الثلاثاء، 6 أبريل 2021

نحن آسفون يا شاه

حسين عبدالحسين

في الأشهر التي تلت انهيار نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك واستيلاء الإسلاميين على السلطة بقوتهم التنظيمية التي أدت لانتصارهم في صناديق الاقتراع، خرج مصريون يشتكون حكم الإسلاميين ويترحمون على زمن مبارك، ويرددون عبارة "احنا آسفين يا ريّس"، وهي عبارة تكاد تختصر تاريخ بعض الدول العربية وإيران، التي أدت الانقلابات العسكرية والثورات فيها، على مدى القرن الماضي، إلى انهاء "الزمن الجميل"، الذي عاشته هذه الدول في ظل حكوماتها الملكية، غالبا برعاية غربية، انتدابية أو امبريالية.

والانقلابات العربية بدأت بانقلاب فاشل قاده بكر صدقي في العراق في 1936، تلاه انقلاب ناجح بقيادة حسني الزعيم في سوريا في 1949، فانقلاب "ضباط مصر الأحرار" ضد الملكية في مصر عام 1952، واستيلاء جمال عبدالناصر على السلطة حتى مماته في 1970. ولم يكتف عبدالناصر بإقامة حكم" ثوري" في مصر، بل شجع على ذلك في عموم المنطقة، فنجح عبدالكريم قاسم بالقضاء على الملكية الهاشمية العراقية في 1958، ومثله نجح معمر القذافي بالإطاحة بإدريس ملك ليبيا في 1969، وانقسمت المنطقة إلى ديكتاتوريات عسكرية تتسابق كل منها على توسيع نفوذها أينما تيسر، وتشارك جميعها في التحريض ضد الملكيات المتبقية في دول العرب وإيران.

إيران بدت وكأنها في صفوف الملكيات الناجية من انقلابات العسكر وطغيانهم الفاقع. صحيح أن الملكيات ليست ديمقراطيات ليبرالية، لكن بطشها أقلّ، بما لا يقاس، من العسكر، فضلا عن تقديمها نموا اقتصاديا وبشريا لم تدركه أي من الحكومات الثورية حتى اليوم.

في كتابه الممتع والصادر مؤخرا بعنوان "الشاه الأخير"، يروي كبير الباحثين في "مجلس العلاقات الخارجية"، راي تقي، السيرة السياسة لمحمد رضا شاه، آخر ملوك ايران، والذي أطاحت به ثورة 1979 واستبدلته بحكم جمهوري ما لبث أن تحول الى ثيوقراطية (أي حكم ديني) استبدادية، ما تزال تحكم بلاد فارس حتى اليوم.

يبدأ تقي كتابه مع استيلاء الضابط رضا بهلوي على الحكم من ملوك القجر في إيران في 1925، وتبنيه سياسة عدم انحياز دولية شابها بعض التقارب مع ألمانيا النازية، فما كان من بريطانيا إلا أن أطاحت به في 1941 نفيا إلى جنوب أفريقيا، لخوفها على نفط جنوب إيران، الذي كانت تسيطر عليه لإمداد ماكينتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية. هكذا خلف العشريني محمد رضا بهلوي والده ملكا على إيران. ثم بالاتفاق مع روسيا الستالينية، اقتسمت بريطانيا إيران، ومنحت الشمال للسوفيات، وقام الحلفاء باستخدام إيران كجسر لإمداد ستالين وقواته في مواجهتهم ألمانيا النازية.

مع انتهاء الحرب الكونية، حاول الروس انتزاع محافظة أذربيجان الإيرانية الشمالية ومعها بعض حقول نفط إيران، لكن المحاولة الروسية أطلقت الحرب الباردة، إذ رمت واشنطن بثقلها خلف إيران للحفاظ على وحدة أراضيها واستقلالها، ما أجبر ستالين على التراجع وسحب قواته، وعاشت إيران في ظل ملكية دستورية.

على أن المنافسة السياسة داخل إيران دفعت بعض الساسة إلى شعبوية تضمنت التحريض ضد بريطانيا والمطالبة بتأميم حقول النفط الإيرانية، وتم ذلك للإيرانيين، ففرضت بريطانيا حصارا عالميا قاسيا على قطاع النفط الإيراني، ما أدى إلى شلله وانهيار الاقتصاد. وحاول العاقلون في حكومة محمد مصدّق، ومعهم الولايات المتحدة كوسيط، التوصل إلى تسوية بين طهران ولندن، وحاولوا اقناع مصدّق أنه حتى لو أمم حقول النفط، فلا قدرة تقنية للإيرانيين على ضخ النفط واستخراجه وتسويقه عالميا. وتوصّل مصدّق لاتفاقيات نفطية شفهية مع بريطانيا بوساطة أميركية، لكن خوفه من شعبوية منافسيه منعه من التوقيع على ما وافق عليه.

معارضو مصدّق كان بينهم حزب تودة الشيوعي، الذي كان يرغب في منح حقول نفط الشمال للسوفيات، ما جعله يعارض تأميم حقول الجنوب، وكذلك المؤسسة الدينية بقيادة آية الله محمد كاشاني، التي كانت تؤيد الشاه تقليديا. ومع استمرار الأزمة وخشية بريطانيا وأميركا من قيام الشيوعيين بالاستيلاء على الحكم في إيران، قاما بدعم انقلاب عسكري في 1953، لكنه فشل بعدما اعتقل مصدّق الضابط الذي حمل إليه مرسوم الشاه القاضي بعزله من رئاسة الحكومة. هكذا كتب مسؤولو الاستخبارات الأميركيون والبريطانيون — حسب أرشيفهم الذي تمّ رفع السرية عنه — أن الانقلاب فشل. لكن الاحتجاجات الشعبية المدفوعة بانهيار اقتصادي تواصلت، إلى أن أدت لاستيلاء المحتجين على الإذاعة، وهو ما كان بمثابة نهاية عهد مصدّق وعودة الشاه من إجازة طوعية كان ذهب إليها لتفادي التعامل مع الأزمة. ذاك التفادي كان أولى مؤشرات ضعف شخصية الشاه أمام الأزمات الكبرى، وهي إجازة كررها الشاه في 1979 بمغادرة إيران، وموته بعد ذلك بقليل، وهو ما أدى لانتهاء حكمه.

بين 1953 و1979، قام الشاه بتحويل حكمه الملكي الدستوري إلى ملكي مطلق، وأدى ذلك إلى تكميم للأفواه وقمع للمعارضين. لكن في فترة الربع قرن هذه، نجح بهلوي في تحويل إيران من دولة متأخرة في النمو الاقتصادي والبشري إلى قوة اقتصادية وعسكرية إقليمية. ويوم راكمت إيران قدرة تقنية لازمة، قام الشاه في 1973 بتأميم النفط الإيراني واستعادته من الشركات الغربية، بهدوء وبدون شعبوية وتحريض ضد الغرب.

ولتأكيد إنجازات الشاه، كتب تقي أن "دخل النفط الإيراني ارتفع من 885 مليون دولار في عام 1971 إلى 17,8 مليارا في عام 1975، فيما ارتفع إجمالي الناتج المحلي من 4 مليارات دولار في عام 1961 إلى 54 مليارا في عام 1976". وعلى مدى 15 عاما تلت 1961، نما الإنتاج الصناعي الإيراني بمعدل 20 في المئة سنويا، وارتفعت الاستثمارات من 36 مليار دولار لتصل 63 مليارا في 1976. هكذا، ظهرت في مدن إيران الفنادق والمباني الشاهقة بسرعة قياسية.

ثم كانت الثورة الإيرانية، فمضت إيران في تدهور اقتصادي وبشري ودبلوماسي مستمر حتى اليوم، على غرار مصر والعراق وليبيا قبلها، فيما واصلت الملكيات العربية استقرارها ونموها، وهو ما يدفع اليوم إيرانيين كثر — ومعهم عرب ممن أيدوا ثورة إيران — إلى الندم، والتعبير عن الحنين إلى "الزمن الجميل" في عهد ملوكهم، أو القول، على غرار بعض المصريين: "نحن آسفون يا شاه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق