الجمعة، 11 مارس 2011

لا إصلاح منظور للنظام الطائفي

حسين عبد الحسين – واشنطن

في محاولة لتحديد من هي القوى القادرة على الاصلاح للاجابة عن سؤال الاستاذ جهاد الزين في مقالته حول التظاهرتين اللتين حملتا شعار "اسقاط النظام الطائفي" اللبناني، ومع كل الاحترام للشباب والمخضرمين ممن شاركوا في التظاهرتين، فإن التجربة اللبنانية تظهر ان مكمن الخلل هو في الثقافة الاجتماعية للبنانيين، ويزيد في الامور تعقيدا النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه الدول الاقليمية صاحبة الثروات الطائلة.

واعتبارنا الخلل بنيويا اجتماعيا سببه تأملنا في اداء الاحزاب اللبنانية العلمانية، التي تحولت الى عصبيات قبلية، ثم انفجرت داخليا وانقسمت على انفسها، ولاحقا تحولت الى فروع ملحقة بالاحزاب – الطوائف الكبرى المسيطرة على المشهد السياسي اللبناني.

مراقبة التفاعل داخل الاحزاب العلمانية اللبنانية يدفع اي باحث الى الجزم بأنه لو قيّض لاي منها ان تتسلم السلطة في لبنان، لما قدمت اصلاحات تليق بشعار "اسقاط النظام الطائفي" المطروح حاليا. اما الدليل الابرز على اختلاط العلمانية بالعصبية القبلية فجلي في دول الجوار.

ان اعتبار الثقافة الاجتماعية العنصر الاساسي في الخلل اللبناني – والعربي عموما – تملي على الباحثين العودة الى الدراسات المتوافرة في علم الاجتماع العربي، وهي للاسف غير مكتملة.

على ان ابرزها هي تلك التي قدمها العراقي الراحل علي الوردي، وهو كان طالبا في "الجامعة الاميركية في بيروت" في اعوام الاستقلال اللبناني، قبل اكمال دراساته العليا في الولايات المتحدة، وعودته للعمل مدرّسا في جامعة بغداد.

في احد اهم اعماله (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، عمل الوردي على الاضاءة على ما وصفه بصراع "المدّ والجزر" الدائم بين البداوة والحضارة في العراق، وحاول تقديم وصفا لميزات "الثقافة البدوية".

ومع ان الوردي كتب عن العراق، الا ان قراءة لما قدمه تظهر تطابقا بين وصفه للثقافة البدوية العراقية والنظام الطائفي اللبناني، وصراع الاثنين مع الحضارة، مما يشي بأنه حتى لو نجح اللبنانيون في علمنة احزابهم وحياتهم السياسية، فان العصبيات ستستمر، وسيستمر "النظام الطائفي" المذكور، حتى لو تزيّن باسماء واشكال مختلفة.

يقول الوردي ان "القبيلة تقوم مقام الدولة في البداوة، فالفرد يجد فيها الامن والضمان والرعاية. ومن لا ينتمي الى قبيلة قوية في الصحراء قد ينتهي امره الى الهلاك، مهما كان في حد ذاته شجاعا قويا". ويضيف: "بمقدار ما يتوقع الفرد من القبيلة ان تشمله بحمايتها، تتوقع القبيلة منه ان يمنحها الفداء والولاء، فهي تسرع الى حمايته والاخذ بثأره، وهو كذلك يسرع الى نجدتها والتضحية في سبيلها في الملمات. انها مصلحة متبادلة بينه وبينها. فهو يتقوى بالقبيلة وهي تتقوى به".

هذا الوصف يكاد يتطابق مع مبدأ المحسوبية اللبناني، فالمواطن مغلوب على امره، حتى في علاقته مع الدولة، الى ان يستقوي بحزبه – طائفته، التي تسيّر اموره. في المقابل، يمنح اللبناني ولاءه السياسي والانتخابي لحزبه – طائفته، حتى لو كان هذا الحزب – الطائفة علمانيا، شيوعيا او قوميا او ما شابه.

ثم ان شبكات المحسوبية اللبنانية تظهر حتى داخل الاحزاب وبلاطات قادة الاحزاب – الطوائف، فينقسم المستشارون والمؤيدون الى فرق متنابذة، وفي اوقات تظهر هذه الفرق باسماء قادتها الى العلن، وتنشقّ، مثل في تجارب "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، او "حركة امل"، وكل هذه ظهر فيها – في مراحل مختلفة – اجنحة ومكاتب عليا وقيادات طوارئ.

ويكتب الوردي كذلك عن غياب القوانين وسيطرة مبدأ القوة، فيقول: "الواقع ان الرجل البدوي يستنكف ان يطالب بحقوقه عن غير طريق السيف والغلبة. وهو يحتقر الحضر لانهم يلتجئون في المطالبة بحقوقهم الى المحاكم. فالحضر في نظره مخنثون قد افسدت الدولة اخلاقهم".

لا حاجة الى الاكثار من الامثلة اللبنانية التي تنطبق على سيطرة مبدأ الغلبة على سيادة القانون، ويمكن ايجازها بمطالبة بعض القوى السياسية "بتطنيش" قرارات مجلس الامن الدولي المتعلقة بلبنان، او الطعن بعدالة دولية ما، او الاصرار على ترسانات الصواريخ لمواجهة اسرائيل.

اخيرا، يقول الوردي انه لا يمكن لاي "حضارة ان تنمو وتزدهر اذا هي ابتليت بحرب دائمة"، اذ ان "حياتها الاقتصادية لا تنتعش الا في حياة السلم، وهي ان اشتركت في حرب تحاول ان تنهيها في اقصر مدة ممكنة لكي ترجع الى حياة السلم من جديد". والمقارنة هنا واضحة مع المثال اللبناني المبتلي بحروب متواصلة، ومع ثقافات "الاحزاب – الطوائف"، التي تمجد الحروب، وتدعو الى مواصلتها بشكل مفتوح.

ان ثقافة البداوة، التي اضعفت الدولة اللبنانية، تسيطر على جميع القوى اللبنانية، المسلحة منها وغير المسلحة، والطائفية، والعلمانية. اما الحل، فيقتضي حدوث تغيرات اقتصادية - اجتماعية، وهذه بدورها شبه مستحيلة في منطقة تسيطر الريعية على انماط انتاجها الاقتصادي، فكميات المال الهائلة الناتجة عن مبيعات الثروات الوطنية – في بعض دول المنطقة – تصل الى يد رأس النظام، الذي يقوم بتوزيعها من خلال شبكة ريعية قائمة على عصبية قبلية. وتمتد القبائل المختلفة عبر الدول، ومنها لبنان، وهو السبب الذي دفع البعض الى تصوير الحروب اللبنانية على انها حروب الاخرين على ارض لبنان، وهو قول لا يأخذ البداوة الموروثة في لبنان بعين الاعتبار.

ان التغيير في لبنان غير ممكن من دون التغيير في انماط الانتاج الاقتصادي او كسب المعاش لدى اللبنانيين، الذي يجب ان ينتج عن العمل لدى رأسمال ربحي يسعى الى المنافسة، والمنافسة تحتاج الى كفاءات، مما يقضي على العصبيات القبلية. وعندما يصبح مدخول اللبنانيين مستقلا عن العصبيات القبلية، يصبح رأيهم السياسي مستقلا كذلك، وتبرز لديهم الحاجة لدولة قوية تحميهم جسديا وتحمي مصالحهم المالية من خارج العصبيات والاحزاب – الطوائف.

لكن المشكلة في لبنان، والمنطقة، هي ان ضخامة المال النفطي تؤدي الى ابتلاع حتى المصالح الرأسمالية المستقلة، فيلجأ اصحاب المال المستقل الى الشبكات القبلية للاستمرار، وتنعدم فرص التنافس المبني على الربحية التي تحتاج الى كفاءة، وتبقى المصالح في قبليتها، فيستمر "النظام الطائفي" في لبنان، وقد يظهر في امكنة جديدة في المنطقة، على غرار العراق.

(صحافي مقيم في واشنطن )

هناك تعليقان (2):

  1. الحقيقة لم أقرأ منذ مدة تحليلاً يصف الواقع بشكل دقيق كالذي قرأته قي هذا التدوين . يبقى فقط الإضافة إلى نموذج "الإنتاج" اللبناني أمرين إثنين:
    - الوظائف العامة في الدولة التي تشكل مصدر الرزق ودعماً ماديا(عبر الرواتب والأجور) لغير الكفوئين الذين يحصلون على هذه الوظائف من خلال النظام القبلي الريعي لزعماء الطوائف الذين "يممنٌون" على من توظف من جماعاتهم والتالي يساهم في استمرار عقلية التبعية. فتتحول الدولة إلى أداة تقاسم حصص و داعماً أساسياً لعدم الكفاءة التي كانت ستفنى في نظام رأسمالي تنافسي لكنها تزدهر على حساب موارد الدولة؛ أما تمويل هذه الوظائف فيأتي من الدين العام الذي يمول من المصارف اللبنانية التي تتغذى من :
    - مال اللبنانيين في المهجر الذي يحول إلى لبنان على شكل إما ودائع مصرفية أو إعانات لأسر اللبنانيين ... إذا بالنسبة للبنانيين فهو مال "سهل الحصول عليه" ... أضف إلى ذلك ما تفضلتم بذكره حول مال النفط ودول الجوار المتصارع التي تغذي حلقة " المال السهل" الذي يصرف في بلد إعتاد الكسب السهل دون التفكير بعواقب هكذا تصرف .
    هذه الأعمدة الثلاث للإيرادات في لبنان تسهم في بقاء و"ازدهار" نظام الريع والزبائنية والعمالة الطوائفي القبلي

    ردحذف
  2. One of the Best articles describing the Lebanese situation i've read in a Long Time. Good Job!

    SC

    ردحذف