الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

قشوع وفلسطين وهجرته إلى أميركا

حسين عبدالحسين

صدر كتاب "تعقُّب التعديلات" للروائي الفلسطيني سيد قشوع، وهو عربي إسرائيلي هاجر إلى الولايات المتحدة صيف 2014 على الرغم من نجاحاته الواسعة في إسرائيل، إذ سبق للتلفزيون الإسرائيلي أن بث مسلسل "شغل عرب"، الذي كتب نصه قشوع وحاز شعبية كبيرة فرضت إنتاجه لأربعة مواسم، فضلا عن كتابة قشوع عمودا أسبوعيا في صحيفة "هآرتس" بالعبرية، ونشره عددا من الأعمال الروائية، بالعبرية كذلك، ومساهمته بإنتاج فيلم إسرائيلي بعنوان "هوية مستعارة" عن نشأته. ثم أبان هجرته، نشر قشوع في صحيفة غارديان البريطانية مقالة بعنوان "لما علي أن أهجر إسرائيل". 

لم يقدم قشوع أسبابا مفهومة للهجرة. في 2017، كتب في هآرتس أن "لا عزاء أن وضع العرب في إسرائيل أحسن منه في سوريا"، وقال إنه يريد — عوضا عن مقارنة الفلسطينيين بالسوريين — أن يقارنهم باليهود الإسرائيليين، الذين تنحاز دولة إسرائيل لهم على حساب عرب إسرائيل. 

وعلى الرغم من معرفته بإسرائيل ومجتمعها أحسن من أي عربي، يندر أن طرح قشوع أسئلة حول دافع اليهود لإقامة دولة لهم، وعن سبب تحيز هذه الدولة ضد غير اليهود من مواطنيها. هل تشي تجارب اليهود في تاريخهم في أي من الدول العربية — بما في ذلك في الولايات العثمانية في فلسطين وفلسطين الانتداب — أن المسلمين ينظرون إلى غير المسلمين بتساوٍ؟ لو كان تاريخ العرب يشي بتساو بين المسلمين واليهود، ثم انقلب اليهود على المسلمين وأقاموا دولتهم، لكان في الاعتراض على إقامة دولة اليهود وجهة نظر. لكن تاريخ العرب، منذ الإسلام على الأقل، هو تاريخ اضطهاد وذمية للأقليات. حتى في فترة الأعياد هذا الشهر، عممت حركة حماس — التي تحكم قطاع غزة — تحذيرات ضد الاحتفال بعيد الميلاد المسيحي. والحال هذه، كيف يمكن لليهود الشعور أنهم لو تخلوا عن دولتهم، وشاركوها مع غير اليهود من العرب، لن يعانوا من الفوقية المستفحلة بين المسلمين منذ عهود سحيقة؟

قشوع روائي بارع وأعماله شيقة، وان كانت لا تشي بمعرفة عميقة بشؤون التاريخ أو العلوم السياسية، إذ يبدو مفهومه للهوية الفلسطينية فلوكلوريا روائيا تختلط فيه ذكرياته عن قطف الزعتر مع التمييز الذي عاناه كعربي بين يهود. لكن إن كان قشوع جديا في طلبه المساواة مع اليهود، فعليه أن يتبنى إسرائيل كدولته، لا بجعله العبرية لغته فحسب، بل في قبوله أنه لو قامت دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل، وانخرطت فلسطين في حرب ضد إسرائيل، فعلى قشوع وأولاده القتال في صفوف إسرائيل ضد فلسطين. لكن أن يرى قشوع نفسه واحدا مع الفلسطينيين يعني أنه يميز نفسه عن الإسرائيليين الآخرين، وهو ما يطيل أمد تمييز اليهود ضده، فالدولة ليست من جانب واحد، بل هي تعاقد بين مواطن يمنحها ولائه وضرائبه، ودولة تمنحه الحماية والعدالة، وهي بالضبط التجربة التي عاشها، أو سيعيشها، في الولايات المتحدة، حيث الهوية الوطنية مبنية على الحقوق والواجبات، لا الهوية الاثنية أو التراث. 

ربما أثارت سنوات نجاحات قشوع غيرة عرب إسرائيل ممن لم يوفقوا مثله، فدارت النميمة والضغط الاجتماعي على أبويه، وراح مبغضوه يصورون أن سبب نجاحاته هو تعامله مع اليهود. قشوع نفسه يدرك ذلك ويصوره في "شغل عرب". لكن بعد كل هذه السنوات، يبدو أن الروائي الفلسطيني اختار التوبة، وهي التي قدمها في "تعقُّب التعديلات"، وشرح فيها بصراحة أكثر أسباب ندمه. صوّر قشوع فلسطين على أنها زوجته التي أخذها معه لتعيش في إسرائيل حيث يقلبان صفحة جديدة بيضاء. رحلته إلى إسرائيل كانت أصلا صدفة أثارتها كتابته بالعبرية وحنق أهل بلدته ضده. في إسرائيل، عاش قشوع خوف إمكانية انتقام اليهود منه في أية لحظة يتعرض إسرائيليون لعنف أو قتل على أيدي فلسطينيين، ففر إلى الولايات المتحدة.

في "تعقُّب التعديلات" يقدم قشوع بصورة أوضح سبب هجرته، ويكتب أن الوضع سيكون أفضل لأولاده في أميركا. "لن يكون عليهم أن يشعروا بالذل، أو أن يطأطئوا رؤوسهم تحت السقوف الزجاجية"، أي السقوف غير الرسمية التي تحد الطموح والارتقاء في العمل. في أميركا، "لن يتم تذكير" أولاد قشوع "أنهم لا ينتمون، أو غير مرغوب بهم، أو أن يتم إجبارهم على قبول دونيتهم". 

ثم يعبّر قشوع عن ندمه لفراره بالهجرة بدلا من مواصلة النضال في سبيل القضية الفلسطينية، ويكتب: "لن اكون مقاتلا أبدا.. وسأخجل دائما من ضعفي هذا. لقد استبدلت حربي بالقصص (إذ) ماعساني أن أفعل بلا سلاح في متناولي؟ حتى لو كان لدي سلاحا، لم أعد أعرف في أي اتجاه أطلق النار (لأني) لا أعرف هوية العدو أو راية الحليف". يتابع قشوع: "نعم، إنه استسلام معيب كم أغار منك (يا أبي) لأنك كنت دائما تعرف من هم أعداءك بالضبط، ولأنه لم يكن لديك شك بأن أحلامك ستتحقق عن قرب. هل يمكنك (يا أبي) أن تسامحني لرفعي علما أبيضا؟ فأنا لست قادرا على إقناع نفسي بجدوى الصراع لمجرد الصراع بدلا من الصراع سعيا للانتصار. ولا يمكنني أن أفهم أهمية الفخر أو معنى الشرف.. فقط أفهم معنى قوة الهرب والهزيمة".

اختصر قشوع بمهارة، وعن قصد أو غير قصد، الفارق بين الجيل السابق، الذي تبنى الصراع المفتوح وربطه بمبادئ غير مرئية وغير مفهومة للجيل الحالي، مثل الفخر والشرف. أما الجيل الحالي، فهو أكثر علما وحداثة، ويرى الفارق بين الوسيلة والغاية. الصراع لا يمكنه أن يكون غاية، بل هو وسيلة، والغاية لا يمكنها أن تكون مشاعر — مثل الفخر والشرف — بل عليها أن تكون أهدافا واقعية واضحة، مثل معدل الدخل، ومستوى التعليم، والحريات الفردية والعامة، والمساواة أمام القانون. الجيل الحالي يقيس تجاربه بناء على "مؤشرات الأداء" ويستخدم بيانات "إحصاء وتقييم" لقياس مستوى معيشته، ومقارنتها بالآخرين، والسعي لتحسينها للأجيال القادمة.

لم يخطئ قشوع في خياراته إذ هو اختار الاندماج في المجتمع الإسرائيلي بما فيه مصلحته ومصلحة عائلته، ثم اختار الهجرة إلى بلاد تكثر فيها الفرص وتضعف فيها الهويات القبلية. ما أخطأ به قشوع كان في ندمه على خياراته. ربما هو ندم عاطفي، تحت ضغط اجتماعي أو حنين.

أما لو أراد قشوع التمسك بهويته الفلسطينية ونقلها إلى أولاده، فلا يحتاج إلى أرض ودولة وحكومة، بل يحتاج أن يتقن العربية حتى يتمكن من تراثه، وينقله واللغة العربية إلى أولاده، فيأخذونه معهم أينما حلّوا أو رحلوا، بدلا من التراث الذي حاول أبيه — وأبي وكل الجيل السابق — أن يورثه لنا، وهو التراث الذي حولوه إلى قضية سياسية فجعلوا قتله ممكنا ببندقية، فيما التراث أبدي لا يموت بحروب، بل يموت عندما يتوقف أبناؤه وبناته عن ممارسته وعن الحوار بلغته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق