الثلاثاء، 3 مارس 2020

فلسطين قبل إسرائيل

واشنطن - من حسين عبدالحسين

أثارت تغريدة بثّها الإعلامي في قناة الجزيرة القطرية فيصل القاسم جدالا، وجاء فيها أن "غالبية العرب إذا أرادوا أن يشتموك يصفونك بالصهيوني، مع العلم أن أنجح مشروع في القرن الماضي والحاضر هو المشروع الصهيوني، بينما فشلت كل مشاريع العربان وخاصة القومجية العربجية. لهذا يا عزيزي قبل أن تستخدم كلمة صهيوني كشتيمة يجب أولا أن تصل إلى شسع نعل الصهيونية وبعدين منحكي".

قبله، كنت كتبت تعليقا قلت فيه إن "إسرائيل صنعت دولة من لا شيء، فيما العرب صنعوا لا شيء من دولهم"، وهو ما أثار جدالا، وإنما على نطاق لا يتعدى حدود أصدقائي الشخصيين. المعترضون على ما كتبت اتهموني بالتغافل عن أن لفلسطين تاريخ سابق لقيام إسرائيل، التي سرقت دولة كاملة، وأسمتها إسرائيل. وأشار صديق أن ما كتبته يستعيد الدعاية الصهيونية القائلة إن الإسرائيليين كانوا شعبا بلا أرض لأرض بلا شعب، وهو ما يجافي التاريخ، إذ أن أرض فلسطين كانت مأهولة بعرب، مسلمين ومسيحيين ودروز ويهود.

صحيح أن الأرض كان يسكنها عرب، إلا أن هذا لا يعني أن الصهيونية استولت على دولة كانت قائمة قبل الانتداب. فلسطين ـ من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط ـ هي صنيعة الكولونيالية الأوروبية، حسب اتفاقية سايكس ـ بيكو.

قبل إقامة البريطانيين فلسطين، لم يكن في التاريخ دولة بهذا الاسم، ولم تمارس أي من المدن الفلسطينية أي سيادة. حتى القدس، على الرغم من مكانتها الدينية لدى المسلمين، لم تكن يوما عاصمة لأية إمبراطورية أو دولة أو إمارة إسلامية، على عكس دمشق الأمويين وبغداد العباسيين وقاهرة الفاطميين.

وعلى مدى تاريخهم، لم يسبق أن حكم الفلسطينيون أنفسهم، بل كانت مناطقهم محافظات تابعة لحكومات بعيدة عنهم، إن في القسطنطينية قبل الإسلام، أو دمشق وبغداد والقاهرة بعد الإسلام، ثم القسطنطينية بعدما أصبحت اسطنبول، إلى يوم زوال الحكم العثماني وقيام الانتداب البريطاني في العام 1920.

ما نعرفه عن الفلسطينيين أنهم من "شعوب البحار" غير السامية، وأنهم غزوا سواحل المتوسط الشرقية والجنوبية، فتصدى لهم فراعنة مصر ومنعوا استيطانهم. الفينيقيون بدورهم توصلوا معهم إلى ترتيب قضى بعدم اقتحام الفلسطينيين الساحل الفينيقي، الذي كان يمتد حتى عكّا. أما الإسرائيليون ـ وديارهم كانت في وادي الأردن ولم يكن معروفا عنهم العيش في مناطق ساحلية أو اتقان فن الإبحار ـ فلم يمنعوا الفلسطينيين من استيطان الساحل الممتدة من يافا إلى العريش.

ومع مطلع الألفية الميلادية، نظّمت الإمبراطورية الرومانية محافظاتها، فأطلقت اسم بالستينا على ثلاث محافظات مشرقية جنوبية، وفينيقيا على محافظتين، وسوريا على اثنتين، وعربية على مناطق النبط في الأردن. وعندما ساد العرب في القرن الميلادي السابع، حافظوا على بعض اسم المحافظات الرومانية، وأنشأوا "جند فلسطين".

لكن على عكس فينيقيا، التي كان لشعوبها لغتهم وديانتهم وتقاليدهم وسيادة على مدن، وأحيانا إمبراطورية بحرية في حوض المتوسط، وعلى عكس العرب الأنباط الذين تحدثوا بلغة نبطية متأخرة يعتقد اللغويون أنها أنجبت العربية، والذين امتدت مملكتهم من حوران شمالا إلى جوار يثرب جنوبا، لم يكن للفلسطينيين دولة معروفة أو لغة أو آلهة. في زمن الرومان، كان سكان فلسطين رومان، وفي زمن العرب، تعرّبوا.

هذا ليس انتقاصا من الفلسطينيين أو تاريخهم، فهم تعرّبوا وتبنوا تقاليد المشرق وأضافوا إليها وأغنوها، ولكنهم لم يمارسوا سيادة، ولا أقاموا ممالك، ولا جيوش، ولا مؤسسات، والأخيرة هي الأهم.

لا نعرف السبب الذي دفع البريطانيين إلى رسم فلسطين على شكلها الانتدابي. نعرف قصة حدودها الشمالية. نعرف أن نهر الأردن كان يشكل، نوعا ما، الحدود بين مملكتي الأنباط وإسرائيل. وكانت روما فرغا من حلّ الممالك المشرقية وتحويلها إلى محافظات مع حلول العام 106 ميلادية. ربما تأثر شكل فلسطين بوعد بلفور البريطاني لإقامة وطن قومي لليهود، فجاء شكل فلسطين الانتداب يشبه إلى حد ما إسرائيل قبل أن يحلّها الرومان.

في الانتداب وبعده، راحت الدول القائمة على رفات الولايات العثمانية تعيد إحياء تاريخها القديم: اللبنانيون استعادوا تاريخ إمارات فينيقيا، والسوريون استعادوا تدمر وأوغاريت، ومثلهم فعل العراقيون الذين أسسوا قوميتهم على أساس حضارة الرافدين. حتى اسم العراق مشتق من عروق، أقدم مدينة بشرية، جنوب العراق ومندثرة اليوم، يذكرها الأدب الإسلامي باسم الوركاء.

لم يكن لدى الفلسطينيين تاريخ ما قبل إسلامي، فحاولوا بناء هويتهم على قومية عربية أو إسلامية، استنادا إلى أهمية القدس في تاريخ الأمويين. كما لعب العداء للوافدين اليهود حيزا واسعا في صهر هوية قومية فلسطينية.

على أن الفارق بين عرب فلسطين ووافديها اليهود كان الفشل العربي الذريع في بناء مؤسسات يمكنها خوض المواجهات المطلوبة وبناء دولة فلسطينية، مقارنة بالنجاح اليهودي الباهر في بناء مؤسسات صهيونية سبقت قيام إسرائيل وقادت إليه، وهو نجاح تجلى في انتصار الجيش الصهيوني على جيوش خمس حكومات عربية قائمة.

طبعا يعزو العرب والفلسطينيين فشلهم إلى مؤامرة كونية ضدهم لمصلحة اليهود، ويندر أن يسألوا أنفسهم: كيف نجح اليهود، الذي كانوا يعانون من معاداة السامية في عموم العالم، في حشد التأييد الدولي لمصلحتهم؟ وكيف نجح اليهود، الذين لم يمارسوا أي سيادة أو حكم منذ ألفيتين قبل قيام إسرائيل، في إقامة مؤسسات صهيونية تحولت إلى وزارات ووكالات حكومية لدولة إسرائيل؟ وكيف نجح اليهود في إعادة إحياء العبرية، التي كانت تقتصر على سبعة آلاف كلمة في التوراة، واستنبطوا منها لغة حية اليوم فيها أكثر من 20 ألف كلمة.

أما الفلسطينيون، فلا مؤسسات لديهم، لا قبل فلسطين، ولا بعدها، ولا بعد إسرائيل، بل المؤسسات الفاسدة المعهودة في دنيا العرب، ورئيسين فقط للسلطة الفلسطينية في 27 عاما. فيصل القاسم على حق، الصهيونية ناجحة وخصومها العرب فاشلين. أما لمن الحق في الأرض فنقاش ليوم آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق