الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

إيران وصناعة الخرافة الدينية

حسين عبدالحسين

مطلع القرن الميلادي السادس عشر، اشتد ساعد اسماعيل صفوي الأول وتوسعت سيطرته على إيران، فقام بتحدي سلالة الغازي عثمان، التي أقامت لنفسها سلطنة في اسطنبول. وتبنى الصفوي - وشجّع وطوّر - الفئات الإسلامية المعارضة لشرعية السلطان، خصوصا المعروفة منها بالشيعية.

العثمانيون كانوا بنوا شرعيتهم على الخليفة الرابع عثمان بن عفّان، الذي يشترك في الكثير من أساطيره مع القديس سمعان العمودي، صاحب الطائفة الواسعة الانتشار في المشرق وجنوب الأناضول. لغويا، يتطابق الاسمان عثمان وسمعان، وفق مبدأ القلب والإبدال، ويتطابق معهما اسم سماعن أو اسماعيل. وكان سبق لمعظم السلالات التي حكمت المشرق وشمال أفريقيا أن بنت شرعيتها على عثمان، كالأمويين، أو على اسماعيل (ابن فاطمة)، كالإسماعيليين الفاطميين.

والصفوية هي طريقة صوفية سابقة للإسلام تقدّس إلهة الحكمة صفاء، صوفيا عند الإغريق، وهي أول خليقة في العالم، شكّلت نفسها من العناصر الأساسية الأربعة، فصارت حجرا أسودا هو حجر زاوية العالم، وحبلت بدون دونس، وولدت إلها هو الشمس، الذي يولد كل يوم، ويموت كل مساء، ثم يولد في يوم جديد وحياة جديدة. وفي وقت لاحق، دمج الأقدمون صفاء بإلهة الحرب زهراء، التي يرمز إليها الكوكب الذي يحمل اسمها، والذي يرسم نجمة خماسية في السماء مع اتمامه دورة كاملة.

مطلع القرن السادس عشر، بدأت كل من الحركتين الصوفيتين - الصفوية الإيرانية والعثمانية التركية - تتنازعان على زعامة العالم الإسلامي. ولأن الأتراك تبنوا الأمويين والفاطميين ومذاهب المماليك، بنى الصفويون مذهبهم على مذاهب شيعية، أبرزها الإثني عشرية والحجتية، التي تنتظر عودة المهدي، ونصّب الحاكم الصفوي نفسه نائبا للإمام المنتظر حتى عودته من غيبته.

ومضى الصفويون يمولون ويرعون انتشار نسختهم الشيعية بين الفرس والعرب، وساهم محمد باقر المجلسي، المتوفى في 1699، في إدخال كمية هائلة من الخرافات التي يرفضها الشيعة العرب حتى اليوم، وبعضها نبوءات فاشلة، مثل أن المهدي يعود مع فتح قسطنطينية (وهذا كان حصل في 1453). ومع الفرس، تبدلت زوجة الحسين، الرباب ابنة امرؤ القيس، وصارت ابنة آخر ملوك الساسان الفرس في بغداد، يزدجرد الثالث، وصار الحسين، ثالث أئمة الشيعة، أميرا فارسيا. وحاول علماء الشيعة العرب تنقية مذهبهم مرارا من البدع الفارسية، فقام على سبيل المثال السيد محسن الأمين، اللبناني المقيم في دمشق، بمحاولة تنقية رواية عاشوراء من الأساطير، وتحريم اللطم، وأفتى الأمين أنه "لا يجوز إطاعة الله من حيث معصيته"، والمعصية هنا هي إيذاء النفس. 

لكن الشيعة العرب فشلوا في وقف الإعصار الفارسي الذي اجتاح مذهبهم، وكانت أبرز معالم هذا الاجتياح زيارة المقامات، التي راح عددها يتضاعف، وما زال يزداد حتى اليوم، وكان آخرها إعلان مقاما جديدا، ونسبه لابنة الحسين صفية، وتحديد موقعه في حوش تل صفية، القريبة من بعلبك شرق لبنان. ولأن هذه المقامات تدر أرباحا وفيرة على من يديرها، أمسكت "حركة أمل" الشيعية اللبنانية بإدارة هذا المقام، الذي يبعد كيلومترات قليلة عن مقام ابنة الحسين الأخرى خولة، والتي يقع مقامها الذي يديره "حزب الله" قرب آثار بعلبك الرومانية.

شرق المقامين يقع "مسجد رأس الحسين"، الذي سيطر عليه شيعة بعلبك بقوة "حزب الله"، على الرغم أن ملكيته تعود لدار إفتاء المذهب السني في لبنان، وقفا منذ زمن المماليك. وتعتبر التقاليد الشيعية أنه بعد معركة كربلاء في 680 ميلادية، حمل جيش الأمويين رأس الحسين ومعه السبايا، وساروا مع الفرات شمالا، ثم انعطفوا شرقا فجنوبا، ومروا ببعلبك في طريقهم الى الخليفة يزيد في دمشق. وفي بعلبك، أوهم الأمويون السكان أنهم يحملون رؤوس خوارج، لكن زينب أخت الحسين قالت للسكان أنها رؤوس أبناء بيت الرسول، فثار البعلبكيون، ولكنهم فشلوا في انتزاع الرؤوس، فبنوا مسجدا في الموقع الذي كان الأمويون وضعوا فيه الرأس. مصدر هذه الرواية هو ابن شهر آشوب، المتوفى في حلب في 1192 ميلادية، أي بعد 500 عاما على الواقعة.

على أن في هذه الرواية نقاط ضعف كثيرة، أولها أن سكان بعلبك لم يكونوا تحولوا الى الإسلام بعد في 680، أي بعد أقل من 50 عاما على "الفتوحات الإسلامية". ثاني المشاكل أن من زاروا بعلبك حوالي 1200 ميلادية ودونوا لائحة بالمقامات الدينية فيها لم يصادفوا مسجد رأس الحسين ولا قبري ابنتيه خولة وصفية. جلّ ما رآه أبو الحسن الهروي في بعلبك، ودونه في كتابه "الاشارات الى معرفة الزيارات"، أن على بابها من الشمال قبر مالك الأشتر، وفيها قبر حفصة زوجة الرسول، وفي جوارها دير الياس النبي، والأرجح أن هذه البقعة معروفة اليوم بقرية النبي إيلا.

على أن كتابا آخر من الزمن نفسه قد يحمل في طياته قصة "مسجد رأس الحسين"، وهو كتاب "تاريخ العظيمي" لصاحبه محمد التنوخي الحلبي، المتوفى في 1160 ميلادية، والذي كتب أنه في سنة 1043 "ظهر ببعلبك في حجر منقوش رأس يحي بن زكريا عليه السلام فنقل الى حمص ثم الى حلب" حيث تم دفنه.

هذا يرجح أن أسطورة "مسجد رأس الحسين" تعود أصلا ليوحنا المعمدان، الذي تكلم رأسه، بعد قطعه، في معجزة ينسبها بعض الشيعة لرأس الحسين في حضرة يزيد. هذه الأسطورة تتكرر حول الجامع الأموي في دمشق، حيث قبر المعمدان والركن الذي تم وضع رأس الحسين فيه. وهناك مقامات متعددة تنسب أن رأس المعمدان، لاحقا الحسين، ارتاحت أو تم دفنها فيها، منها في القاهرة الفاطمية.

ويقع معبد المعمدان - مسجد رأس الحسين - في بعلبك على ضفة نبع رأس العين، وهو ما يؤكد أنه يعود لطائفة معمدانيين ممن ترتكز تعاليمهم على الاغتسال في الماء الجاري والعمادة. والرأس العين، أو العين على رأس الهرم، هو الخالق الساهر على خليقته، وهو الذي يمنح الحياة على شكل نبع مياه.

ومثل في بعلبك، لم ير الهروي في زيارته لدمشق وريفها مقاما لزينب، بل قال إن في قرية راوية قبر لأم كلثوم ابنة الرسول. وراوية هي صفة لصفاء إلهة الحكمة التي تعطي الحياة، وفعل اعطاء الحياة يتم الرمز إليه بإعطاء الماء أو المطر، أي الري. راوية صارت العذراء مريم، واليوم هي زينب وصفية. ومع بدء انتشار الدعوة الصفوية في بلاد العرب، قام أحدهم بإعلان راوية موقعا لمقام زينب بنت علي، أخت الحسين، على الرغم أن الروايات الأقدم تعتبر أن قبرها في البقيع قرب المدينة المنورة.

ما تزال عملية إعلان المقامات والمشاهد (أي عندما يبصر مؤمن في نومه أو وعيه نبيا أو وليا) جارية على قدم وساق، وآخرها ظهور موقع صفية وسكينة، في داريا بريف دمشق، بالضبط مثل أسطورة فاطمة المعصومة في قم، وهو على الأرجح موقع عبادة قائم منذ الزمن السحيق، يعود لأناهيد الآلهة الفارسية، وتم تحويلها الى فاطمة شقيقة الإمام الشيعي علي الرضا.

هي خرافة صناعتها مربحة، ماليا عبر السياحة الدينية، وسياسيا عبر بناء شرعية الحاكم على الدين، وهي صناعة أتقنتها إيران منذ خمسة قرون، وماتزال تبرع فيها حتى اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق