الثلاثاء، 12 مايو 2020

"الممانعة" في ركاكة حججها

حسين عبدالحسين

أكثر ما نجح فيه "محور الممانعة"، أي إيران والميليشيات التابعة لها في المنطقة، هو تحويل أي حوار عن السلام مع إسرائيل إلى خيانة موصوفة. حتى التلفّظ بكلمة إسرائيل صار بمثابة الكفر بالدين. الأغرب أن أهل "الممانعة" لا يرون أن معاداتهم للسلام مشكلة. في الحضارات البشرية المتعاقبة، لطالما كان السلام هدفا ساميا. أما في عقل "الممانعة"، فصارت الحرب ـ ومعها الموت ـ هي الخيار المحمود، وصار السلام مع إسرائيل والحياة الآمنة رجس من عمل الشيطان.

وإلى معاداة السلام، قلبت "الممانعة" ـ المنبثقة عن سطحية الإسلام السياسي ـ مفاهيم الحوار، حتى صارت المحاجّة مع الممانعين عبثية تغرق في منطق دائري يناقض نفسه. يقول الممانعون إن سبب وجود ميليشيات "المقاومة"، مثل "حزب الله" في لبنان و"حماس" في غزة، هو حماية اللبنانيين والغزاويين. ثم عندما تقول للممانعين إنه إن كان هدف "المقاومة" حماية اللبنانيين، مثلا، فقد تسبب "النصر الإلهي" المزعوم بمقتل 1200 لبنانيا، وتدمير تطلّب مليارات الدولارات لإعادة الإعمار. 

إسرائيل واجهت خسائر كذلك، لكنها كانت أصغر بما لا يقاس، إذ بالكاد بلغت الخسائر البشرية الإسرائيلية مئة، ولم تعان بنية إسرائيل التحتية من خسائر تذكر.

يتابع الممانعون أن "حزب الله" لم يتسبب بالموت والدمار في لبنان، بل هذه مسؤولية إسرائيل، تعيد تذكيرهم أن هدفهم المعلن هو ردع إسرائيل، يردّون أن إسرائيل لم تحقق هدفها باجتثاث "المقاومة". هكذا، مات اللبنانيون وبقيت "المقاومة"، ما يعني أن لبنان هو الذي حمى "حزب الله"، مثلما حمى الغزاويون ومستشفياتهم ومدارسهم صواريخ "حماس"، فيما المتعارف عليه هو أن دور "المقاومة" هو حماية الناس، لا العكس.

ثم تقول للممانعين إن "حزب الله" و"حماس" فشلا في منع الموت والدمار، وتسببا بانهيار اقتصاد لبنان وغزة بسبب وجود الميليشيات التي أدت إلى عزلهما عن المجتمع والاقتصاد الدوليين، وأن تكلفة بقاء الميليشيات أفقرت اللبنانيين والغزاويين، يردّون أنه لولا "حزب الله" و"حماس" لمات اللبنانيون والغزاويون. تردّ أن اللبنانيين والغزاويين ماتوا فعليا، إما في الحروب الإقليمية أو من الفقر والعوز، يرّدون بتقديم تقارير إسرائيلية تشيد بقدرات "حزب الله" و"حماس" العسكرية. 

تقول لهم إن تقارير إسرائيلية أخرى تشير لاستعداد إسرائيل لسلام فوري كامل مع لبنان وغزة، يرّدون أن كل من يصدّق إسرائيل هو عميل لها. يعني يصدقون إسرائيل فيما يناسبهم، ويكذّبونها فيما لا يناسبهم، ثم يرددون المقولة التي يبرع بها الإسلام السياسي عموما، أنهم أصحاب حق، وأن كل الآخرين على باطل.

وقصة أن العرب أصحاب حق مؤكد لا ريب فيه، وأن الإسرائيليين يزوّرون التاريخ، وأن العالم يتآمر على العرب والمسلمين، كلها قصص قد يخالها صحيحة من يعيش في كنف الدعاية العربية والإيرانية عن التاريخ الإسلامي والصراع الفلسطيني مع إسرائيل.

التاريخ الإسلامي بحاجة إلى إعادة نظر بأكمله، إذ أن اعتبار أن العرب كانوا قبل الإسلام برابرة يعيشون في جاهلية مشكلة. والتاريخ الإسلامي كتبه الخليفة العباسي المأمون، الذي يشتهر بالتزوير بنقشه اسمه كباني مسجد قبة الصخرة، بدلا من الباني الفعلي خليفة الله الأموي عبد الملك بن مروان.

إن كان العرب جادين في البحث عن تاريخهم في فلسطين، عليهم التنقيب في صحراء النقب جنوب إسرائيل، حيث الموقع الأثري عبدات، نسبة إلى الملك الإله النبطي عبيدة. وعبدات هذه تقع في منتصف الطريق الذي يربط بترا، عاصمة النبط، بمرفئهم في غزة، الذي كان قائما تحت حي الرمال الراقي في القطاع اليوم، على مقربة من ميناء الصيادين. وكانت الصدف كشفت أعمدة رومانية، ما يشي أن لغزة تاريخ مجيد، عربي قبل الإسلام، لم نعمل كفاية على اكتشافه.

مرفأ غزة هو الذي كانت تصله سفن روما، فتفرغ حمولتها فيه، وتحمل منه بخّور اليمن لاستخدام المعابد، وتحمل منه حرير الصين، وتحمل منه بهارات الهند. وفي عبدات أكفان من الحرير الصيني، مثل في تدمر السورية. هكذا كان النبط: تجّار أثرياء يتسلمون البخور اليمني في ديدان والحجر، قرب يثرب، ويتسلمون حرير الصين وبهارات الهند من بابل عبر عرعر ودومة الجندل وتيماء، ويحملونها عبر وادي سرحان شمالا إما إلى بصرى أو بترا، فغزة.

في محيط عبدات، كشف الخبراء عددا من مزارع الكرمة ومصانع النبيذ النبطية التي تعود إلى القرون السبعة الأولى للميلاد، وفي مرفأ الإسكندرية، عثروا على جرّات عربية نبطية كانت تحمل النبيذ الفلسطيني من غزة إلى مصر برّا (تيارات مياه المتوسط تجري عكس عقارب الساعة، ما يجعل السفر في البرّ من غزة إلى الإسكندرية أسرع من البحر، والعكس صحيح). 

لم تنهر الحضارة النبطية إلا بعد سلسة زلازل قاسية كان آخرها سنة 750 ميلادية، ما أفقدها خزانات المياه والقنوات الصخرية، وحرم النبط قدرة البقاء في مناطق كان التصحر يزحف إليها.

مع تراجع طريق بترا ـ غزة التجاري، راحت القوافل تتجه شمالا إلى عمّان، ثم تستدير غربا لتقطع نهر الأردن إلى القدس ومنها إلى ساحل المتوسط. هكذا صعدت إيلياء الرومانية (القدس) في أهميتها، وراح التجّار العرب ينقلون قواعدهم من الجنوب إلى الشمال، حتى صارت دمشق عاصمتهم، إلى أن انهارت حضارة النبط في 750، فصعدت بدلا منها بغداد، وراح حكام بغداد من التجار البرامكة، وهم من قندهار الأفغانية، يعيدون كتابة التاريخ العربي بشكل أطاح بالأمويين، وزاد من تأثير خراسان وأساطيرها في تاريخ العرب، على حساب الغرب والمسيحية البيزنطية.

قبل سنجق القدس العثماني في 1804 وفلسطين الانتداب في 1920، يندر أن كانت غزة تابعة للقدس، بل أن غزّة كانت أكبر من القدس في 1838، ما يعني أن إصرار حماس على تحرير القدس كعاصمة حتى تتبع لها هو من إرث الانتداب، لا التاريخ العربي.

لم تكن غزة تعجّ بصور الأموات، ولا الأعلام خضراء، ولم تعش شقاء كاليوم، بل في تاريخها، كانت غزة النبطية العربية ابنة بترا ومدائن صالح وعبدات، وكانت من درر المتوسط. كانت غزّة تصدّر البخّور والبهارات والنبيذ، وتستورد الذهب الروماني والقمح المصري والصناعات القرطاجية.

لا حجج "الممانعة" عن ضرورة مواصلة الحرب والموت مقنعة، ولا تاريخ فلسطين كدولة مكتملة المعالم أو السيادة صحيحا، ولا القدس كعاصمة فلسطين عبر التاريخ صحيحا، بل كلّها دعاية وسياسة تطيل شقاء العرب وتقضي على مستقبلهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق