الاثنين، 17 يوليو 2023

كيف يتخيّلنا "حزب الله"؟

حسين عبدالحسين

في مخيّلة قادة ”#حزب الله“ ونخبته وأنصاره صورة عن معارضيه تختلط فيها نظريات المؤامرة مع قصص الاستخبارات والجاسوسية، وهي صورة حجر أساسها اعتقاد ديني قديم مفاده أن الحقيقة واحدة مطلقة، لا نسبية فيها، وأنها جليّة وواضحة للجميع، وأن كل من يرى الحقيقة بنظرة مغايرة لا يفعل ذلك بسبب إيمان في قرارة نفسه، بل هو يرى الحقيقة نفسها التي يراها ”حزب الله“ ولكنه يعمل على تزييفها وتزويرها لغاية في نفس يعقوب، غالباً مدفوعاً بكسب مالي وطموح شخصي.


والكسب المالي مقابل الخيانة صورة وردت في العهد الجديد في الثلاثين من الفضة التي تقاضاها اليوضاس يهوذا الإسخريوطي ليشي بمكان السيد المسيح. أما في القرآن، فإصرار على أن اليهود والنصارى يعرفون الحقيقة المكتوبة في كتبهم الإلهية، لكنهم حرّفوها لمصالح ذاتية، غالباً لرفض نبوّة عربي مخلّص لا ينحدر من مذهبهم، إذ ينسب القرآن الى المسيح قوله إن من سيليه نبي اسمه أحمد، ويعتقد مسلمون كثر أن هذه الآية واردة في كتب اليهود والمسيحيين الأصلية، ولكنهم حذفوها في سعيهم لطمس الحقيقة، وإبقاء الولاية معقودة للمخلص الذي كانوا يودّون أن يخرج من بين صفوفهم.

كذلك يبدو أن ”حزب الله“ يرى في الآخرين صورته، فزعيم الحزب حسن #نصرالله سبق أن أعلن أن ماله وثيابه وسلاحه ومأكله ومشربه كلها من جمهورية إيران الإسلامية ومن أموالها. طبعاً كان هذا تصريحاً غير محسوب لنصرالله، إذ هو أراد أن يؤكد أن حزبه يكتفي ذاتياً بما يجنيه من طهران، وأن هذا الاكتفاء يبعده عن محاولة السطو على موارد دولة لبنان، كما تفعل كل أحزاب السلطة. لكن التصريح أظهر نصرالله وحزبه في صورة المرتزقة.

المشكلة في مقاربة ”حزب الله“ للخصوم واتهامه لهم بالعمالة لا تعدو كونها وسيلة لتقذيعهم، فالحزب غالباً ما ينقلب على مواقفه السابقة ويتحالف مع من كان يسمّيهم خونة. مثلاً، أمضى ”حزب الله“ عقد التسعينيات وهو يصف الجنرال المنفيّ حينها ميشال عون بأنه عميل الصهيونية، فيما بادل عون الحزب الشتيمة ووصفه بميليشيا إرهابية. ودأب عون على ترداد أن مزارع شبعا سورية، وأنه يوم كان ضابطاً مغموراً في الجيش يخدم على الحدود، جاء السوريون وسيطروا على المخفر وطردوا اللبنانيين. كما ردّد عون أن إسرائيل وسوريا كانت تتقاسمان النفوذ في لبنان بالاتفاق بينهما وعلى حساب اللبنانيين.

لكن عندما بدت الرئاسة سانحة لعون في التحالف مع أعداء الأمس، انقلب على نفسه، من مطالب بإصدار عفو عن مقاتلي ”جيش لبنان الجنوبي“، الذي كان متحالفاً مع إسرائيل، الى حزب يصوّت وزير خارجية لبنان المحسوب عليه ضد قرار الأمم المتحدة للتحرّي عن مصير المفقودين في سجون نظام الرئيس السوري بشار الأسد. ومثلما انقلب عون على نفسه ليصل إلى قصر بعبدا الرئاسي، كذلك انقلب خطاب ”حزب الله“ من #التخوين بحق عون وتياره الى المديح بوطنية الرجل وصدقه.

هذا هو العالم الذي يعيش فيه ”حزب الله“: عواصم الخارج تموّل أحزاب الداخل ويتم ”تركيب دينة الجرة“ كل يوم بحسب تقلبات المواقف، وهذا صحيح وينطبق على ”حزب الله“ وأحزاب كثيرة. لكن كثيرين آخرين يعارضون ”حزب الله“ والإسلام السياسي وجمهورية إيران الإسلامية، وأيّدوا الثورة السورية ضد الأسد، من دون أن يكون ثمن موقفهم ثلاثين من الفضة.

كاتب هذه السطور، مثلاً، ناصر ”تحالف #14 آذار“ المؤيد للسيادة اللبنانية، لكنه تمرد على تأييد التحالف لحظر بث المسلسل الإيراني السيد المسيح في لبنان بسبب التمسك بحرية #الرأي المطلقة. كذلك خاب أملي بسبب فشل ”14 آذار“ في التحوّل من تحالف طوائف الى تحالف مواطنين، واعترضت على مصالحة سعد الحريري مع الأسد.

وهنا في واشنطن، عدد كبير من مؤيدي السلام مع #اسرائيل يؤيدون بقاء الأسد في السلطة في سوريا بسبب انتفاء البديل، فيما أعارض أنا الأسد وساندت الثورة السورية. وكذلك أصطف مع صقور السياسة الخارجية، المؤيدين لنشر فكر عصر الأنوار الأوروبي، خصوصاً #الحرية الفردية و#الديموقراطية، ولكن غالبية هؤلاء يؤيدون اليمين الأميركي فيما أنا أتبرع مالياً وأصوّت لليسار وحزبه الديموقراطي، على الرغم من انزعاجي من سياستهم الخارجية. اللبنانيون يصفون التحالفات والخصومات المبنية على مواضيع دون غيرها بسياسة ”على القطعة“.

أما مصدر رزقي، كما كثيرون غيري في هذه المصلحة، فمن عملي المبنيّ على ساعات طويلة من القراءة والكتابة بأربع لغات، وهدفي الأساسي في كل الكتابات هو المصداقية، والتجانس في المواقف، أو تبرير مقنع لما يشذ. ومصدر رزقي محدود وواضح، وككثيرين غيري من عمال الياقة البيضاء، نعيش من مرتباتنا، وأحياناً نستمهل من لهم في ذمتنا، أو أولادنا، حتى موعد الراتب. وهذا هو نمط حياة من يعملون في عملنا هذا. مثلاً، يقود مساعد وزير الخارجية السابق دايفد شنكر سوبارو متواضعة لأنه يعتاش من راتبه، ولو كان لديه الأموال لشراء أصوات اللبنانيين في الانتخابات الماضية، لتقاضى على الأقل عمولة، وصار ممّن يلبسون ساعات ”باتك فيليب“ للدفاع عن ”المقاومة“ أو للتشهير بها، كما هي حال السياسيين والإعلاميين في لبنان.

ليس إصراري وكثيرين مثلي، خصوصاً من شيعة لبنان، على حلّ ميليشيا ”حزب الله“، موقفاً تقاضيت ثمنه ثلاثين من الفضة، ولا حصلت بسببه على جنسيتي الأميركية، فبعض أقراني في دفعتي نفسها، ممّن حصلوا على الجواز الأميركي ويعيشون في واشنطن، يمدحون نظامي إيران وسوريا ويشيدون بـ”حزب الله“.

موقفي المطالب بحل ميليشيا الحزب مبدئي ومبني على عصارة عقود من القراءة والخبرة في شؤون السياسة والدول، وهو موقف مبنيّ على اعتقادي باستحالة قيام دول طبيعية ذات اقتصاد ينمو بدون حكومات ذات سيادة، يحكمها القانون. أيّ استثناء للسيادة وحكم القانون في العسكر، يفتح الباب لتقويضهما في السياسة الخارجية والاقتصاد، ولا يمكن تقويض سيادة الدولة عسكرياً بدون انهيارها اقتصادياً.

في العقود القليلة الماضية، قلّما انخرطت في نقاش فكري مع ”حزب الله“ ومناصريه لأنهم عادة لا يناقشون، بل ينهمكون بمهاجمة شخصي وتخويني. قبل أسابيع، حصل لي شرف النقاش مع صحافي وصف نفسه بـ”الجندي في الممانعة“. اعترضت على مقولته معلّلاً أن الإعلام ليس ساحة حرب والإعلاميين ليسوا عسكراً.

في دنيا ”حزب الله“، ممنوع النقاش في الأساسيات: الحريات لها حدود والآراء المعارضة خيانة. ديموقراطية لبنان هي توافق الطوائف على سيادة الحزب. أما الأفكار الغربية، ففاسدة أصلاً، والغرب منهار ولا فائدة من الاستلهام من تجربته أو أفكاره. النقاش مع ”حزب الله“ صعب بسبب كثرة الطواطم والخطوط الحمراء، وهو ما يحوّل أيّ معترض على آراء الحزب يوضاساً خائناً مدفوع الثمن، يعرف الحقيقة وينكرها لمنفعة شخصية.

ليس هكذا الغرب. الحزبيون والسياسيون قلّة قليلة، تناور، تكذب، تنقلب على نفسها في السعي لمصالحها. أمّا المثقفون، فغالبيتهم يسعون للحفاظ على سمعتهم ومصداقيتهم ولتقديم أفكار خلّاقة بأساليب راقية.

لبنان، بدوره، فسد. أفسده تجاوز سلاح ”حزب الله“ للدستور، فاتحاً الباب لتجاوز السياسيين وفسادهم، تلاهم تجاوز النخبة والمثقفين لأصول الإعلام والفكر والنقاش.

”حزب الله“ يتخيّلنا متآمرين فيما نحن الأضعف، والأضعف لا يتآمر، بل يقول رأيه ويمشي، وغالباً ما يكلفه رأيه صداقات وامتيازات، وأحياناً روحه. على أن التاريخ قلّما يتذكر الصواريخ، بل هو يتذكر الأفكار، وهذه معركة خسرها الحزب اللبناني، رغم اكتساحه كل خصومه المحليين.

* باحث في مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق