وحزبه الليبرالي"، يكتب بروفنس في كتابه "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث". ويضيف أنهم كمعارضين كانوا يستعدون لاستعادة السلطة، راح الليبراليون يحرّضون ضد المسلمين العثمانيين وشنوا حملة ضد دزرائيلي وسياسته المتسامحة تجاه السلطنة. واعتبر بروفنس أن هذا العداء البريطاني العنصري أجبر السلطنة على التخلي عن صداقتها مع بريطانيا وإقامتها تحالفا مع ألمانيا.

غريب ألا يتنبه مؤرخ إلى أن العلاقة البريطانية لم تتأثر بالثرثرة السياسية داخل لندن، بل كانت نتيجة تغير في طرق التجارة الدولية، فبريطانيا كانت حصلت على امتيازات تجارية داخل السلطنة، منذ العام 1520، وهي امتيازات سمحت لها بالاتجار مع الهند على مدى أكثر من 300 عام، إلى أن تم شق قناة السويس في مصر الخديوية، في العام 1869، وهو ما قلّص المسافة بين أوروبا والهند، وجعلها تجارة بحرية فقط، بدلا من حاجتها لعبور الجسر البري العثماني. لهذا السبب، تلاشى الاهتمام البريطاني بالسلطنة، وانصب على احتلال مصر وقناتها الاستراتيجية.

ومع تراجع الاهتمام البريطاني، تراجعت أموال الرشاوى التي كانت تقدمها لندن للطبقة السياسية العثمانية الغارقة بالفساد، وهو ما دفع السلطنة إلى البحث عن حلفاء أوروبيين، فوجدت ضالتها بمنافسة بريطانيا الصاعدة ألمانيا، التي مولّت خط قطار برلين بغداد، الذي كان من المفترض أن يصل الكويت، وهو ما كان من شأنه منافسة قناة السويس والتجارة البريطانية مع الهند، فقامت لندن بكفالة استقلال الكويت عن السلطنة، وأحبطت وصول خط القطار إلى مياه الخليج.

وبعد الحرب العالمية الأولى، حاولت بريطانيا إدارة المشرق بمفردها، لكنها تراجعت تحت ضغط فرنسي، ورسم الحليفان خريطة الشرق الأوسط، في الغالب بشكل يضمن تدفق النفط المكتشف في البصرة وكركوك إلى شواطئ المتوسط، حتى تحمله الناقلات إلى أوروبا.

ورعت بريطانيا الغالبية السنية في أراضي نفوذها، فيما رعت فرنسا الأقليات غير السنية، فثارت الأقليات، مثل شيعة العراق من عشائر الفرات الأوسط، ضد الحكم السني لهم، وثار السنة في سوريا ولبنان ضد حكم الأقليات لهم. أما السعودية، فرسمت حدودها مع المشرق والعراق بحسب ديار العشائر التي تحالف معها المؤسس عبدالعزيز ابن سعود، الذي خاض معارك سياسية ضد الأوروبيين لتوسيع رقعة حكمه إلى أقصى حد ممكن.

وفي وقت لاحق، وجدت الولايات المتحدة فرصة ممتازة للتحالف مع السعودية ضد الأوروبيين في الشرق الأوسط، وحاولت أميركا توسيع تحالفها ليشمل مصر الناصرية، التي استفادت من الدعم الأميركي لانتزاع قناة السويس من أيدي الأوروبيين.

لكن المستشرقين ومدرسة إدوار سعيد لا ترى الأمور من باب المنافسة التجارية العالمية، بل من باب صراع الهويات والإثنيات والقوميات، فيما يثبت التاريخ أن صراع الهويات هو العنوان الشكلي للصراع الفعلي، أي صراع المصالح.

وبسبب نظرتهم الهوياتية للتاريخ والصراعات، يتمسك المستشرقون وسعيد بتاريخ متخيل تبدو فيه السلطنة العثمانية واحة من التسامح والعيش الحر، وكأن الفرق الموسيقية العثمانية كانت تعزف على قارعة الطرقات للمواطنين الذين كانوا يرقصون فرحا.

أما الواقع، فمختلف. لم تكن السلطنة دولة عصرية، بل إمبراطورية قروسطوية، حكمها مبني على شرعية إلهية إسلامية، يتآمر فيها السلاطين على بعضهم البعض، وينحازون لحكام ولاياتهم الموالين لهم ضد الأقل ولاء.

هكذا، شن ولاة عكّا، شمال فلسطين، حملات عسكرية متكررة ضد جنوب لبنان ذي الغالبية الشيعية والمسيحية، وأحرقوا القرى، واعتقلوا رجال الدين والأعيان. من رجال الدين اللبنانيين كان صدرالدين شرف الدين، الذي هرب من طغيان والي عكا إلى النجف، وانتقل فيما بعد قسم من أبنائه إلى إيران. صدرالدين هذا، هو الذي أعطى اسمه لعائلة رجال الدين الذين لعبوا أدوارا قيادية في لبنان، مثل موسى الصدر، وفي العراق، مثل محمد باقر الصدر ومحمد محمد صادق الصدر ونجله مقتدى.

وفي زمن السلطنة، قامت اسطنبول بمحاكمة حكام جبل لبنان فخرالدين المعني وبشير الشهابي. وفي زمنها كانت حروب أهلية في جبل لبنان في 1840 و1860. وفي زمن السلطنة اجتاح ابراهيم محمد علي، ابن حاكم مصر، المشرق، ولم يتوقف لولا منعته بريطانيا، التي كانت ما تزال ترغب في حماية امتيازاتها التجارية مع العثمانيين. وفي زمن السلطنة، مجازر بحق الأقليات على أنواعها، الأرمن والسريان المسيحيين وغيرهم.

لم تكن السلطنة العثمانية دولة الأحلام التي تآمر عليها الأوروبيون، بل كانت دولة إسلامية، على غرار معظم دول العرب اليوم، يحكمها فاسدون، ويغرق سكانها في دوامة حروب مذهبية وعرقية، ويلجأ حكامها إلى الشعبوية الإسلامية، ويحرّضون ويضطهدون الأقليات.

لم تأت الفوضى إلى الشرق الأوسط مع الأوروبيين، ولا مع العثمانيين، بل تعيش المنطقة في صراعات مستمرة، حتى في ذروة زمنها الذهبي المتخيل، انخرط ولدا الخليفة هارون الرشيد في حرب أهلية على الحكم.

أما القول إن الشرق الأوسط كان يعيش في وئام إلى أن جاء الأوروبيون وولوا، فقول المستشرقين والمتعدين على مهنة التأريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق