الثلاثاء، 1 يونيو 2021

مأزق بعض العقل العربي

حسين عبدالحسين

على الرغم أن القبلية تسود العالم اليوم، صار علم الاجتماع، أي ”السوسيولوجيا“، في مصاف العنصرية لمحاولته استنباط خصائص لمجتمعات بأكملها، وتعميم هذه الخصائص على كل فرد من أفرادها. العراقي الراحل علي الوردي كان من أركان علم الاجتماع، وكتب مجلدات ضخمة عن العقل البشري، والشخصيتين العراقية والبدوية، ومثله فعل اليهودي المجري رفائيل باتاي، الذي ألّف مجلدين، واحد باسم ”العقل العربي“ وآخر باسم ”العقل اليهودي“. وبعد هجمات 11 سبتمبر والحرب الأميركية في العراق، لجأ بعض مدربي الجيش الأميركي الى كتاب ”العقل العربي“ لتثقيف العسكر حول المجتمع العربي لتسهيل التعامل معه، لكن صرخات علت ضد كتاب باتاي، الذي يعتبر البعض أنه ”يعمم على كل العرب“ بعض المزايا، خصوصا السلبية منها. 

وبالحكم على ما يتم تداوله عربيا عبر وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن الاشارة إلى تيار عربي ما يزال ينظر الى مأزق العراق وسوريا ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية من زاوية تقليدية يخالها ثورية.

الأفكار الثورية العربية تتمحور تقليديا حول العنف والقوة، مثل ”شعار ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة“، وحول مبادئ لا يمكن قياسها خارج دنيا المشاعر، مثل العزّة والشرف والكرامة والكبرياء والأنفة. ويمكن لمتابع التصريحات والخطابات التي رافقت تطورات الأسابيع الأخيرة — بما في ذلك المواجهات العسكرية في قطاع غزة وذكرى انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان — أن يلاحظ أن اللهجة الطاغية هي لهجة حربية بطولية، عاطفية في مجملها.

هكذا، تزخر الخطابات العربية والمقاتلات بعبارات مثل النصر والانتصار، ولن نركع، والقتال حتى النهاية، والحاق الذل بالأعداء، والتصدي للمؤامرات العالمية والاقليمية، ومكافحة الخيانة والقضاء على الخونة.

مجمل التصريحات العربية يشي بأن مخيلة مطلقيها ترى العالم قبائل، وأنها ترى المسلمين قبيلة مظلومة، سبب مشاكلها حصرا هو القبائل الأخرى، وأن الحلّ هو في انتصار قبيلة الاسلام على القبائل المنافسة. والانتصار يكون عسكريا فقط، أو لا يكون، كما لا يهم الخسائر التي ستقع قبل الانتصار، ولا يهم الشقاء الذي سيقع بعده. المهم هو نشوة الفوز، على الرغم من آلام الحرب ودمارها وبؤسها الطويل الأمد. 

ولأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، يغيب النقاش العربي، بل يتحول الى ضوضاء واناشيد حماسية. وفي غياب النقاش، يغيب العقل وتذوي العقلانية، ويتعذر القياس، فيصبح ما قبل الانتصار كما بعده: شقاء بشقاء. وهذا لبنان يعيش تحريره وانتصاراته الالهية بلا كهرباء ولا ماء ولا مال ولا آمال. 

ما ينقص النقاش العربي هو استبدال عبارات البطولة والانتصارات بعبارات عن الناتج الاقتصادي، ونسب البطالة، ومعدل دخل الفرد، ومعدل تشكيل الأسر، ومستوى التعليم، ونوعية الرعاية الصحية، وعدد براءات الاختراع التي يسجلها العرب بين الأمم، وعدد الدوريات العلمية العربية ومصداقيتها، ثم مواضيع الاسكان والبنية التحتية، والاستقرار الذي يجذب المستثمرين الأجانب والسياح.

ويمكن لأي عربي أن يعيش في الدول المتقدمة من دون أن يسمع في حياته عبارة واحدة عن الكرامة في أي نقاش حول الدولة وشكلها أو حول الحكومة وادائها، لأن الاعتقاد لدى مواطني الدول المتقدمة هو أن الكرامة لا ترتبط بنشوة الانتصارات والمشاعر، بل بمستوى معيشة المواطنين، وقدرتهم على الكسب واعالة أهلهم، والتمتع بمسكن وتعليم ورعاية صحية من النوع الجيد، مع معارضة واسعة للحروب والانخراط بها للاعتقاد بأن الحروب مكلفة ومميتة وبدون جدوى. ولو كانت الانتصارات العسكرية مقياس النجاح، لصهرت الولايات المتحدة باقي الدول وجيوشها، وتربعت على عرش من الدمار مع نشوة الانتصار. لكن أميركا جمهورية لا تقوم على المشاعر، بل على المصالح.

الصواريخ لا تصنع حضارات، بل الحكمة والعقل هما سر النصر، نصر ثماره عيش كريم ورغيد، لا المزيد من الصواريخ، ولا معارك تكون ”بروفة“ لمعارك قادمة أكثر شراسة ودمارا. 

للانصاف، انتقادنا هذا هو ”لبعض العقل العربي“، اذ أن البعض الآخر من عقل العرب وازن وعاقل، يصبّ اهتمامه على التنمية الاقتصادية والبشرية والعلمية، ولا يستخدم القوة العسكرية الا دفاعيا، ولفترات زمنية محدودة، ويسعى في كل الأوقات الى السلام، لأن في السلام استقرار، وفي الاستقرار حياة رغيدة. 

ولو فكرنا بواقعية لاستنتجنا أن قوة الشعوب وبحبوحتها وازدهارها ليس في مساحة أرضها، ولو كانت المساحة هي المعيار لكانت روسيا أقوى قوة في العالم اليوم وأكثرها ازدهارا، فيما الواقع هو أن اقتصاد روسيا هو بحجم دولة متوسطة مثل ايطاليا. ولو فكرنا بواقعية أيضا لرأينا أن دولة ذات مساحة صغيرة جدا، مثل سنغافورة، هي في طليعة دول العالم في العلم والاقتصاد ومستوى المعيشة.

قبل اتفاقية وستفاليا الأوروبية ونمو القوميات، لم يعلّق العرب أهمية تذكر على الأرض، بل كانوا يعبرون سعيا وراء الكلأ والملأ أينما وجدوه، وهؤلاء كانوا العابرون أو العبرانيون، ومنهم العرب (وابراهيم كان عبرانيا تعرّب ابنه اسماعيل). واستغل العرب القدماء ترحالهم، فصاروا تجارا يحملون بضائع من أقصى الأرض الى أقصاها، فانتشرت لغتهم ودينهم وتقاليدهم من اندونيسيا الى اسبانيا. 

الحركات القومية الأوروبية حوّلت الأرض الى حجر الزاوية لاقامة دولة واعلان شعب. ثم راحت الدولة العلية العثمانية تبيع رعاياها الأراضي بأسعار بخسة في عملية مستعجلة أدت الى غياب سندات الطابو عن أراض كثيرة. وفي قرى لبنان وسوريا وغيرها نزاعات داخل معظم العائلات على الارث والأراضي وترسيمها وحق المرور، وسط فوضى سندات غالبها أوراق اتفاقيات الأجداد مكتوبة بخط اليد.

مع العولمة، عاد العالم الى زمن العرب الرحّل: لا قيمة للحدود بين الدول، ولا أهمية للأراضي وملكيتها، بل لاقتصادات العلم المزدهرة.

للأسف، مازال عرب كثيرون يتمسكون بشعارات الأرض والعرض والكرامة، ولا يعيرون أهمية للعلم والتنظيم والتجارة والاداء الحكومي ومستوى المعيشة. الشعر والصواريخ والانتصارات لها نشوة مؤقتة، أما العلم والعمل والجهد فنتائجها حقيقية ودائمة، وهي مفتاح الازدهار والأمن والأمان والعيش الكريم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق