السبت، 25 فبراير 2023

الدينار العراقي بخير


حسين عبدالحسين

الدينار العراقي بخير ورفع سعره الرسمي في مقابل العملات الأجنبية يرفع القدرة الشرائية للعراقيين. هذا هو الواقع. أما الدعاية التي يبثها النظام الإيراني، فمفادها أن الولايات المتحدة الأميركية تخزّن عائدات النفط العراقي في خزائنها وتمنع العراق من حيازتها، وذلك بهدف إفقار العراقيين وايقاع المذلّة بهم، وهذه طبعا شائعات غير صحيحة.

الصحيح أن ارتفاع أسعار النفط رفع العائدات العراقية الى نحو عشرة مليارات دولار شهريا على مدى العام الماضي، مع فائض بلغ أربعة مليارات دولار، كما رفعت زيادة العائدات معدلات احتياطي الدولار لدى البنك المركزي العراقي الى قرابة 120 مليار دولار.

دولة العراق ثرية ولديها سيولة مريحة. لكن هذا لا يعني أن السيولة الورقية متداولة بأيدي الناس، بل هي أرصدة حسابية جارية يمكن لدولة العراق تحريكها عبر النظام المصرفي العالمي المعروف بسويفت.


ما دأبت إيران على فعله هو حمل الحكومة العراقية على تسييل ودائعها وشحنها نقدا من نيويورك الى العراق، حيث يقوم البنك العراقي المركزي بإجراء مزادات يبيع بموجبها هذه الدولارات النقدية في السوق مقابل دنانير عراقية. عندما يتدفق الدينار العراقي النقدي على السوق وتشحّ السيولة بالدولار، يرتفع سعر الأخير وينخفض سعر الدينار، وهو ما يقلّص القوة الشرائية للعراقيين لدى شرائهم مواد مستوردة.

لكن من أين كانت تأتي كل هذه المليارات من الدنانير لشراء الدولار في مزادات البنك المركزي؟ وأين كانت تذهب مئات ملايين الدولارات النقدية؟ الإجابة تحتاج الى تسليط الضوء على بعض الفساد العراقي الذي يفيد منه الحرس الثوري الإيراني وأزلامه العراقيون.

"الموظفون الأشباح"

يعاني العراق منذ انهيار نظامه السابق في العام 2003 فسادا مدقعا في إداراته. احد أبرز وجوه هذا الفساد، قيام مسؤولين في الوزارات وضباط في القوى الأمنية بتوظيف مَن يعرفون بـ"الموظفين الأشباح". هؤلاء الموظفون هم غالبا أسماء أناس يحصلون على نسبة من الراتب مقابل بقائهم في البيت، لقاء الموافقة على استخدام اسمائهم.

يشيرمركز أبحاث "تشاتام هاوس" البريطاني الى ظاهرة "الموظفين الأشباح" في العراق في تقرير صادر عنه في يونيو/ حزيران 2020، واعتبرها "ظاهرة واسعة الانتشار".

كذلك أشار تقرير، صدر عن الموقع الرصين، "War on the rocks"، الى انهيار الجيش العراقي الفوري أمام تنظيم "داعش" الإرهابي في الموصل، في صيف 2014. وورد في تقرير انهيار الجيش أن الضباط العراقيين يعمدون الى شراء مناصبهم التي يعملون على الإثراء من خلالها عن طريق توظيفهم جنودا وهميين أو جنودا يقتطعون نسبا من رواتبهم.

مليارات الدولارات لـ "الميليشيات الولائية"

عمد ضباط الجيش العراقي في الموصل الى عدم إبلاغ بغداد عن أعطال آليات الجيش، كالسيارات والمصفحات وناقلات الجند، لأن من شأن ذلك أن يحرمهم الوقود الذي يحصلون عليه لتشغيل هذه الآليات. أما وقود الماكينات المعطلة، فكان الضباط يبيعونه في السوق ويثرون من عائداته. لذا، يوم ظهر "داعش"، لم يكن لدى الجيش العراقي في الموصل جنود ولا آليات. فقط حفنة من الضباط الفاسدين وحرّاسهم وبقايا جيش من الفقراء ممن نهب الضباط رواتبهم. كان الإنهيار النتيجة الواقعية للجيش العراقي الفاسد.

نظام الموظفين والجنود الوهميين هذا لم ينخر جسد الدولة العراقية فحسب، وإنما دبّ في جسم الميليشيات المسماة بـ"الولائية"، نسبة إلى ولائها لمرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي.

وتُظهِر الموازنة العراقية أن حكومة بغداد تخصص ما يعادل ملياري دولار سنويا لهذه الميليشيات بالدينار العراقي. هكذا، يقوم من يتقاضون رواتب أشباح المقاتلين في الميليشيات العراقية الموالية لإيران بشراء الدولار الأميركي في مناقصات البنك المركزي العراقي، وهذا ما يجبر المصرف على الاستمرار في تسييل ودائعه بالدولار للحفاظ على ثبات سعر صرف الدينار في السوق.

ظاهرة المقاتلين الأشباح في الميليشيات الولائية تأكدت في حادثتين. الأولى كانت التسريبات الصوتية المنسوبة الى رئيس حكومة العراق الأسبق نوري المالكي، التي أبدى فيها امتعاضه من ضعف "الميليشيات الولائية" وضرورة بناء ميليشيات أكثر قوة وولاء. الثانية تفوقت فيها قوات مقتدى الصدر في يومي الحرب الأهلية الخاطفة التي دارت رحاها في بغداد والجنوب بين ميليشيات إيران وقوات الصدر، وهذا ما أجبر المالكي على الظهور في صور وهو يحمل سلاحا رشاشا في محاولته لاستنهاض مناصريه الشيعة للتصدي للصدر.

أموال العراق لـ "الحرس" و"الحزب" والميليشيات

إذاً، الميليشيات الولائية فاسدة وضعيفة ويتسلم الملياري دولار المخصصة لها الحرس الثوري الإيراني وحلفاؤه في العراق و"حزب الله". في كلام آخر، تستخدم طهران هذه المبالغ لتمويل ميليشياتها في اليمن وسوريا ولبنان. أما ميليشيات العراق، فضعيفة ومنقسمة على نفسها، فيها مجموعة صغيرة متماسكة وموالية لطهران هي "كتائب حزب الله" العراق، لكنها غير كافية للسيطرة على المدن العراقية ذات الكثافة السكانية العالية أو لفرض إملاءات إيران على العراق وحكومته، على عكس "حزب الله" اللبناني الذي يحكم لبنان بقبضة من حديد. 

كذلك يتقاضى مسؤولون عراقيون فاسدون رواتب موظفين وهميين ويستخدمونها لشراء الدولار، ثم يحولون الدولارات الى حسابات خارج العراق، تعود إما إلى إيران والحرس الثوري أو إلى حسابات خاصة في جزر كايمن وغيرها حيث يخفي المتهربون من القوانين والضرائب أموالهم.

عملية تبييض الدولارات الضخمة هذه التي تضخ الدولارات خارج العراق وتجبر حكومته على تسييل ودائعها بوتيرة أسرع بكثير من المفهوم، دفعت الاحتياطي الفيديرالي الأميركي الى الطلب من بغداد التوقف عن تسييل الودائع نقدا. وفي غياب النقد واستمرار الطلب على الدولار، راح الدينار العراقي يهوي في السوق السوداء حتى وصل الى سعر 1700 مقابل الدولار.

لكن هذا السعر وهمي، ولا يعني أن الاقتصاد العراقي يهتز أو أن قدرة العراقيين على شراء المستوردات تقلّصت، وذلك لأن السعر المركزي بقي على حاله، بل أن حكومة محمد شياع السوداني عمدت الى رفع قيمة الدينار الى 1300 في مقابل الدولار الواحد.

السعر الرسمي يعني أنه يمكن لأي مستورد عراقي أن يودع في البنك المركزي دنانير عراقية، فيحولها البنك حسابيا الى دولارات ويرسلها بتحويل عبر نيويورك والنظام المالي العالمي الى المورد خارج العراق، من دون استخدام السيولة. يمكن لأي عراقي أو عراقية أيضا ممن يحملون بطاقات بلاستيكية صادرة عن مصارف عراقية استخدامها على سعر الصرف الرسمي من دون الحاجة الى دولار نقدي، وهنا بيت القصيد.

إن ارتفاع سعر صرف الدولار النقدي أمام الدينار، وانخفاض سعر صرف الدولار التحويلي أمام الدولار، يعني أن ما يجري هو تجفيف القطاع المالي الخارج عن رقابة نظام سويفت العالمي، وهذا لا يؤثر البتة في أرصدة العراقيين، أو قيمة عملتهم، أو قدرتهم الشرائية، طالما أنهم يستخدمون التحويلات المصرفية عبر سويفت بدلا من النقد. 

ثم أن العراقيين لا يحتاجون الدولار نقدا داخل العراق حيث يمكن استخدام الدينار العراقي لأي عملية بيع وشراء. 

قد يحتاج العراقيون الذين يسافرون الى خارج البلاد الى مبالغ نقدية بالدولار للمصروف الشخصي. لمعالجة هذا الموضوع، أعلنت السلطات العراقية أنه في وسع كل مغادر العراق في المطار، ممن يحمل تذكرة سفر وبطاقة صعود الطائرة، ويكون قد اجتاز خط ختم جوازات السفر، أن يحوّل دنانيره العراقية دولارات على سعر 1320 دينارا للدولار الواحد.

القطاع المصرفي العراقي لا يزال يافعا

العراق لا يعاني من نقص في السيولة ولا من انخفاض في سعر عملته. شبكة إيران في العراق هي التي تعاني من نقص السيولة، وارتفاع سعر الدينار في أوساط الاقتصاد البديل الذي تشغله هو للتعويض عن العقوبات الأميركية المفروضة عليها.


أما المشكلة التي لا يزال العراق يواجهها فتكمن في أن قطاعه المصرفي لا يزال يافعا وغير قادر على تلبية حاجة غالبية العراقيين، وهذا يعني أن الخدمات المصرفية العراقية، مثل اصدار بطاقات الاعتماد الائتمانية، وتقديم خدمات تسمح للمواطنين العراقيين بالاستعاضة عن استخدام السيولة لا تزال غير متوفرة على شكل واسع، وهو ما يجعل النقد وسيلة وحيدة لدوران عجلة الاقتصاد.

لكن النقد، كما تقدم، غير ضروري داخل العراق، وانما مطلوب فقط لعمليات البيع والشراء بين العراق والعالم، وهذا ما حمل البنك المركزي على القيام بعمليات استيراد واسعة ريثما يتم توسيع القطاع المصرفي العراقي، وتحسين قدرته على الانخراط في النظام المالي العالمي وعلى تحويل الأموال من العراق واليه.

أما إيران، فهي منعزلة عن النظام العالمي بحكم العقوبات الأميركية عليها، وهي تعمد الى السيولة النقدية كوسيلة وحيدة للتهرب من هذه العقوبات، وهذا يعني أن تجفيف اقتصاد السيولة النقدية في العراق سيؤذي نظام إيران بدون أن يؤثر في العراقيين أو اقتصادهم.

ويبدو أن رئيس الحكومة العراقي أدرك مكامن الخلل، الذي يتكرر للمرة الثانية بعدما حدث الأمر نفسه بين وقت فرض الأمم المتحدة عقوبات على إيران مع حلول العام 2010 ورفعها عنها في 2016. في السنوات الست تلك، حدث الأمر نفسه، وهدد الاحتياطي الفيديرالي الأميركي نظيره العراقي بوقف شحن الدولار نقدا اليه. وانهار الاحتياطي النقدي العراقي الى ما دون 20 مليار دولار، وهذا ما أجبر البنك الدولي وصندوق النقد على التدخل، الى أن تم تعديل الأمور. وتزامن ذلك مع رفع العقوبات عن ايران فتراجع الضغط عن العملة الوطنية العراقية.

في الأزمة الماضية، كان علي العلّاق محافظا للبنك المركزي العراقي، وهذا ما حمل السوداني على استدعائه للتصدي للأزمة الحالية المشابهة، فزار واشنطن، والتقى مسؤولين في الاحتياطي الفيديرالي وفي وزارة الخزانة، وسمع من المسؤولين الأميركيين مخاوفهم المتعلقة بتبييض الأموال عبر العراق، وبانتقال الدولارات العراقية الى طهران والحرس الثوري الايراني، الذي تصنفه واشنطن تنظيما ارهابيا.

وتوصل الطرفان العراقي والأميركي الى الاتفاق حول ضرورة الإسراع في تطوير القطاع المصرفي العراقي وقدرته على تلبية حاجة السوق من التحويلات من دون الحاجة الى النقد. وفي مقابل موافقة العراقيين على المطالب الأميركية، وافق الأميركيون على التراخي بعض الشيء في تسييل بعض الأرصدة العراقية، وتحويلها الى نقد، وشحن هذا النقد الى أقبية المصرف المركزي العراقي.

النظام الإيراني كالطاعون

خلاصة الأزمة النقدية العراقية أن النظام الإيراني هو كالطاعون، لا يحل في بلد إلا ويقوّض أمنه، ويحوّل اقتصاده الى هباء ومستقبله الى ظلام. العراقيون يبدو أنهم يدركون أن التحول من نظام نقدي والانخراط في النظام المالي العالمي للمصارف وسويفت هو خيار لا بديل منه، وهذا ما حمل نظام إيران وحلفاءه العراقيين على تشغيل ماكينة الدعاية، ساعة للقول إن أميركا تحرم العراق أمواله، وساعة لإشاعة أن واشنطن تملي على العراق ما يمكن شراؤه ومن أين، الى آخره من دعاية تحريضية لا تؤكل ولا تسمن بل تتسبب في شقاء فوق البؤس والشقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق