الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

لو كنت فلسطينيا

حسين عبدالحسين

لو كنت فلسطينيا لوقعت وثيقة "إنهاء صراع مع إسرائيل" قبل نهاية هذا العام، ولهللت للانخراط في سلام شامل وكامل مع الإسرائيليين، مقابل الحصول على أقصى نسبة ممكنة من أراضي الضفة الغربية والقدس، وإقامة حكم ذاتي على طراز ويلز أو اسكتلندا.

لو كنت فلسطينيا لأدركت أن الحق وحده لا يكفي بدون القدرة على إحقاقه، وأن انعدام القدرة العربية والفلسطينية لا لبس فيه، وأن التغيير مستحيل، وأن الخلاص هو في الحد من الخسائر لإنقاذ ما يمكن الحفاظ عليه.

لو كنت فلسطينيا لأدركت أن الأرض تفدي الناس وحياتهم، لا الناس هم من يفدون الأرض بحياتهم. ولو كنت فلسطينيا، لسعيت لحياة أفضل، إن تحت حكم ذاتي، أو فدرالي، أو ما تيسر، فالسيادة ليست غاية الشعوب، بل وسيلة لرفاهيتها.

لو كنت فلسطينيا لتذكّرت أن الماضي العثماني لم يكن فيه سيادة، بل كان حكما ذاتيا تحت إمرة ولاة لا قدرة لديهم على عقد معاهدات خارجية أو إعلان حروب. ولو كنت فلسطينيا لتعلمت من تجارب المشرقيين الآخرين: هذه سوريا وسيادتها يعيشان تحت الركام، وهذا لبنان وسيادته يعيشان تحت القمامة، وهذا العراق وسيادته يعيشان في تاريخ متخيل وأساطير تمنح الملالي، في العراق وإيران، سلطة على العراقيين، إن بإرادتهم أو بدونها.

لو كنت فلسطينيا لأدركت أن فلسطين قضية، وأن الهوية مشرقية، وأن الدين لله، وأن الأرض للجميع. القضية تعني دستورا وسيادة وحكومة رشيدة، والقضية لا ترتبط بأرض ولا بمساحات، بل بإدارة العقد الاجتماعي للفلسطينيين والحيز العام الذي يديرونه. وكما الحكومة، لا ترتبط الهوية بالأرض، فالهوية هي أطباع الناس ولهجاتهم ومآكلهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، وهذه يحملونها معهم أينما كانوا على وجه المعمورة، ولا تحتاج لسيادة ولا لحكومة ولا لقرارات دولية.

لو كنت فلسطينيا لأدركت أن فلسطين ليست مركز الكون، ولا القضية المركزية، وأن أي تضامن بين شعبين أو أكثر يسير باتجاهين، وأنه لا يمكن أن تهنئ القيادة الفلسطينية بشار الأسد على إعادة انتخابه بدون أن تثير غضب ضحاياه بين السوريين، وأنه لا يمكن أن تؤيد القيادة الفلسطينية اجتياح صدام حسين للكويت بدون أن تثير حنق الكويتيين على فلسطين وقضيتها، وأنه لا يمكن شتم الإمارات بدون ردة فعل إماراتية، وأنه لا يمكن للفلسطينيين التهليل لـ "حزب الله" اللبناني وكسب تعاطف من يعانون من تسلّط "حزب الله" في لبنان.

لو كنت فلسطينيا لأدركت أن للشعوب مصالح، وأن الفلسطينيين يحتاجون أصدقاء حول العالم، وأن تعييب الإمارات أو كوسوفو لتوقيعهما سلام وتطبيع مع إسرائيل لن يفيد الموقف الفلسطيني، بل سيضعفه، ومن لا يصدق، هذه مصر، قاطعها العرب لتوقيعها سلاما منفردا مع إسرائيل. لم تعد مصر عن السلام، لكن الفلسطينيين والعرب عادوا عن مقاطعتهم.

ولو كنت فلسطينيا لسعيت لاستخلاص المزيد من دروس التاريخ، في أن المقاطعة غير مجدية، وأن الأقليات هي التي تخشى من أن يؤدي التطبيع إلى تذويب هويتها في هوية الغالبية، فيما الغالبيات السكانية ـ العربية في هذه الحالة ـ لا تخشى أن تبتلعها إسرائيل، لا ثقافيا ولا سياسيا ولا غيره.

لو كنت فلسطينيا لتنبهت أن أصل الفلسطينيين حول العالم بقعة أرض واحدة، لكن مصالحهم اليوم متباينة، إذ يمكن لفلسطيني أميركي أن يهلل للقضية ويدعو للمقاطعة ويلعن السلام ما شاء، من بيته المريح في ضواحي المدن الأميركية الفخمة. لكن لا يمكن لفلسطيني يعيش من قلّة الموت في مخيمات البؤس في لبنان أن يلعن السلام وينتظر التغيير الذي لن يأتي. فلسطينيو المخيمات وغزة يحتاجون لسلام فوري يؤدي إلى تغيير في أوضاعهم الحياتية. أما فلسطينيو بروكلين (المعروفة تهكما ببروتشلين في أوساطهم) في ضواحي نيويورك، فهم ينعمون بحياة رغيدة، ويزورون قراهم في إسرائيل بجوازاتهم الأميركية دون أن يعترضهم أحد، ويصلّون في القدس وفي كنيسة القيامة بحريّتهم. فليهتم فلسطينيو أميركا وأوروبا بتعليم أولادهم العربية، وليتركوا موضوع السلام لفلسطينيي مخيمات البؤس ليخرجوا من بؤسهم الآن، و"الآن يعني أمس"، حسب التعبير الأميركي.

لو كنت فلسطينيا لعرفت أن لا نجدة ستأتي لتحرير الأرض، ولا أي شبر منها، وأن أنظمة الطغيان، المندثرة منها والقائمة اليوم، استخدمت فلسطين، وما تزال، كوقود للعنف الذي تشنه ضد شعبها والإرهاب الذي تنشره حول العالم. لن تأتي إيران لتحرير الفلسطينيين، ولا حتى لنجدتهم.

لو كنت فلسطينيا لأدركت أن إيران تكذب في حبها لفلسطين وسعيها لتحرير الأرض من النهر إلى البحر، ولأدركت أن تركيا تكذب أكثر من إيران في إعلان ولائها للفلسطينيين وقضيتهم وتعييبها الدول التي توقع سلاما مع إسرائيل، فلتركيا معاهدة سلام قائمة وسفارات متبادلة وتجارة وتعاون استخباراتي وعسكري مع الإسرائيليين. ثم تستقبل أنقرة زعماء "حماس" وتصفّق لهم كلّما أمعنوا في تصريحاتهم التفاهة حول قتال إسرائيل حتى يوم الدين، وبعض العرب والفلسطينيين يصدّقون المسرحية التركية.

لو كنت فلسطينيا لنظرت إلى الصراع مع إسرائيل بمثابة مشكلة في السوق تقتضي مواجهتها الإلمام بظروفها وبالإمكانات المتاحة، فإن لم تكن الظروف مواتية ولا الإمكانات متوافرة، يكون الحل بأفضل الممكن لتقليص الخسارة وإنقاذ ما تبقى.

فلسطين هي قضية تعذُّر ممارسة شعب عربي السيادة، لكن بدلا من الاعتراف بالفشل، بغض النظر عن الأسباب، راح الخاسرون يعاندون، ويكابرون، بثمن مرتفع على الفلسطينيين وباقي العرب. على أن القضايا قابلة للتسوية، ويمكن للفلسطينيين التنازل عن السيادة مقابل الحصول على مكتسبات أخرى تخرجهم من حالة الصراع البائس الذي يغرقون فيه منذ سبعين عاما، ويصرون على غرق العرب وباقي أصدقائهم معهم إلى الأبد.

أما التعييب والتخوين وترداد الخطاب الخشبي المتهالك حول المؤامرة الصهيونية لابتلاع كل دول العرب، فتصريحات لم تغن الفلسطينيين ولم تسمنهم في الماضي، ولن تفعل ذلك في المستقبل، وعلى قول المثل المشرقي، "من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق