الثلاثاء، 19 مايو 2020

لماذا لم يعلن الفلسطينيون دولتهم عام 1948؟

حسين عبدالحسين

مرّت الأسبوع الماضي الذكرى 72 لإعلان دولة إسرائيل، وهي نفس المناسبة التي يسمّيها الفلسطينيون "النكبة". الرواية بين الجانبين متنازع على كل تفاصيلها. يقول الإسرائيليون إنها أرض ممالكهم المتعاقبة، التي اندثرت آخرها في 136 ميلادية، فيما ينفي الفلسطينيون أي وجود لممالك إسرائيل، ويقولون إنها حتى لو وجدت، لا يعطي وجودها الحق للإسرائيليين بإقامة دولتهم بسبب الانقطاع الزمني الذي غاب خلاله الإسرائيليون عن الأرض. ويضيف الفلسطينيون أنهم كانوا يسكنون ويمتلكون مساحات واسعة من الأرض التي قامت عليها دولة إسرائيل، وأن هذا يعني أن الحق للفلسطينيين في إقامة دولتهم بدلا من الإسرائيليين.

والولايات العثمانية ورثتها قوّتان أوروبيتان، هي بريطانيا وفرنسا، وكانتا تتصارعان فيما بينهما على النفوذ، وأعادتا رسم حدود الولايات وفقا لعاملين: الأول كان تحالف بريطانيا مع الغالبية السنية المسلمة التي كان وجهاؤها قادة في زمن العثمانيين، وهو ما دفع الفرنسيين لتشكيل تحالف مناوئ من الأقليات من المسيحيين والشيعة والعلويين والدروز. 

هكذا أقامت فرنسا خمس دول في المشرق، وحرصت على توزيع الغالبية السنية عليها حتى تتحول أقلية في معظمها، فصار لبنان دولة الغالبية المسيحية والشيعية في وجه أقلية سنية، وشكّل العلويون والإسماعيليون والمسيحيون والكرد غالبية بسيطة في دولة اللاذقية، ومثلهم كان الدروز في جبل العرب. أما الدولتان ذات الغالبية السنية تحت الانتداب الفرنسي، أي دمشق وحلب، فكانتا معزولتين بلا منافذ بحرية ولا حظوظ اقتصادية.

العامل الثاني في رسم دول المشرق العربي والعراق كان خطوط النفط. سعت بريطانيا لتأمين منطقة انتداب متواصلة لتمرير أنابيب نفط إيران والبصرة إلى سواحل المتوسط، واعتقدت فرنسا أنه يمكنها تمرير نفط كركوك إلى اللاذقية أو طرابلس. 

وفي الحالات التي لم ترتبط بعاملي التحالفات المذهبية أو النفط، لم تكترث بريطانيا أو فرنسا كثيرا لحق تقرير المصير. هكذا، انتزعت تركيا بالقوة لواء إسكندرون ذات الغالبية العربية، الذي أسماه العرب اللواء السليب وهو بمساحة الضفة الغربية، وتباكوا عليه لعقود، قبل أن يتنازل عنه رئيس سوريا الراحل حافظ الأسد لتركيا بالتزامن مع تسليم الأسد أنقرة زعيم الانفصاليين الكرد عبدالله أوجلان. ولم يكترث البريطانيون ولا الفرنسيون لحق الكرد في تقريرهم مصيرهم.

في فلسطين، رسمت بريطانيا دولة لا سابق تاريخي لها، فإسرائيل التاريخية قامت في حوض الأردن على ضفتيه، وبالكاد لامست المتوسط، ولم تتعد جنوب القدس بكثير. ربما أرادت لندن مراعاة حليفها الهاشمي بإعطائه ضفة من الأردن حسب حدود سنجق حوران العثماني، وإلا كان الأردن ليكون قطعة صحراء قاحلة. لكن بريطانيا لم تراع الترسيم العثماني لولاية عكّا، والتي غالبا ما أفلتت منها غزة لمصلحة المصريين، ولم تكن القدس فيها.

رفضت بعض شعوب المشرق والعراق تقرير مصيرها حسبما رسمه الأوروبيون. الشيعة أشعلوا ثورة الفرات الأوسط في العراق، والدروز أشعلوا ثورة في سوريا، والعلويون تخلّوا عن دولتهم بعد فترة، واندمجت أربعة دول لتنتج سوريا عاصمتها دمشق، وبقي شيعة البقاع اللبناني يرفضون لبنانيتهم ويوقعون عرائض للانضمام لحكومة دمشق حتى الستينيات. حتى المسيحيون في لبنان انقسموا بين مؤيدي لبنان الكبير، الفرنسي، والمطالبين بلبنان الصغير، أي المتصرفية العثمانية.

كيف تصرفت غالبية المسلمين، ومعهم المسيحيين، ممن وجدوا أنفسهم في فلسطين الانتداب؟ إقطاعيون منهم باعوا أراضيهم للوكالة الصهيونية وانتقلوا للعيش في لبنان. جزء آخر طالب بالانضمام لدولة عربية كان الأمير فيصل أقام حكومة باسمها لفترة وجيزة في دمشق وتحولت إلى "حلم عربي". قسم من الفلسطينيين انضم للتيار العثماني الذي أراد احياء الخلافة الاسلامية، وهو القسم الذي قاده مثقفون من أمثال اللبناني رشيد رضا، أستاذ حسن البنا المصري مؤسس "الإخوان المسلمين"، والسوري عزالدين القسام، الذي حرّض على ثورة مسلحة ضد البريطانيين في حيفا وكان مقتله شرارة ما عرف بثورة 1936.

لم تطالب غالبية المسلمين والمسيحيين بإقامة دولة فلسطين المستقلة مع زوال الانتداب، بل هم أرادوا الانضمام إلى دولة عربية أو إسلامية، فيما أعلنت الأقلية اليهودية ـ ومعها الدروز والبدو ـ أن فلسطين الانتداب هي دولتهم، وأسموها إسرائيل، فاندلع صراع وصل إلى الأمم المتحدة، ورضيت الأقلية بقيادة يهودية بقسمها، ولم ترض الغالبية بقيادة المسلمين بقسمها، فذهبت الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى الأردن، فيما أصبح قطاع غزة جزءً من مصر.

على مدى 19 عاما حتى العام 1967، لم يُقِم الفلسطينيون دولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة مع عاصمة في القدس الشرقية، ولم يمانعوا غياب سيادتهم وعيشهم تحت حكم الأردنيين أو المصريين، وشاركت تيارات فلسطينية كبيرة، بل قادت، القومية العربية وحلم إقامة دولة عربية من المحيط إلى الخليج، لكنه حلم تحطم مع هزيمة جمال عبدالناصر أمام إسرائيل، أي "النكسة"، في 1967.

وللتعويض عن خسارته، رعى عبدالناصر إقامة ميليشيات فلسطينية شنت حرب عصابات ضد إسرائيل. تلك كانت نقطة بداية الهوية الفلسطينية المبنية على فلسطين الانتداب ـ الدولة الانتدابية الهجينة التي عاشت 28 عاما بدون سيادة ـ قبل أن يصبح جزء منها إسرائيل، وتذهب الأجزاء الأخرى إلى الأردن ومصر.

لم يَسُد الفلسطينيون على فلسطين يوما، وهم حتى لو كانوا غالبية سكانية، وحتى لو كانوا يملكون غالبية العقارات، لا يعني ذلك تلقائيا سيادتهم، بل أن صاحب السيادة هو من أعلنها وفاز باعتراف عالمي بها، حتى لو كان أقلية، مثلما انتزعت تركيا السيادة على اللواء السليب ذات الغالبية العربية ونالت اعترافا بذلك، ومثلما حصل العرب على السيادة على مناطق الكرد وغيرها.

والسيادة أو عدمها عملية متواصلة تحتاج إلى موافقة حكام الأرض واعتراف المجتمع الدولي، وهو ما حاول الكتلان في إسبانيا، والإسكتلنديون في بريطانيا، والكرد في العراق القيام به، وفشلوا، على الرغم من ملكيتهم للأرض التي يعيشون عليها، إذ ذاك ارتضوا حكما ذاتيا كحل وسط.

إن حق تقرير المصير والسيادة عملية معقدة، فيها شيء من التاريخ، وشيء من الصدف، والكثير من القانون الدولي. أما التباكي على النكبة والنكسة، وشعارات "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" و"ما ضاع حق وراءه مطالب"، فمرواحة في الماضي وتجاهل للمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق