الثلاثاء، 20 أبريل 2021

القرن الـ21.. القرن الأميركي الثاني

حسين عبدالحسين

مع نهاية الحرب الباردة، وانتصار الولايات المتحدة والرأسمالية على روسيا والشيوعية، كتب فرانسيس فوكوياما مقالته "نهاية التاريخ". بعده بخمس سنوات، وقف الرئيس السابق بيل كلينتون في خطاب قسمه لولاية ثانية، مطلع 1997، ليعلن أن القرن العشرين كان قرنا أميركيا. ثم أسدلت هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية الستار على القرن الماضي، وحاولت الولايات المتحدة استخدام قوتها لنشر الديمقراطية، فغرقت في مستنقعي أفغانستان والعراق، وتلى ذلك "الركود الكبير" في 2008، الذي تزامن مع استمرار النمو الرهيب للاقتصاد الصيني، فأجمعت المعمورة أن القرن الأميركي ولّى، وأن الآتي هو قرن صيني تتربع فيه بكين على عرش العالم. لكن المعمورة كانت مخطئة. 

القرن الحالي انتهى مساء 6 يناير الماضي، بعد اعتداء متظاهرين على مبنى الكونغرس في واشنطن. لأول وهلة، بدا الاعتداء وكأنه أسدل الستار على العظمة الأميركية، لكن الأهم كانت اللحظة التي أعلنت فيها رئيسة مجلس النواب، الديمقراطية نانسي بيلوسي، أن الاعتداء "على معبد الديموقراطية" لن يثني المشرعين عن المضي في المصادقة على نتائج الانتخابات، ومثلها فعل رئيس مجلس الشيوخ ونائب الرئيس الجمهوري مايك بنس، يسانده زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل. دور بنس وماكونيل سيتذكره التاريخ، إذ كان يمكن لهما الوقوف في صف الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته دونالد ترامب في معارضته للمصادقة على النتائج، ولكنهما لم يفعلا ذلك. 

لم يقو رئيس أميركا، أقوى رجل في العالم، على تعطيل الديمقراطية الأميركية، بل فشلت محاولته في استخدام العنف في تعطيل عمل السلطة التشريعية ووقف عملية انتقال السلطة التنفيذية. 

لم يفت آباء أميركا المؤسسون أن القوة تُسكِر صاحبها، وأنه يمكن لأي رئيس أميركي أن يحاول القضاء على الديمقراطية ليتفرد بالحكم. لذا، كل ما في دستور أميركا ومؤسساتها يُعلي سلطة الشعب وممثليه فوق كل السلطات الباقية، بما فيها الرئيس. حتى مبنى الكونغرس، تم بناؤه على تلّة مرتفعة، وبضخامة لافتة، مقارنة بالبيت الأبيض مقر الرئيس، الأصغر حجما، والذي تم بناؤه أسفل التلّة.

أهمية سلطة المحكومين على الحاكم فاتت القوى التي تطمح لمنافسة أميركا وانتزاع صدارة العالم منها. في الصين، أول ما فعله شي جينبينغ بعد تسلمه الرئاسة هو إلغاء البنود التي تحدد فترة رئاسته بعشر سنوات. ثم أطلق حملة "عبادة الفرد" متمحورة حول شخصه، وربط بين ما أسماه "الحلم الصيني"، وهي استعارة من "الحلم الأميركي"، وبين بقائه رئيسا للصين الى الأبد.

من عايش فترة "الركود الكبير"، وانتقال الرئاسة الأميركية من جورج بوش الابن إلى باراك أوباما، قد يتذكر الخوف الذي عاشته أميركا من إمكانية تفوق الصين عليها، حتى أن حكام الصين راحوا يتحدثون عن نموذجهم العالمي الذي كان مفترضا أن يخلف "إجماع واشنطن"، وهذا كان عبارة عن سلسلة من السياسات النيوليبرالية التي تقضي بترشيق الحكومات وتقليص مؤسساتها ودورها، وإطلاق عنان القطاع الخاص لتحقيق نسب نمو اقتصادي مرتفع. لكن مع "الركود الكبير"، قدمت الصين "اجماع بكين"، القاضي بإضافة "يد الدولة" إلى جانب "يد السوق الخفية"، التي يرتكز عليها الاقتصاد الرأسمالي الحر.

مرّ 13 عاما منذ "الركود الكبير"، وبقيت الصين قوة من الدرجة الثانية، لم تنجح حتى في ضبط انفلات فيروس كورونا المستجد، الذي تحول إلى وباء أدى إلى مقتل الملايين حول العالم، وشلّ الاقتصاد العالمي. كل حكومة تعاني من هفوة، لكن بكين أمعنت في فشلها، إذ أن حكام مقاطعة ووهان كانوا يخشون أن تؤدي تقاريرهم عن تفشي الوباء إلى حرمانهم الترقية داخل الحزب الشيوعي، فتفادوا الإشارة إلى الخطر، بل قمعوا أصوات الأطباء والخبراء الذين حذروا من الوباء. 

ثم اتصلت تايوان بـ"منظمة الصحة العالمية" وحذرتها من أن الوباء في الصين خرج عن السيطرة. لكن المنظمة، التي ينخرها الفساد، امتنعت عن تعميم تحذير تايوان لتفادي غضب بكين، التي تخشى أن يكون قبول المنظمة التحذير التايواني بمثابة اعتراف بسيادة تايوان. هكذا، فوتت الصين و"منظمة الصحة العالمية" فرصة ثانية لتفادي الوباء لأسباب سياسية تافهة.

بعد اعتراف الصين بالوباء، راحت تتباهى بحسن تنظيمها في ضبطه وببنائها مستشفى كامل في مهلة 24 ساعة للتعامل مع فائض المصابين. لا يهم أن الصين فرضت حظر تجول شبه دائم على مئات الملايين من الناس، ولا يهم أن بكين راحت تخفي أرقام الإصابات والوفيات، بل طردت وسائل الإعلام الغربية لفرض تعتيم على الوقائع. كل ما يهم هو السمعة والتظاهر بالعظمة.

أما الولايات المتحدة، فبدت فاشلة: لا قرارات مركزية، وتردد في الحد من حرية المواطنين، وتسجيل أعلى أرقام إصابات ووفيات في العالم. لكن مع الحرية يأتي الابتكار، ومع الابتكار يأتي تفوق أميركا في صناعة لقاح فعّال في أقصر مدة زمنية ممكنة، ما أجبر الصين وروسيا على الإعلان عن صناعة لقاحات كذلك للتباهي بمقارعة أميركا. لكن بعد شهور، اعترفت الصين أن لقاحها لا يعمل، فيما تبين أن روسيا سرقت وصفة اللقاح الأميركي بالتهكير، وفشلت في صناعته بجودة مشابهة، فعانى من تلقوا اللقاح الروسي، من أمثال رئيس الأرجنتين، بالإصابة بالفيروس بعد أشهر على لقاحهم.

فوتت الصين فرصة للانتقال من كونها مصنع العالم إلى زعيمته يوم انتقلت من ديكتاتورية الحزب إلى حكم الفرد، بدلا من الانتقال إلى الديموقراطية. هكذا، اقتصرت العظمة الصينية على قطاع واحد فقط هو البناء. يمكن للصين بناء ألف بناية وجسر في طرفة عين، ولا يمكنها صناعة لقاح واحد. أما أميركا، فتصدرت العالم في سرعة تلقيح سكانها. ثم راح رئيسها جو بايدن يعمل على إقرار قانون لتأهيل وتوسيع البنية التحتية بتكلفة ثلاثة ترليونات دولار، وهو مبلغ يمثل ثلث حجم الاقتصاد الصيني.

وإن وافق الكونغرس على مشروع بايدن، تتفوق أميركا على الصين في القطاع الوحيد المتبقي للصينيين، أي البناء، في وقت تعاني بكين من أزمة سيولة تستجديها لتمويل مشروعها الدولي المتعثر "الحزام والطريق". ويوم تتوقف الصين عن البناء، يتوقف اقتصادها عن النمو، ولا يتبقى لها إلا التلاعب ببياناتها المالية للتصوير وكأنها حققت الخطط الحكومية المقررة سلفا. على هذا الشكل انتهت فورة الاتحاد السوفياتي، وهكذا ستنتهي على الأرجح الفورة الصينية، وستبقى أميركا والديمقراطيات الغربية، وسيكون القرن الحالي قرنا أميركيا ثانيا في التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق