الثلاثاء، 28 أبريل 2020

نهاية الحضارة العربية

حسين عبدالحسين

شنت المقاتلات الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، هجوما استهدف معسكر إعداد وتدريب خاص بـ "لواء فاطميون" الأفغاني، التابع لـ "الحرس الثوري الإيراني"، بمنطقة التليلة، في تدمر، شرق سوريا. وقالت مواقع المعارضة السورية إن "المعسكر المستهدف يرتبط بالقاعدة الإيرانية المتواجدة بمطار تدمر العسكري، والتي طالتها عملية الاستهداف أيضا".

وقبل استعادة نظام الرئيس السوري بشار الأسد السيطرة على تدمر، وقعت المدينة التاريخية تحت سيطرة برابرة تنظيم "داعش"، الذين دمّروا أجزاء من المدينة الأثرية التي يعود تاريخها إلى زمن ميلاد يسوع المسيح. ويعتقد برابرة "داعش"، وغالبيتهم من السنة العراقيين، أن المواقع الأثرية وأضرحة القديسين والسادة والسلف هي بدع، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، مع العلم أن ضريح الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان قائم قرب بغداد، ويزوره المسلمون السنّة على مدى الألفية المنصرمة، وما الصحوة الإسلامية ضد الضلالة المزعومة إلا خزعبلات حديثة، تنقضّ عليها، ولحسن الحظّ، معظم الحكومات العربية.

هكذا، من بربرية الإسلام السياسي السني المعروف بـ"داعش"، إلى بربرية الإسلام الشيعي المعروف بالحرس الثوري الإيراني وأذرعه مثل "لواء فاطميون" الأفغاني، عانت تدمر وما تزال تعاني من عصر نهاية الحضارة العربية، عصر يسود فيه التخلف بدون حياء ولا خجل، عصر يعتقد فيه بعض السنة أنهم في عصر الجهاد والفتوحات الإسلامية وغزواتها وسبايها، فيما يعتقد بعض الشيعة أنهم يحكمون باسم إمامهم المنتظر.

مسكينة هي تدمر، ومسكينة هي حضارة العرب والفرس التي آلت إلى البربرية التي وصلت إليها. لم تكن تدمر تعيش في ظل التخلّف الذي تعاني منه اليوم، بل كانت هذه المدينة، ومعها حمص وبعلبك غربا، وإلى جنوبها حوران وبصرى وربة عمون، أي عمّان، حتى بترا فالحجر والعلا وتيماء، شمال الحجاز، كل هذه المدن شكّلت مهد الحضارة العربية المسماة جاهلية.

في جنوب سوريا عثر المنقّبون الفرنسيون على شاهدة قبر امرؤ القيس تصفه ملكا للعرب، وهي مكتوبة باللغة النبطية المتأخرة، قبل أن تتطور هذه إلى العربية. لم يتكلم العرب العربية، بل هم منحوا اسمهم للغة التي صارت معروفة بالعربية، أو عربية القرآن، بعدما راحوا يتحدثون بها قبل الإسلام. عثر الكولونياليون الفرنسيون على الشاهدة، ولحسن حظّ الحضارة العربية سرقوها، فنجت من جنون "داعش" ومن حروب "فاطميون"، وما تزال معروضة في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية.

لم تكن تدمر مسرحا للبربرية في تاريخها، بل هي كانت مسرحا لديمقراطية عربية حققت حياة رغيدة لناسها. يقول المؤرخ العراقي الراحل جواد علي، في موسوعته "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، إن تدمر تأثرت "بأصول اليونان والرومان وطرقهم في إدارة الحكم، فكان للمدينة مجلس شيوخ له سلطة سن القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب وجملة أعضاء، ويشرف على السلطة القضائية شيخان وديوان يتألف من عشرة حكام. أما السلطة القضائية، فينظر فيها بعض الوكلاء وغيرهم من العمال".

ويضيف علي أن تدمر كانت عاصمة التجارة بين الإمبراطوريات، وكان للتدمريين محطات تجارية في المناطق التي تتاجر معها على ضفاف الفرات، كما على ضفاف النيل، وحتى في روما نفسها، ما عاد على المدينة وشعبها بثروات طائلة. واستطاع المنقبون التأكد من غنى التدمريين من قماشة الأكفان التي عثروا عليها في النواويس، وهي أكفان مصنوعة من الحرير الفاخر المستورد من الصين، وكان ذلك قبل حوالي ألفي عام.

في قلب ازدهار تدمر وتطور حضارتها كان التسامح. لم يكن عند التدمريين إلها مركزيا ولا دينا مفروضا على الناس، بل آلهة متعددة، وأديان متعددة، بما في ذلك الأديان التوحيدية، التي عاشت في تدمر، وبشّرت فيها، كاليهودية. حتى أن بعض الروايات تعزو بناء المدينة إلى النبي سليمان، ملك اليهود، لكنها قصص لا إثباتات تاريخية. واليهود سكنوا تدمر، مع العرب، وسكنوا مواقع تجارية أخرى، مثل دورا يوروبوس على ضفة الفرات (بالقرب من صالحية دير الزور)، والتي عثر المنقبون فيها على كنيس يهودي.

لم يضطر اليهود للإغارة على تدمر خوفا على حياتهم من البرابرة التي يسكنونها اليوم، بل كانت تدمر العربية قبلة اليهود، الذين وفدوا إليها بحثا عن حياة أفضل.

ما جرى؟ (وهي عبارة تلفظ باللغتين العربية والعبرية بالطريقة نفسها مع تباين في حرف الجيم وتعني الشيء نفسه)؟ وكيف انتهت حضارة العرب؟ وكيف تحوّل بعض العرب من تجّار يعرفون أن مصلحتهم تكمن في العيش في سلام مع كل محيطهم، وأنها تكمن في حكومة منتخبة وتداول على السلطة، إلى ميليشيات وغوغاء؟ كيف تحول العرب من ناس يتربعون على قمة التاريخ، إلى جانب الرومان والحضارات الأخرى، إلى ناس يعيشون إما في مخيمات تدريب الإرهابيين، أو في مخيمات اللجوء؟

هو واقع عربي مرّ وحزين، ولا سبيل للخروج منه بالاستمرار بنفس طرقه. لن تحلّ أزمة إيران ميليشا "الحرس الثوري"، ولن تحلّ أزمة لبنان الميليشيات المستنسخة عن "الحرس الثوري"، أي "حزب الله"، ولن تحلّ مشكلة سوريا المزيد من النسخات الميليشيوية كـ "لواء فاطميون" أو "لواء الباقر"، أو ميليشات الحشد الشيعي العراقية.

لا يذكر التاريخ أن الحروب أدت إلى عيش رغيد، بل إن التاريخ يشي بأنه لطالما ارتبطت الحياة الكريمة بالسلام والتعايش والتجارة، من الفينيقيين، إلى ملكي اليهود داود وسليمان، إلى تدمر والنبط. حتى أن قريش امتهنت التجارة، ورسول المسلمين نفسه كان تاجرا أدار أموال زوجته التاجرة.

فليعد العرب إلى السلام والتجارة، بدلا من التصفيق للبطولات الوهمية، والتهليل لتأميم القناة، ولأغاني السد العالي، ولصواريخ سكود على تل أبيب. كلها بطولات كلامية لم تغن العرب ولم تسمنهم، بل زادت بؤسهم بؤسا، وفقرهم فقرا، وتخلفهم تخلفا.

هناك تعليق واحد:

  1. قال السيد المسيح : "طوبى لفاعلي السلام، لأنهم أبناء الله يُدْعَون." ( أنجيل متى ٩/٥ ).
    وهذه الطوبى تشمل أيضاً الداعين الى السلام.
    بارك الله فيك سيّدي حسين عبد الحسين، فاذا كانت حضارة الغوغاء والبربر، وكل ما يمكنك ان تصفها به، على طريق الزوال، فلا أسف والله. فاذا زالت الأشياء القديمة، فها هي أشياء جديدة قد أتت مع من هم من أمثالك، فكرٌ نيّر وذهن متّقد.
    أعدت الأمل والرجاء الى نفسي.
    شكراً لكلمة الحق وشكراً لك.
    حفظك الله من كلّ شر.

    أيلي أبوسابا.

    ردحذف