الثلاثاء، 30 يونيو 2020

ميليشيات المرشد

حسين عبدالحسين

داهمت قوة "مكافحة الإرهاب" العراقية ميليشياويين في بغداد، بعد ورود معلومات حول نيتهم تنفيذ هجوم بصواريخ الكاتيوشا على محيط مطار بغداد أو قرب مواقع يتواجد فيها أميركيون، واعتقلت القوة 13 مقاتلا من ميليشيا "الحشد الشعبي"، الموالية لإيران، واقتادتهم إلى المنطقة الخضراء، حيث مقرّات الحكومة العراقية والسفارة الأميركية.

في غضون ساعة، ظهرت في شوارع بغداد قوافل من سيارات "تويوتا" التي تقل مقاتلي الحشد، ووصلت المنطقة الخضراء، وحاصرت مداخلها. والأرجح أن قادة الميليشيا هددوا رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بضرورة الإفراج عن مقاتليهم، أو يفرجون هم عنهم بالقوة. تراجع الكاظمي وبرر تراجعه بالقول إنه لم يتم العثور على صواريخ، وأفرج عن المقاتلين، وكأن دولة ذات سيادة، مثل العراق، لا يمكنها اعتقال مشتبه بهم.

تلفزيون إيران العربي بثّ أن الكاظمي أفرج عن معتقلي "الحشد الشعبي" تحت "ضغوط شعبية"، وهو خبر كاذب، إذ من نافل القول إنه عندما يتظاهر العراقيون، فهم غالبا ما يمزّقون صور قادة إيران وميليشياتها، ويحرقون قنصلياتها. الحقيقة هي أن الحكومة العراقية أذعنت أمام العنف الذي هدد "الحشد الشعبي" بممارسته. الحشد نفسه الذي يعلن نفسه حاميا للعراق، فيحاصر مقر حكومته، وهو ما يظهر كمية النفاق والتقية التي تمارسها إيران وميليشياتها.

ويصرّ "الحشد الشعبي" أنه تشكّل بناء على فتوى من المرجعية الشيعية في النجف، وهذه كذبة اخرى، فميليشيات البدريين والصدريين والعصائب قائمة منذ ما قبل فتوى النجف بكثير. ثم أن مرجعية النجف سحبت مقاتليها، المعروفين بـ "ألوية العتبات المقدسة"، من الحشد، وحصرت مهمتهم بالدفاع عن المقامات الشيعية الدينية. وصرّح مقربون من المرجعية أن "من يوالي غير وطنه لا دين له"، وهو ما اعتبره العراقيون هجوما ضد ميليشيات الحشد المسماة "الألوية الولائية"، أي التي تدين بالولاء لـ "الولي الفقيه"، أي "مرشد الثورة" الإيراني علي خامنئي.

ومثلما لقنت ميليشيا المرشد في العراق الحكومة العراقية درسا، كذلك فعلت قبلها باثني عشر عاما ميلشيا إيران في لبنان، أي "حزب الله"، الذي شن حربا ضد الحكومة اللبنانية ومؤيديها في بيروت والجبل في 7 مايو 2008، لإجبار الحكومة على التراجع عن قرارها بتفكيك شبكة هاتفية خاصة بالحزب، واستبدال مسؤولين في أمن مطار بيروت الدولي. مثل بغداد، تراجعت بيروت أمام من يدعون الدفاع عن الوطن.

ومثلما يسمي إعلام إيران ميليشياتها في العراق "ضغطا شعبيا"، يستخدم إعلام المرشد تسمية "الأهالي" لوصف "حزب الله" في لبنان. و"الأهالي" هؤلاء سبق أن اشتبكوا مع "قوات حفظ السلام" التابعة للأمم المتحدة والمنتشرة جنوب لبنان، وأجبروا القوة على الامتناع عن تفتيش مواقع تخشى أن يكون "حزب الله" يكدس صواريخه فيها. هكذا، قضى "الأهالي" في لبنان على قرارات مجلس الأمن وعلى مهمة حفظ السلام.

وفي اليمن، لميليشيات المرشد الرواية نفسها: انقلبت ميلشيا الحوثي على حكومة شرعية لوطن تدعي أنها تدافع عنه. ثم نصبت صواريخها، فسارعت السعودية لتدمير الصواريخ وقواعدها، فاندلعت حرب اليمن، التي يصورها المرشد وحلفاؤه حول العالم على أنها حرب سعودية ضد اليمن، فيما السعودية تستضيف حكومة اليمن المنفية، التي فرّت من عنف ميليشيا المرشد الحوثية.

نموذج ميليشيات المرشد صار واضحا في العراق ولبنان واليمن، وقريبا في سوريا، مع طموحات لتكرار التجربة في البحرين، وربما السعودية، وتونس، أو أي بلد عربي يمكن لإيران اختراقه وتأسيس مجموعات مرتزقة بين صفوف سكانه. كذلك صارت واضحة الأكاذيب التي يستخدمها الإعلام الإيراني في التغطية على حقيقة مهمة ميليشيات المرشد، ففي العراق، تصرّ إيران أن ميليشيا "الحشد الشعبي" تدافع عن العراق ضد "داعش"، وكأن "داعش" في منطقة بغداد الخضراء، وفي بيروت، تتظاهر إيران أن ميليشياتها تدافع عن لبنان ضد إسرائيل، وكأن إسرائيل في بيروت أو جبل لبنان، وفي اليمن، تتظاهر ميليشيات المرشد أنها تدافع عن اليمنيين، وكأن السعودية، التي تجاور اليمن منذ قيامه وتنفق عليه، هي التي تسعى لاحتلاله.

نموذج ميليشيات المرشد ليس حديثا، بل هو قديم بقدم التاريخ، فالملك في السلالات الإيرانية المتعاقبة ـ من الأخمنيين إلى البارثيين فالساسانيين والصفويين ـ كان يطلق على نفسه لقب "شاهنشهاه"، أي "ملك الملوك"، والمقصود بالملوك هنا الملوك المحليين الذين غزاهم الإيرانيون وأخضعوهم، وأبقوا على حكمهم مقابل تسديدهم للشاهنشاه مبالغ مالية، ومشاركتهم في حروبه بتزويده بالمقاتلين، وقسم الولاء له. ومن هؤلاء كان ملوك مملكة واسط العراقيين الجنوبيين، وبعدهم المناذرة، وغيرهم من ملوك أرمينيا. حتى أبرهة، الجنرال الحبشي المنشق عن أثيوبيا الذي حكم اليمن، خاض معارك ضد الإيرانيين الذين حاولوا إخضاعه والسيطرة على مرفأ عدن الذي كان يربط تجارة الهند بأوروبا، ونجحوا في ذلك بعد موته.

ومن ملوك العرب من أفادوا من قربهم جغرافيا لبيزنظية، فأقاموا توازنا بين الإمبراطوريتين وعاشوا في استقلال، ومنهم ملوك الحضر شمال العراق، وملوك تدمر شرق سوريا. أما دعاية المرشد، التي تحتار بين التفاخر بماضيها الإيراني والتاريخ الإسلامي الذي هزم الإيرانيين، تمزج بين الاثنين، وتستخدم الإسلام السياسي كوسيلة عابرة للحدود، وتستخدم التفاخر الإيراني لبث الحماسة داخليا، فتكون النتيجة تاريخا مزورا وحاضرا مزريا. ومن باب التزوير، نشرت مواقع إعلامية إيرانية أن مملكة تدمر شكلت حدود الإمبراطورية الإيرانية غربا. طبعا لم يحصل ذلك، لكن المرشد يقيم قواعد عسكرية اليوم في تدمر، ويتلاعب بالتاريخ ليخدم أهدافه.

التاريخ يعيد نفسه أحيانا. إيران تتصرف مثل الإمبراطوريات الإيرانية الغابرة، كقوة لقطع طرق وابتزاز التجارة بين الشرق والغرب، وفي الأثناء، يجد الإيرانيون لأنفسهم مرتزقة عربا لا يدركون فداحة ما يرتكبونه بحق أهلهم وناسهم، باسم الشاهنشاه المرشد. هي جاهلية عربية تنتظر مخلصا. أما الخلاص، فهو وعي مدني حول المواطنية والمصالح الوطنية، بدلا من خزعبلات الميليشيات ومرشدهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق