الجمعة، 27 يوليو 2012

دروس للأسد من كتاب الاقليات


حسين عبد الحسين
المجلة

على الرغم من نجاح دروز لبنان في العام 2008 بتكبيد “حزب الله” اللبناني هزائم مفاجئة اثناء صدهم لهجومه ضد مناطقهم، الا ان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط طلب التوقف عن القتال، ودخل في تسوية مع الحزب قائمة حتى اليوم.
يومذاك، غضب الدروز على زعيمهم لاستسلامه، ولكنهم ادركوا بعد حين ان ما فعله لم يكن الا تصرفا طبيعيا لأقلية يتفوق عليها “حزب الله”، والطائفة الشيعية من خلفه، عددا وتسليحا وتمويلا.

هكذا تتصرف الاقليات السكانية في مواجهات الشرق الاوسط. تزج بكل امكاناتها القتالية في الايام الاولى للمواجهة وتستبسل، فإن نجحت في إخافة الخصم، ثبتت في موقعها، وان اصر الخصم على الاستمرار في القتال وإطالة أمده، تدرك حينذاك الاقلية ان الارقام ليست في صالحها، وكذلك مرور الوقت، فتتراجع وفي الغالب تستسلم.

جنبلاط والدروز يعرفون جيدا هذا الدرس الاقلوي، ولو تأملنا انتصارات ميليشيا جنبلاط اثناء الحرب الاهلية اللبنانية، لرأيناها مبنية على هجمات درزية مباغتة وسريعة في الساعات الاولى للنهار.

هذا الدرس الاقلوي لم يفت الاسرائيليين، الذين يعرفون انه على الرغم من امتلاكهم لواحد من اقوى جيوش العالم، عليهم غالبا حسم المواجهات بسرعة، وليس سرا أن الاسرائيليين، وهم مجموعة من الاقلية في بحر عربي، يعتقدون ان ابرز انتصاراتهم جاء اثناء حرب “الايام الستة” في العام 1967.
اما عندما تطول الحملة العسكرية، مثل ما حصل بلبنان في 1982 وفي 2006، يصبح حسم الامور اكثر تعقيدا، وتفرض الحرب على الاسرائيليين ضريبة كبيرة من حيث تعطيل اقتصادهم الصغير بسبب انتقال معظم الاحتياط من القوة العاملة الى القوة المقاتلة.

الاسرائيليون يعرفون المعوقات التي تواجه الاقليات في المواجهات مع المجموعات المذهبية الاكبر منها عددا وغالبا ما يعملون على تفاديها باستخدامهم سلاحهم الجوي الرهيب الذي يقتلع مفاعلات نووية ويحسم حروبا بكاملها.

في هذا السياق، يعرف محبو التاريخ ان انتصارات العرب الاولية في حرب 1973 جاءت بفضل مظلة “سام” الصاروخية التي حيدت سلاح الجو الاسرائيلي من المعركة. لكن بعد اختراق المصريين خط بارليف وعبورهم القناة، وتحت ضغط سياسي خصوصا من حافظ الاسد الذي كانت قواته تتقهقر في الجولان، امر الرئيس المصري الراحل انور السادات جيشه بالتقدم خارج المظلة في صحراء سيناء مخالفا بذلك رأي كبار عسكرييه. اذ ذاك انقلبت الحرب لمصلحة الاسرائيليين بعدما تمكنت المقاتلات الاسرائيلية من تكبيد القوات المصرية خسائر فادحة ومحاصرة الجيش الثالث في سيناء والزحف نحو القاهرة.

هذه هي دروس المواجهات بين الاقليات والاغلبية في الشرق الاوسط. وحده بشار الاسد، رئيس سوريا وزعيم الاقلية العلوية التي لا تتعدى عشرة في المائة من سكان سوريا، لم يفطن لهذا الدرس.

في الاشهر الاولى للثورة السورية العام الماضي، كتبت في “هفغنتون بوست” مقالا اعتبرت فيه ان الاسد سيواجه على الارجح مطالبات من كبار وعقلاء طائفته العلوية بالتراجع وعدم زج الطائفة بمواجهة غير مضمونة النتائج ضد الغالبية السنية. وقلت يومها ان هزيمة الاسد بدت واضحة بعد الايام الاولى من مواجهات مدينة درعا الجنوبية. وقتذاك، ضرب الاسد درعا بعنف غير مسبوق هدفه بث الخوف في صفوف من لم ينضموا الى الثورة واقناعهم بالعدول عن رأيهم ان خولتهم انفسهم المشاركة في الحركة الاعتراضية ضده.

الا ان عنف الاسد في درعا لم ينجح في وأد الثورة السورية، وبدا جليا ان حاجز الخوف لدى اغلبية السوريين قد انكسر، فانتشرت الثورة بين المدن واتسعت رقعتها الى حد فاق مقدرة قوات الاسد على مواجهتها في اكثر من مدينة واحدة في الوقت نفسه، فصارت هذه القوات تنتهي من مدينة قبل الانتقال لاخرى، وهذا الاسلوب مازال معتمدا اذ قام الاسد، في الايام القليلة الماضية، بنقل قواته من جبل الزاوية وادلب الى حلب لمواجهة “الجيش السوري الحر” الذي سيطر على غالبية احياء المدينة.

لكن كما حصل في درعا وحماة وحمص وادلب وديرالزور من قبل، قد تنجح قوات الاسد في اجبار مقاتلي الجيش الحر على الانسحاب من حلب، ولكن هؤلاء اما يأخذون مواجهتهم الى مدينة اخرى، او يعودون الى حلب نفسها ويكبدون قوات الاسد المزيد من الخسائر والارهاق، وهو ما يعني ان الاسد ومواليه يخوضون حرب استنزاف.

ومع ان الاسد افضل تسليحا، الا ان تفوق معارضيه عدديا، وتمتع المعارضين بتأييد عالمي فيما الاسد شبه معزول، يعني ان الايام المقبلة للمواجهة هي في مصلحة الثوار، ما يجعل استمرار الاسد في القتال ضربا من العبث الذي لا يساهم الا في زيادة حقد الغالبية واصرارها على الثأر ضده وضد معظم مواليه من طائفته الاقلية، التي لا شك انها تتجه الى الهلاك بدلا من التراجع والخروج بترتيب يكفل سلامتها على الرغم من خسارتها لسيطرتها السياسية والعسكرية والمالية على سوريا.

الخميس، 26 يوليو 2012

من مياه الخليج إلى سماء سوريا.. مناورات غير مرئية بين «سي آي إيه» والحرس الثوري الإيراني

لندن: عيدروس عبد العزيز / واشنطن: حسين عبد الحسين 

منذ أن قام أحد الناشطين السوريين بالتقاط مشاهد فيديو، عبر هاتفه الجوال، لما بدت أنها طائرة من دون طيار «درون» تحلق في سماء بلدة سوريا خاضعة لسيطرة الثوار، قرب حمص، في فبراير (شباط) الماضي، وقام بنشرها على موقع «يوتيوب» على الإنترنت، تواترت تقارير ومعلومات تابعتها «الشرق الأوسط»، تشير إلى أن إيران ترسل طائرات من دون طيار إلى سوريا لاستخدامها في مطاردة الناشطين المعارضين، وعناصر الجيش السوري الحر.

وقامت «الشرق الأوسط»، بإجراء اتصالات واسعة، ومقابلات كثيرة مع خبراء ومختصين، كانت حصيلتها الحصول على صور التقطت عبر الأقمار الصناعية، تبين موقعا لقاعدة عسكرية في حماه لطائرات «درون» قيل إنها إيرانية الصنع، ومعلومات محتملة عن وجود طائرات «درون» إيرانية.

وأكدت مصادر كثيرة لـ«الشرق الأوسط»، دقة المعلومات والصور بشكل كبير، وقالت إن تلك الطائرات تعمل عبر موجات إذاعية، وتلاحق ثوار الجيش السوري الحر في معاقلهم. غير أن المصادر الرسمية في الولايات المتحدة تحرص على سرية المعلومات المتعلقة بهذه الطائرات، وخاصة في سورية.

وبينما أكد ناشطون سوريون وقادة ميدانيون في الجيش الحر، وجود مثل تلك الطائرات، ومشاهدتها مرارا وهي تحلق فوق مناطقهم لتحديد أهدافها قبل أن يتم قصفها اليوم التالي، تحدثت مصادر عسكرية وخبراء لـ«الشرق الأوسط»، مؤكدين وجود طائرات «درون» إيرانية تساعد الحكومة السورية، كما أكدت تلك المصادر أيضا وجود طائرات «درون» أميركية وإسرائيلية، تعمل في المنطقة من دون الإشارة إلى أنها تؤدي مهمة محددة في سوريا. وباستطلاع عدد من الخبراء والمختصين استطاعت «الشرق الأوسط»، أن تثبت أن كثيرا من الصور والبيانات التي تم نشرها، تحتوي على قدر من الصحة، مما يفتح الباب أمام مشهد جديد في الواقع السوري، تبدو خلاله آثار لمعارك وحروب عبر الـ«ريموت كنترول»، وأبطالها أجهزة الاستخبارات الغربية والإقليمية، خاصة بين «سي آي إيه» والحرس الثوري الإيراني.

هل انتهى إذن، عهد إرسال الجيوش الجرارة إلى المواقع الساخنة، لتحل بدلا عنها حروب تدار من بعد. فمن الحشود العسكرية في مياه الخليج، يبدو أن حربا أخرى بالـ«ريموت كنترول»، ستشهدها سماء سوريا، بدخول «الدرون» عنصرا أساسيا في المعركة، مع استبعاد كل أشكال التدخل العسكري التقليدي في المنطقة التي تتعقد حساباتها العسكرية بين القوى الكبرى العالمية واللاعبين الرئيسيين الإقليميين.

فالنجاحات الأميركية العسكرية الكبرى التي حققتها باستخدام طائرة «الدرون» في أفغانستان وباكستان واليمن والعراق والصومال، وقضت فيها على معظم القادة الأساسيين لتنظيم القاعدة، من أبرزهم أبو يحيى الليبي، الذي قضى في غارة في شمال باكستان، وكذا أنور العولقي في منطقة جبلية في شرق العاصمة اليمنية صنعاء العام الماضي.. بالإضافة إلى آخرين بينهم بدر منصور، وعطية عبد الرحمن، وإلياس كشميري، وزعيم طالبان بيت الله محسود في أفغانستان وباكستان، تبدو أن فرص استخدام «الدرون» في الحروب المقبلة في ازدياد.

يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة تنوي تكثيف قواتها العسكرية في الخليج العربي من خلال نشر غواصات مصغرة من دون

غواصين تعمل تحت الماء لاستهداف الألغام الإيرانية، ومن المتوقع أن تشكل هذه الغواصات بدون غواص من طراز «سي فوكس»، التي يبلغ طولها 4 أقدام ويتم توجيهها عن بعد، عنصرا أساسيا في الاستراتيجية العسكرية الأميركية في المنطقة، وسط تصاعد حدة التوترات بشأن برنامج إيران النووي.

وغواصات «سي فوكس» تشكل إضافة قوية لقدرة الجيش الأميركي المضادة للألغام، التي لقيت دعما إضافيا هذا الشهر بالإعلان عن قرب توجه 4 كاسحات ألغام إلى الخليج، مما يضاعف عددها هناك إلى 8 قطع.

ويعكس نشر الولايات المتحدة لهذه الغواصات قلق المخططين العسكريين الأميركيين من احتمال أن تشكل الألغام أكبر تهديد أمام حركة الملاحة التجارية، في حال أقدمت إيران على إغلاق مضيق هرمز، وهو منفذ ضيق يمر من خلاله خُمُس ناقلات البترول في العالم. بل ويخبرنا التاريخ بأنه من الممكن أن تتعرض سفن الأسطول الأميركي نفسها للخطر، فأثناء حرب ناقلات البترول التي دارت في ثمانينات القرن العشرين، أصابت الألغام الإيرانية كثيرا من السفن التجارية، وألحقت بإحداها أضرارا بالغة بالسفينة «يو إس إس صامويل روبرتس»، وهي فرقاطة تحمل قذائف موجهة.

وتقوم الغواصات بدون غواص الموجهة عن بعد بتتبع أهدافها عن طريق جهاز «سونار» يعمل بموجات الراديو، وحينما يحدث التلامس، تنفجر الغواصة لتدمر نفسها مع اللغم. وقد أعلنت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» أخيرا أن أولى غواصات «سي فوكس»، وهي من تصميم شركة ألمانية كانت مملوكة في السابق لشركة الدفاع البريطانية العملاقة «بي إيه إي سيستمز»، قد وصلت بالفعل إلى المنطقة. ويتم التحكم في هذه الغواصة عن طريق كابل من الألياف البصرية طوله 3 آلاف قدم، وقد دخلت الخدمة أيضا في الأسطول الملكي البريطاني.

عودة إلى الجو، والآن يبدو أن هناك آثارا لـ«الدرون» بدأت تلوح في الأفق في سماء سوريا، فبعد مشاهدات وصور، للطائرة الصغيرة في أجواء حمص، وحماه، وغيرها من الأماكن، ترجح مصادر تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، أن عملية التفجير التي حصدت عددا من كبار رجالات أمن النظام السوري، الأسبوع الماضي، في دمشق، ما كان لها أن تتم لولا مساعدات ومعلومات دقيقة تم توفرها من الجو.

ويقول اندرو تابلر، وهو أحد أبرز الخبراء الأميركيين في الشأن السوري ويعمل في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، لـ«الشرق الأوسط» إنه «لم يرشح الكثير من التفاصيل حول العملية التي أودت بحياة كبار مساعدي الأسد، ولكن البعض يعتقد أن من قام بهذه العملية جهاز استخباراتي محترف. ولم يستبعد تابلر أن يكون النظام السوري نفسه هو «من أطلق النار على رجليه»، بعد تسريبات أشارت إلى أن أعضاء هذه الخلية كانوا ينوون القيام باتصالات مع الأمم المتحدة للبحث في مرحلة ما بعد الأسد.

ويتابع: «لأن التفجير أدى إلى مقتل كثيرين، لا يبدو لي أنه عمل قام به هواة، بل محترفون.. ولكن من هم هؤلاء المحترفون؟! لا أعرف».

تابلر، الذي أقام لسنوات كثيرة في دمشق، يقول إن «الأمور تزداد تعقيدا بسبب صعوبة تحديد مكان مبنى الانفجار.. «أعرف المبنى جيدا، وعشت بجواره.. والصور التي نشرت تبين أن هناك دخانا يخرج من المبنى، أما في صور أخرى، يبدو المبنى وكأنه لم يتعرض لأي أذى». ويقول: «إذا ما ثبت أن المبنى تضرر، يعني أن التفجير حصل عن طريق طائرة من دون طيار، أما إذا ظهر أن المبنى لم يتضرر، فطريقة التفجير مختلفة».

ويؤكد تابلر لـ«الشرق الأوسط» أن الولايات المتحدة تحصل على المعلومات الاستخباراتية عن طريق «صور أقمار اصطناعية وعلى أشخاص على الأرض»، مشيرا إلى أن بلاده «لا تملك معلومات كافية من الأرض، وهذا يشكل مشكلة قديمة للولايات المتحدة»، معتبرا أن أجهزة الاستخبارات الأميركية «تقوم اليوم بدور أفضل من الماضي في جمع المعلومات من داخل سوريا».

وذكر تابلر أن بلاده تراقب مواقع أسلحة الدمار الشامل السورية من «الفضاء وعلى الأرض»، وأن معلوماته تشير إلى وجود نحو 45 موقعا تكدس فيها قوات الأسد ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل. «أين هي هذه المواقع بالضبط؟ لا أعرف. ولكني قرأت تقارير تقول إن التخلص منها يتطلب عملية عسكرية يشارك فيها 75 ألف جندي».

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تخف يوما استخدامها طائرات من دون طيار في منطقة الشرق الأوسط، فإنها تنفي قيامها بأي مهمة محددة في سوريا، عدا المناطق الكردية السورية الواقعة في الشمال الشرقي، بطلب من أنقرة لمراقبة تحركات عناصر حزب العمال الكردستاني.

ويقول مصدر أميركي قريب من دوائر اتخاذ القرار في الإدارة الأميركية لـ«الشرق الأوسط» (طلب عدم كشف هويته) إن واشنطن تزود الثوار السوريين بصور من الأقمار الصناعية حول أماكن انتشار قوات الأسد، كما تزودهم بوسائل اتصال مشفرة غير قابلة للاختراق من قبل قوات الأسد أو الإيرانيين.

وقال المصدر إن واشنطن تساعد أيضا في تدريب الثوار على إنشاء وحدات السيطرة والقيادة، وتمويل برامج التدريب لمجموعات المعارضة لإدارة فترة ما بعد الأسد، بالإضافة إلى جمع المعلومات الاستخباراتية حول قوات الأسد والثوار واعتراض الاتصالات الهاتفية ووسائل الاتصال الأخرى.

وفي هذا السياق أيضا، أكد ضابط سابق في المخابرات العسكرية الأميركية، قضى سنوات في المنطقة، لـ«الشرق الأوسط»، وجود طائرات من دون طيار أميركية تحلق على الحدود السورية، لكنه أشار أيضا إلى أنها لا تقوم بأي مهمة في سوريا، وقال إن «هذا التحليق جزء من مجهود مشترك مع القيادة العسكرية التركية، حيث تعمل القيادتان منذ سنوات على تسيير دوريات طائرات من دون طيار، تنطلق من قاعدة انجرليك الجوية، لمراقبة حركة مقاتلي حزب العمال الكردستاني». كما أشار إلى أن إسرائيل لا ترسل طائرات من دون طيار فوق سوريا، وأن أميركا وإسرائيل تعتمدان في الغالب على صور الأقمار الاصطناعية التي تسمح بمراقبة حركة السلاح الثقيل، وخصوصا الترسانة الكيماوية السورية.

غير أن مصادر أميركية أخرى (طلبت عدم ذكر أسمائها) قالت إن عددا كبيرا من الطائرات الأميركية من دون طيار تعمل في سماء سوريا لجمع المعلومات، موضحة أنها ترصد الهجمات العسكرية السورية ضد قوى المعارضة والمدنيين. وأشارت هذه المصادر إلى أن هذه الخطوة ليست تحضيرا لتدخل عسكري أميركي في سوريا، بل من أجل جمع الأدلة فوق البصرية وقراءة تحركات النظام السوري والاتصالات العسكرية لاستخدامها لاحقا في الدفع باتجاه استجابة دولية واسعة النطاق ضد النظام في دمشق.

وتحرص الولايات المتحدة على سرية المعلومات المتعلقة بالطائرات دون طيار وخاصة في سوريا. وبينما امتنع ناطق باسم القيادة المركزية التابعة للجيش الأميركي التعليق على الموضوع لـ«الشرق الأوسط»، اكتفى بالقول: «لم أسمع أي معلومات حول ذلك، ولكن إن كانت موجودة ستبقى سرية». وامتنعت وزارة الخارجية الأميركية أيضا التعليق مباشرة على الموضوع، على الرغم من تأكيدها دعمها للمعارضة السورية من خلال الدعم اللوجيستي والاستخباراتي.

ويذكر أن وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إيه) هي الدائرة المسؤولة بدرجة عالية عن الطائرات دون طيار، بالتعاون مع وزارة الدفاع الأميركية. وهناك تأكيد أميركي أيضا على دعم إيران للنظام السوري من خلال تزويده بمعدات عسكرية، ومن بينها شكوك حول تزويد طهران لدمشق بطائرات من دون طيار.

وكانت مصادر تركية كشفت أيضا لـ«الشرق الأوسط» عن أن أجهزة الرادار التركية التقطت طائرات من دون طيار تحلق فوق المناطق السورية. وقالت المصادر إن هذه الطائرات استعملت للتجسس على الناشطين وضربهم، مشيرة إلى أن هذه الطيارات هي إسرائيلية الصنع. وأوضحت المصادر أن هذا الواقع يطرح 3 احتمالات؛ أولها أن تكون إسرائيل متعاونة بالكامل مع النظام السوري، وثانيها أن يكون هناك نصف تعاون، بمعنى أنها تزودها بالمعلومات، وثالثها هو أن تكون روسيا قد زودت النظام بهذه الطائرات التي اشترت موسكو عددا منها من تل أبيب، مشيرة إلى أن الاحتمال الثالث يعني أن هذه الطائرات تشغل بواسطة ضباط وخبراء روس.

لكن الجديد الآن هو ما كشفته صور التقطت بواسطة الأقمار الصناعية نشرها موقع يهتم بالمعلومات الاستخباراتية تكشف تفاصيل جديدة عن طائرات تجسس إيرانية تسمى «مهاجر 4»، تعمل عبر الموجات الإذاعية، تم رصدها في قاعدة عسكرية بحماه، تستخدمها سوريا لملاحقة الثوار المعارضين. وبناء على الصور، المنشورة على موقع «جيو آي» ونشرها أيضا ونقلتها مواقع أخرى، يبدو أن طائرة التجسس الإيرانية «مهاجر 4» الصغيرة غير المسلحة محدودة النطاق.

وحسب مختصين في الشؤون العسكرية، فإن «مهاجر 4» تعتمد على الأرجح على إشارات تحكم تصدر من قاعدة إطلاقها عبر موجات إذاعية، على عكس بعض الطائرات الغربية التي يمكن التحكم فيها عبر الأقمار الصناعية من أي مكان في العالم. وربما تكون قدرة طائرة التجسس السورية على نقل الفيديو محدودة كذلك. وباتصالات أجرتها «الشرق الأوسط»، للتحقق من صحة الصور، تبين دقتها بشكل كبير.

وفي هذا الإطار، أكد مسؤولون أميركيون وأوروبيون، أن إيران تقدم مجموعة واسعة من المساعدات إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لمساعدته في قمع الاحتجاجات المناهضة لنظامه، من بينها تكنولوجيا المراقبة ذات التقنية العالية، وتقنيات تعطيل ومراقبة الإنترنت، إلى البنادق والذخيرة. وأشار هؤلاء في هذا السياق إلى طائرات من دون طيار إيرانية تقوم بتقديم خدماتها أيضا.

وكانت إيران أعلنت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي أنها أسقطت طائرة «درون» أميركية من طراز «RQ - 170»، وهي من نوع «الشبح»، الذي لا يمكن للرادار رصده، ومن صنع شركة «لوكهيد مارتن»، ورفضت نداءات من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بإعادتها إلى الولايات المتحدة، وبدلا من ذلك، ذكرت لاحقا أنها تقوم بإنتاج نسخة إيرانية من الطائرة نفسها.

ويؤكد مصدر أميركي مقرب من الإدارة الأميركية لـ«الشرق الأوسط» (طلب حجب اسمه) أنه لو ثبت أن إيران أو سوريا تسير طائرات من دون طيار فوق مناطق الثوار السوريين، فإنه لن يعود بكثير من الفائدة على الأسد وقواته، «فالأمر يتعلق بنوعية التقنية المطلوبة في الاستطلاع الجوي». وأضاف أن «صور الأقمار الاصطناعية تسمح بمراقبة السلاح الثقيل وانتشار كتائب الجيش، فيما تستخدم الطائرات من دون طيار لملاحقة الأفراد.. وفي حالة الأسد، لا يفيد الاستطلاع الجوي لأن الثوار غير منتظمين في كتائب قتالية، وليسوا متمركزين في أماكن ثابتة». وقال إن «الثوار يستخدمون تكتيك (اضرب واهرب)، مما يجعل مراقبتهم عبر الأقمار الاصطناعية غير مجدية. أما استخدام الأسد أو الإيرانيين لطائرات من دون طيار لملاحقة قادة الثوار فإمكانياته محدودة جدا؛ إذ تظهر التقارير أن مدى طائرات الاستطلاع من دون طيار الإيرانية يتراوح بين 20 و30 ميلا (32 و48 كيلومترا) بعيدا عن مركز القيادة، مما يعني أنه يمكن للثوار الهروب من عيون هذه الطائرات بمجرد الخروج من نطاق تغطيتها.

وتستخدم الصور التي يتم التقاطها عبر الأقمار الصناعية في تعيين مواقع معدات الجيش الثقيلة وتحركات الكتائب العسكرية، فيما تستخدم الطائرات من دون طيار في تعقب الأفراد.

وحسب موقع «OSGEOINT» الذي يديره مسؤول سابق في جهاز المخابرات الأميركية (جورج كابلان)، فإن أول مرة شوهدت فيها طائرات التجسس في سوريا كانت في فبراير الماضي، عندما وضع أحد الناشطين تسجيل فيديو على موقع «يوتيوب» يعرض ما بدت أنها طائرة من دون طيار فوق بلدة كفر بطنا الخاضعة لسيطرة الثوار، ثم أعيد نشر هذا الفيديو عدة مرات. وفي وقت لاحق، شوهدت طائرة من دون طيار مرة أخرى على الأقل في مدينة حمص الثائرة.

ولم يُعرف عن دمشق استخدام طائرات من دون طيار، وكانت هناك تكهنات بأن الطائرة أميركية أو إسرائيلية وتستخدم من أجل التجسس على النظام السوري قبل الإقدام على أي تدخل ممكن، ولكن - حسب كابلان - سريعا ما عرف المراقبون المطلعون أن طائرة كفر بطنا من طراز «مهاجر 4» الإيرانية الصنع التي تعرف أيضا باسمها العام «بهباد»، والتي أطلقت عام 2010 في تدريبات بحرية إيرانية. ووقتها أعلن أمير علي حاجيزاده، رئيس شعبة الطيران بالحرس الثوري، أنه «بالإضافة إلى القيام برحلات استطلاع جوي فوق ميدان العمليات، يتميز هذا النوع من الطائرات بتيسير قيادة المعركة بنقل بيانات في وقتها الفعلي». وكان رد فعل البنتاغون وقتها هو إرسال طائرات دون طيار خاصة به، على الأرجح هي «غلوبال هوك» عالية الارتفاع أو «سنتينال» غير الملحوظة، فوق سوريا لمراقبة الحرب الأهلية المستعرة، حسب المصادر الأميركية.

ومقارنة بالطائرات الأميركية ذات الطراز المعقد والكبير، تتسم «مهاجر 4» بصغر الحجم، حيث يبلغ طولها 10 أقدام فقط، وإمكانية ملاحظتها وربما قدرتها المحدودة. وبما أن دمشق لا تملك شبكة اتصالات عالمية عبر الأقمار الصناعية، لذلك من المرجح أن تكون الطائرات خاضعة للتحكم عبر موجات الراديو على مرمى البصر. ويوضح اختصاصيون أن أكبر نطاق يمكن أن تصل إليه «مهاجر 4»، هو 40 ميلا.

وتوضح صور الأقمار الصناعية التي تم نشرها أن تشغيل طائرات «مهاجر 4» يتم من قاعدة جوية تبعد بمسافة 18 ميلا فقط عن حماه. ويشرح اختصاصيون أنه من المحتمل أن ترسل طائرة «مهاجر 4» الفيديو مباشرة إلى القاعدة البرية التي أطلقت منها، والتي يتم توجيهها من خلالها، على النقيض في طائرات التجسس الأميركية، التي تستطيع أكبرها أن ترسل الصور إلى مواقع كثيرة وبعيدة في وقت واحد. وتوضح الصور أيضا لقاعدة شايرات ما يبدو وكأنها محطة تحكم في «مهاجر 4»، وهي منشأة تشبه المخزن ملحق بها نوع من المركبات.

وحسب مراقبين، فإن دمشق ليست الدولة أو الجماعة الوحيدة التي تستفيد من تكنولوجيا طائرات التجسس التي صنعتها إيران، فبالإضافة إلى أي معلومات حصلت عليها طهران من طائرة «سنتينال» الأميركية التي استولت عليها، استعان حزب الله أيضا بطائرات إيرانية من دون طيار، كما تساعد طهران فنزويلا أيضا على تطوير طائرة تجسس أساسية. ولكن يختلف الوضع في سوريا؛ فهنا تساعد الطائرات الإيرانية في حملة قمع وحشية ودموية.

الأربعاء، 25 يوليو 2012

مؤتمر «اليوم التالي لسقوط الأسد» للمعارضة رفض اجتثاث «البعث» وحل الجيش

| واشنطن من حسين عبدالحسين |

قال خبراء أميركيون ان ما يقارب الاربعين من ممثلي المجموعات السورية المعارضة التقت دوريا في برلين، بين يناير ونهاية يونيو الماضي، استعدادا لادارة سورية بعد انهيار الرئيس بشار الأسد ونظامه. وجاء اللقاء في اطار مؤتمر أطلق عليه اسم «اليوم التالي لسقوط الأسد»، أشرف عليه «معهد الولايات المتحدة للسلام» وتم تمويله عبر وزارتي الخارجية الأميركية والسويسرية ومجموعات هولندية ونروجية وألمانية. ومن المتوقع ان ينشر المعهد مجريات ونتائج اعمال المؤتمر في الاسابيع المقبلة.
أبرز ما خلص إليه المؤتمرون تقديمهم رؤية مفادها ان أي عملية انتقالية يجب الا تشمل الاطاحة بكامل الانظمة السياسية والقضائية والامنية في مرحلة ما بعد الأسد، على عكس ما حدث في عراق ما بعد صدام حسين، اي ان الحكومة السورية المستقبلية لن تقوم بعملية «اجتثاث» لـ «حزب البعث العربي الاشتراكي» الحاكم ولا بحل الجيش السوري، وهو ما يعتقد المؤتمرون ان من شأنه تجنيب سورية عمليات انتقامية وتهميش لكوادر سابقة.
وانقسمت جلسات المؤتمر الى خمس ورشات عمل: واحدة للأمن، وثانية للقضاء، وثالثة للتنظيم المالي، ورابعة للبنية التحتية والخدمات، وخامسة للسياسة عموما. ويقول بعض المشاركين في التنظيم انه تم اطلاع كل من جامعة الدول العربية، و«مؤتمر اصدقاء سورية»، و«بعثة كوفي انان»، و«المجلس الوطني السوري» على مجريات ونتائج اعمال المؤتمر. الا انه رغم المجهود الكبير الذي قام به «المعهد الاميركي»، مدعوما من حكومات ومنظمات اميركية واوروبية، شكك بعض الناشطين السوريين بجدوى المؤتمر وجديته، ومدى تمثيله لعدد من الناشطين في الثورة السوريين. 
وفي مقابلة اجرتها معه «الراي»، قال الناشط السوري المقيم في واشنطن محمد العبدالله: «هناك تساؤلات لعشرات الناشطين عن المشروع وعن الآلية التي أطلق بها المؤتمر، وعن آلية انتقاء المشاركين». 
واضاف: «تم دعوة أشخاص غادروا سورية منذ عقدين أو أكثر، وتم استبعاد شخصيات مساهمة بجد في الحراك الميداني غادرت البلاد منذ فترة قصيرة، ناهيك عن التعتيم الذي لحق بطريقة إعداد التقرير الناتج عن ورشات العمل الخمسة».
وختم بالقول: «كلها أمور طرحت اشارات استفهام كبيرة حول المشروع الذي يطلق عليه الناشطون السوريون اسم (مشروع ستيفن هايدنمان) بدلا من مشروع (اليوم التالي لسقوط الأسد) نظرا لضبابية هايدنمان حول المشروع ومنهجية عمله».
هايدنمان بدوره رفض اتهامه بالتفرد في اعداد المؤتمر، وقال: «السوريون هم في مركز القيادة في هذا المشروع». ووعد هايدنمان بنشر تقرير حول المؤتمر في الاسابيع المقبلة، وامل ان يشكل التقرير وثيقة لخطة انتقالية تستخدمها الحكومة المقبلة بعد الاطاحة بالأسد. 
وقال هايدنمان لموقع «ذي كايبل» انه «اضافة الى الاصلاحات التي توصي بها الوثيقة للقطاع الامني السوري، نجح المؤتمرون في الخروج بخطط لاصلاح القطاع القضائي، ووضع اطار لمهام ووظيفة المعارضة المسلحة في سورية ما بعد الأسد». وتابع ان «الفكرة هي المحافظة على اجزاء من الدولة السورية يمكن نقلها من مرحلة الى مرحلة وفي الوقت نفسه العمل على اصلاح الاجزاء التي تحتاج الى اصلاحات»، معتبرا انه «يمكن المحافظة على جزء كبير من النظام القانوني السوري».
ويقول هايدنمان ان المؤتمر «حاول تحديد مَن مِن العاملين في اجهزة النظام ممن يمكنهم لعب دور فعال في المرحلة المباشرة بعد سقوط الأسد». ويضيف ان «اعمال المؤتمر سمحت للقيمين عليه ببدء بعملية التعرف على المرشحين لادارة سورية في المرحلة المقبلة».
على ان هايدنمان حرص على القول ان المؤتمر لم يناقش كيفية المساهمة في التسريع في عملية خروج الأسد من السلطة. وقال: «مؤتمرنا عنوانه اليوم التالي للأسد... هناك مؤتمرات اخرى تعمل على ايام قبل خروج الاسد».
وكان لافتا في المؤتمر غياب ممثلين لادارة الرئيس باراك اوباما. وفيما اعتبر البعض ان هذا الغياب يؤشر على عدم إيلاء الادارة الاهمية الكافية للموضوع السوري، قال آخرون ان البقاء بعيدا عن المؤتمر حصل عن قصد بهدف «عدم التشويش» على اعماله وتفادي قيام البعض باتهام الولايات المتحدة بالتورط او باملاء شكل الدولة السورية في مرحلة ما بعد الاسد.

الخميس، 19 يوليو 2012

وزير خارجية رومني المحتمل: تدخل في سورية من دون سلاح

| واشنطن - من حسين عبدالحسين |

على عكس ما نشرته صحيفة «دايلي تلغراف» البريطانية من ان الولايات المتحدة لن تقدم اي معونة عسكرية الى الثوار في سورية الى
 ما بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، لا يبدو ان اي ادارة أميركية ديموقراطية او جمهورية مستعدة تزويد السوريين بالسلاح او التدخل احاديا في حسم النزاع القائم للتعجيل بخروج بشار الأسد من الحكم.
في هذا السياق، قال اكثر الشخصيات المرجحة لتولي منصب وزير خارجية في حال فوز المرشح الجمهوري ميت رومني بمنصب الرئاسة ان «الازمة في سورية تتطلب تدخلا خارجيا، لكن بادوات غير الاسلحة».
ريتشارد هاس، الديبوماسي السابق ورئيس مركز ابحاث «مجلس العلاقات الخارجية» المرموق، كتب في مطالعة انه للمرة الاولى، «تصطف مصالح (أميركا) الاستراتيجية والانسانية في صف واحد» في سورية. وقال هاس: «لدى حكومات عديدة رغبة استراتيجية في خلع نظام متحالف عن قرب مع ايران وحزب الله، كما هناك رغبة انسانية للتخلص من نظام قتل 15 ألفاً، ان لم يكن أكثر، من شعبه».
لكن على الرغم من تلاقي مصالح الولايات المتحدة وموقفها الانساني ضد قتل الأسد لشعبه، يعتقد هاس ان التدخل العسكري سيشكل مهمة كبيرة، «مهمة تتطلب لا قوة جوية مؤثرة فحسب (نظرا لشبكة الدفاعات الجوية السورية)، بل الى قوات على الارض كذلك، بالنظر الى وجود فرقتين قادرتين على القتال وتستمران في ولائهما الى الرئيس بشار الأسد».
وتابع وزير الخارجية المحتمل ان طبيعة النظام السوري الطائفية غير مشجعة، ولا تضمن مهمة قصيرة لاي قوات أجنبية في سورية، بل على العكس من ذلك، يرجح ان يتطلب دخول هذه القوات بقاءها فترة طويلة قبل ان تستتب الامور حتى يمكنها الانسحاب.
واضاف هاس ان البديل هو تزويد المعارضة بالاسلحة وبأنواع دعم اخرى. «هذا يحصل حاليا لانه من السهل اقناع الجميع بضرورة مساعدة الناس في الدفاع عن انفسهم». الا ان هاس اعتبر ان في تسليح المعارضة «مخاطر اشعال حرب اهلية وتشجيع الموالين للنظام على التشبث بمواقعهم»، وان «الاسلحة التي يتم تقديمها لقتال النظام ستستخدمها الفصائل في قتال بعضها البعض اذا ما، وعندما، يسقط النظام، مما يساهم في جعل مستقبل سورية ما بعد الأسد اكثر عنفا بكثير».
وفي غياب التدخل العسكري ومخاطر تسليح المعارضة، يدعو هاس الى فرض عقوبات اقتصادية قاسية على نظام الأسد، شبيهة بتلك التي يفرضها العالم على النظام الايراني. المطلوب، يختم هاس، هو «مقاربة تساهم في التعجيل في سقوط نظام الأسد وتقلل من مخاطر تحول سورية من بعده الى حفلة انتقام وعنف وفوضى».
رأي هاس يشي بأن وصول رومني الى البيت الابيض لا يعني تدخلا عسكريا أميركيا تلقائيا في سورية، والعارفون بشخصية المرشح الجمهوري يصفونه على انه «لا يقبل على المخاطرة»، وهو ما يعني، انه في وجود اعضاء في فريقه مثل هاس، لن تكون سهلة مهمة الجمهوريين المطالبين بتدخل عسكري أميركي في سورية، من امثال السناتور المخضرم عن لاية اريزونا والمرشح الرئاسي السابق جون ماكين.
اما في حال فوز الرئيس باراك اوباما بولاية ثانية وبقائه في الحكم، من غير المرجح ان تشهد سياسة واشنطن تجاه سورية اي تغييرات جذرية، فأوباما مستعد للمساهمة بكل مجهود يساهم بالاطاحة بالأسد ونظامه، طالما ان ذلك لا يعني تدخلا عسكريا أميركيا، وخصوصا تدخلا احاديا.
على ان فريق اوباما يكرر ان واشنطن مستعدة للمشاركة في اي تحالف دولي يهدف الى حسم الامور في سورية ضد الأسد. كذلك يقول اعضاء الحكومة الحالية ان الولايات المتحدة تقوم بتزويد الثوار السوريين وسائل اتصالات متطورة فيما يساهم خبراء أميركيون بالاشراف على قيام بعض الدول الاقليمية بتوزيع اسلحة على الثوار.
أميركا تساهم كذلك، يقول المسؤولون، في الاتصال بكبار اعضاء نظام الأسد وحثهم على الانشقاق، وتعمل على تقديم خطط لهم للهروب ومأوى لهم للعيش او للمشاركة في عمل الثوار وفي الاتصال بالمعارضة.
الموضوع الوحيد الذي لا تساهم فيه واشنطن حاليا هو تقديم اسلحة للثوار، والسبب داخلي أميركي اكثر منه خارجي. يقول مسؤول رفيع: «لو قمنا بتزويد المعارضة بأسلحة ووصلت بندقية واحدة الى ايدي متطرفين، سترى ذلك على الصفحات الاولى للصحف لأميركية، وهذا موضوع حساس الادارة الحالية غير مستعدة لدفع ثمنه سياسيا، على الاقل ليس قبل موعد الانتخابات (الرئاسية)».

الأربعاء، 18 يوليو 2012

هكذا تحدّث صدام حسين المجيد

لم يترك الانقسام المذهبي في منطقة الشرق الاوسط شيئا الا وعبث به. حتى التاريخ يعاد النظر به اليوم ليتناسب والانقسام القائم، فيتحول من كانوا في الماضي القريب سببا لحروب ومآسي الى ابطال، ويتم تلميع صورتهم. ولكن هل كان هؤلاء ابطالا فعلا؟ هل قاد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين المواجهة العربية في وجه ايران؟ ام ان صدام حاول ابتلاع الكويت باسم العروبة، ومنها ارسل قواته لاجتياح الخفجي السعودية فيما كانت صواريخه تمطر على رأس العرب السعوديين، الذين يفترض انه كان يحميهم من خطر التمدد الفارسي؟ قد تتغير الذاكرة الشعبية العربية بحسب تغير الاوضاع، لكن الوثائق والتسجيلات والخطب والمقابلات، كلها باقية، وتحكي قصة مغايرة عن رجل مازالت شخصيته المعقدة والغامضة مصدر تساؤل لكثيرين، خصوصا بعد رحيله.



حسين عبد الحسين
المجلة

فيما كان عراقيون يغزون قصور صدام حسين وعائلته ومؤسسات الدولة العراقية للاستيلاء على ما وقعت عليه ايديهم، كانت القوات الاميركية تجمع من الامكنة نفسها وثائق وتسجيلات تروي الكثير من فترة حكم الرئيس العراقي المتواري، وتلقي الضوء على شخصيته واسلوب عمله. في ما بعد، قدمت القوات الاميركية غنائمها الى مراكز الابحاث، التي نشرت كمية لا بأس بها مما تحول اساسا لاعمال متعددة، منها كتاب “تسجيلات صدام”.
خارج قصر عدي صدام حسين، في حي الجادرية في بغداد، وقف شاب وهو يقتاد حصانا استولى عليه من الباحة المجاورة للقصر. داخل القصر، شابان في حوض السباحة يحاولان اصطياد الاسماك الثمينة وبيعها، فيما رجل في سن الكهولة، خرج وهو يرتدي ثياب عدي وقبعته ويحمل العصا التي كان يستخدمها ابن الرئيس العراقي في المشي بعد نجاته من محاولة اغتيال لمساعدته على التغلب على شبه الشلل الذي اصابه.
اما أنا، فدخلت غرف القصر يدفعني فضولي الصحافي. في غرفة يبدو انها كانت تستخدم للنوم، نهبها الناهبون وبعثروا محتوياتها، لم تنج صور عدي وابيه على الحائط. هناك صورة واحدة فقط لم يمزقها الناهبون، ربما لانهم لم يعرفوا صاحبتها. اقتربت منها، فوجدت انها تعود لتشلسي ابنة رئيس اميركا السابق بيل كلينتون. على طاولة مجاورة، كان يوجد دليل تلفزيوني وقد وضع اصحابه، على الغالب عدي نفسه، اشارات على برامجه المفضلة التي كان يتابعها على الفضائيات العربية المختلفة. طبعا الصحون اللاقطة كانت ممنوعة على العراقيين في زمن صدام، ولكنني كنت في بيت عدي.
الرئيس القائد
داخل قصر عدي، رأيت الشخصي يمتزج مع العام، هو ابن صدام ورئيس معظم الجمعيات الشبابية في حينه حيث اشتهر بساديته وبطشه حتى بأصدقائه، ولكنه في وقته الخاص كان يتابع برامج الفضائيات العربية مثله مثل اي شاب عربي آخر. هذا الانفصام بدأ يطرح في بالي اسئلة من قبيل: اين تبدأ انسانية صدام حسين وابنائه، واين تنتهي؟ ماهو السياسي وما هو الشخصي والعائلي في حياة هؤلاء؟ هل كان صدام يمتهن السياسة في النهار ويعيش حياته الطبيعية مع عائلته في الليل، ام انه كان “الرئيس القائد” حتى عندما يكون في اوضاع عائلية وحميمية؟ والاهم من ذلك كله، هل كان صدام يصدّق في السر كل ما يقوله في العلن؟
عندما كنت اجول في قصور صدام وابنائه، وفيما كان بعض العراقيين يستولون على كل ما يقع نظرهم عليه في تلك القصور كما في دوائر المؤسسات الحكومية، كانت القوات الاميركية، بمساعدة عراقيين، تجمع كل ما عثرت عليه من وثائق. كانت واشنطن تسعى لايجاد ما يقد يبرر حربها على شكل وثائق تثبت نشاطات نظام صدام لانتاج اسلحة الدمار الشامل، او رسائل بين مسؤوليه و”تنظيم القاعدة” لاثبات تورطه في هجمات 11 ايلول (سبتمبر) 2001. يومذاك، اتصلت بالضباط الاميركيين في بغداد لمعرفة مصير وثائق الدولة، ولم اتلق الا اجابات غاضبة.
بعد ذلك بحين، علمت ان الاميركيين جمعوا اشرطة كاسيت فيها تسجيلات لحوارات صدام اثناء اجتماعاته مع كبار مسؤوليه، ولكنني لم انجح بالوصول الى اي منها، حتى لفتني صديق الى كتاب “تسجيلات صدام”، الذي ترجمه الى الانجليزية وجمعه وحرره كل من كيفين وودز، ودايفيد بالكي، ومارك ستاوت.
يقول المحررون انهم عملوا على سبعة الاف شريط كاسيت، واستخلصوا منها حوالي الفين وخمسمائة يظهر فيها صدام كمتحدث رئيس او يشارك في جزء من الحوارات. ويلفت المحررون الى المشاكل الكثيرة التي واجهوها. اولا، لم يرافق الكاسيتات اي ملصقات تحدد تاريخها او تعرف عنها. ثانيا، بعض الكاسيتات يبدأ في منتصف الحديث وينتهي قبل نهايته. ثالثا، كان يصعب في اوقات تحديد هويات المتحدثين، الا اذ توجه واحدهم الى الآخر باسمه، وحتى في تلك الحالة، يكون الاسم “ابو فلان” على جاري العادة العربية في المناداة.
لكن صوت ونبرة من كان يعرف بالمهيب الركن القائد صدام حسين المجيد كانا معروفين اكثر من ان يخفيان، وهو ما سهل من عمل المحررين، الذين عمدوا الى تقديم الكتاب في ابواب تهم القراء الاميركيين اكثر من العرب، تصدرها باب علاقة العراق مع الولايات المتحدة الاميركية، و”النظرة تجاه اسرائيل”، والعلاقة مع العالم العربي، فالحرب ضد ايران او “قادسية صدام”، وحرب تحرير الكويت او “ام المعارك”، و”الحصار” ثم “حسين كامل”، صهر صدام الذي فر الى الاردن، ثم عاد ليلقى حتفه في ما وصفه الاعلام الرسمي في حينه عملية “غسل عار” قام بها افراد عشيرته.
الا ان التصنيف يبدو سطحيا و لا يفي الموضوع حقه، فصدام هو مجموعة من الشخصيات المختلفة التي تغيرت مع مرور الزمن الطويل الذي تربع فيه على عرشه حاكما اوحد للعراقيين بين العامين 1979 و2003، وليس واضحا كيف يمكن تصنيف موقفه من اميركا مثلا، على مدى ربع قرن تعاقب اثناءها خمسة رؤساء اميركيين على الحكم في بلادهم، في باب واحد. وفي اجزاء من احاديث صدام، يعمد المحررون الى اضافة كلمة “اسلامية” بين قوسين في كل مرة يذكر فيها كلمة “امة”. بيد ان من يعرف الادبيات البعثية يعلم ان البعثيين كانوا دائما يتحدثون عن “امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”، لا عن امة اسلامية.
عليه، يبدو من الافضل ممارسة الابحاث على تسجيلات صدام بشكل زمني، ومراقبة تطور الرجل، والتغييرات التي طالت مواقفه مع الوقت، فصدام بدأ حياته شابا واقعيا واثقا من نفسه، ثم تحول الى زعيما مهووسا بأمنه، ما ادى الى عزله عن العالم الخارجي واحاطته بمجموعة من المتملقين، تحببا او خوفا، ممن اصبحوا يخشون الاختلاف معه في الرأي.
وكلما امعن معاونو صدام المعزول عن العالم في تمجيده، خسر الرئيس العراقي من اتصاله بالواقع، وصار مفتونا بعظمته وسؤدد رأيه المبني غالبا على معطيات اما قديمة تغيرت او من نسج خياله، الى حد صار يبدو مجنونا للعالم الخارجي، وهو ما اشتكى منه صدام نفسه في تسجيل للقاء مع كبار معاونيه في 22 تموز (يوليو) 1995. يومذاك، كان العراقيون قد اطلقوا سراح اميركيين عبرا الحدود الكويتية – العراقية خطأ، وحاكموهما بتهمة التجسس، واصدروا بحقهما حكما قضى بحبسهما ثماني سنوات. على اثر الحادثة، زار عضو الكونغرس بيل ريتشاردسون، المقرب من الرئيس بيل كلينتون، بغداد، والتقى صدام، واسفرت وساطته عن الافراج عن الاميركيين.
ويظهر التسجيل ان صدام كان يأمل ان يؤدي نجاح الوساطة الاميركية الى تحسين علاقة بلاده مع واشنطن. الا ان التسجيل نفسه يظهر صدام مذهولا لردود فعل الاميركيين تجاهه. ويقول صدام انه عندما يعود ريتشاردسون الى بلاده، سيسأله الاعلام الاميركي: “هل قابلت صدام حسين؟ هل هو مثل الاشخاص الطبيعيين؟ هل يتحدث بلطافة مثل الناس الطبيعيين؟ هل يشرب الشاي؟ هل رأيته”؟ ويضيف صدام، بما يشبه التمني، ان ريتشاردسون سيجيب: “والله يا أخي هذه اول مرة نرى شيئا كهذا، انه رجل لطيف، يتحدث، ووجدناه شخصا طبيعيا”.
وفي التسجيل نفسه، يلفت صدام الى تصريح لوزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر قال فيه ان “التعب اصابه من محاولته فهم عقل صدام حسين الصعب”. ويتابع صدام: “لا اعلم لماذا اصابه التعب؟ هل هذه معادلة كيماوية؟ الا تعلمون ان عقل صدام حسين مثل عقل اي شخص آخر؟”
يظهر التسجيل المذكور انه مع حلول منتصف التسعينات، كان صدام حسين، المعزول بسبب اجراءاته الامنية داخل بلاده المعزولة بدورها بسبب الحصار الدولي عليها، قد بدأ يواجه مشكلة التفاهم مع الآخرين. في داخل العراق، دفع الخوف الكثيرين الى التهليل لصدام على الرغم من “صعوبة عقله”. لكن خارج العراق، كان الوضع مختلفا، ولم يعد الرئيس العراقي قادرا على التفاهم مع القادة العرب ولا العالميين، ولا ابقاء تصرفاته او تصرفات نظامه في الحدود المتفق عليها دوليا. لكن صدام لم يكن دوما على هذا الشكل.
صدام متألقا
في العام 1979، لم اتنبه انا واقراني ان اناشيدنا المدرسية استبدلت تمجيد الرئيس احمد حسن البكر بنائبه وخليفته صدام حسين، الذي كان حتى ذلك الوقت معروفا بـ “السيد النائب”. كانت معلماتنا تقودننا الى تظاهرات غالبا ما نردد فيها شعارات لا نفقه معناها على طراز “بالروح بالدم نفديك يا صدام”، و”هلهولة للبعث الصامد”، و”صدام اسمك هز امريكا”. ما هو البعث؟ ومن هي امريكا؟ وما معنى الروح والفداء؟ كل هذه الاسئلة بقيت من دون اجابات في عقولنا نحن الصبية الذين كنا نفرح للتهليل والصراخ والتصفيق كيفما اتفق. في ايام اخرى، كانت معلماتنا تأخذننا الى مدرجات كبيرة، نجلس على كراسي، ونستمع الى ساعات طويلة من الخطابات البعثية عن “وحدة الامة” و”مواجهة الامبريالية”. اما نحن، فمثل كل الاولاد، “نتشاقى” على بعضنا البعض، على حسب التعبير العامي، لتمضية الوقت الخطابي الممل.
لكن على الرغم من عدم اكتراثي الطفولي لمبادئ “حزب البعث العربي الاشتراكي” ولا لشعاراته، يعلق في مخيلتي صور رجل في مقتبل العمر، طويل، نظرته ثاقبة، شاربه الأسود كثيف، تارة في زي عسكري وقبعة وينظر الى الاعلى على طراز الكوبي الثوري “تشي غيفارا”، وطورا في زي عربي تقليدي، ومرة اخرى في بذلة غربية وقبعة سوفياتية، مرة يحيي، ومرة يدخن السيجار، ومرة يبتسم. هذا الرجل بدا لي رمزا للرجولة والعنفوان، متألقا، واثقا. ولم يمض الكثير من الوقت حتى علمت ان اسمه “صدام حسين”.
في بغداد العام 1979 طالت البحبوحة الاقتصادية غالبية العراقيين. مدرستي الرسمية، “المنصور التأسيسية”، قلبت اثاثها رأسا على عقب واستبدلته بكل ما هو حديث. السيارات في الشوارع، “تويوتا سوبر” وغيرها، تخلب الالباب. بغداد انقلبت ورشة لمشاريع البنية الداخلية. ممرات المشاة تم تجديدها، الشوارع تم تعبيدها، الناس كانت تبدو متفائلة بصورة عامة.
صدام، بطل تأميم شركات النفط العراقية في العام 1972، كان اسمه يثير الهلع في نفوس كثيرين. كان في قمة بطشه الذي كان ينقله احيانا في بث مباشر على التلفزيون الرسمي، كما في تلك الجلسة البعثية الشهيرة في العام 1979 التي يبكي فيها الكثير من الرجال، ومنهم صدام اسفا على تصفيته لبعض اصدقائه. والى جانب تربع صدام على قمة دولة الخوف التي كان يمسكها بتفاصيلها، كانت عائدات النفط العراقي تمول ماكيناته الامنية، وفي ما بعد العسكرية، الرهيبة، حتى من دون ان يؤثر ذلك في موازنة العراق عموما او في معاش العراقيين.
وعندما نجح الايرانيون في قلب نظام الشاه محمد رضا بهلوي ايضا في العام 1979، وبدا ان روح الله الخميني واعوانه من المتطرفين سيتولون الحكم، انقلب المزاج الدولي من حليف لطهران الى عدو لها، وصارت عواصم العالم تبحث عن حليف بديل للشاه. هنا برز صدام حسين.
“علينا ان نمسح وجه ايران في الطين وان نجبرها على اتخاذ موقف”، يقول صدام حسين في اجتماع “مجلس قيادة الثورة” في 16 ايلول (سبتمبر) 1980. ويضيف، “لقد شرحنا لكم وضعنا العسكري فيما خص استعادة مناطق زين القوس وسيف سعد.. (لكننا) لا نريد ان يأخذنا الايرانيون ويأخدون انفسهم الى موقف لا نريده”، اي الى حرب مفتوحة الامد.
في ذلك الاجتماع، يتحدث صدام عن مبادرة الجيش العراقي لاقتحام مواقع كانت تحت السيطرة الايرانية وكان صدام يعتبرها اراض عراقية. يعزو صدام غزو تلك الاراضي الى عدم التزام نظام الخميني باتفاقية الجزائر التي وقعها هو مع ايران في العام 1975 بعد جولة مواجهات قصيرة مع جنود الشاه. ولكنه في نفس الوقت، يقدم تبريرات لتوقيع الاتفاقية وكأنه فعلها على مضض، متحينا الفرصة لنقضها والانقضاض عليها.
يقول صدام: “في 1975، استنفدنا تقريبا كل ذخيرة المدفعية التي كانت بحوزتنا. كان لدينا ثلاث قنابل لسلاح الجو فقط، فارسلنا رئيس الاركان الى الاتحاد السوفياتي لتوقيع اتفاقية، وقالوا له ان لديهم 1200 طلقة مدفعية فقط.. في ذلك الوقت، 1200 طلقة مدفعية كانت تكفي لقتال (الايرانيين) يوما واحدا فقط”. وهنا يتدخل ابن خال صدام وزير الدفاع عدنان خيرالله ليقول: “وكان لدينا بطارية مدفعية واحدة فقط”، فيوافقه الرئيس العراقي.
ويكرر صدام اصراره على استخدام العنف لاخضاع الايرانيين، فيقول في التسجيل نفسه: “علينا ان نضع انوفهم في الطين حتى يتسنى لنا فرض ارادتنا السياسية عليهم، وهذا لا يمكن ان يحدث الا عسكريا”. هذا الاصرار على الحل العسكري وحده قد يلقي الضوء على الكثير من شخصية صدام، فهو لم يعمد للافادة من التغييرات الحاصلة في الديبلوماسية الدولية ضد ايران، ولا حاول اقناع عواصم العالم بوجهة نظره لاستعادة اراض تعتقدها بغداد عراقية، بل اختار محاولة اخضاع الآخر عن طريق العنف كوسيلة وحيدة لفرض امر واقع.

الاستنزاف ثم النصر
في بغداد، لم تؤثر الحرب في حياة العراقيين في الاشهر الاولى لاندلاعها. التلفزيون الرسمي استبدل الاغاني بأناشيد حربية، وقياديو العراق، على رأسهم صدام، لبسوا الزي البعثي العسكري. لكن لم تكد تمر سنة، حتى وصلت الحرب الى معظم المدن العراقية. صفارات الانذار صارت تقرع للايذان بقدوم غارات جوية ايرانية، وامرت وزارة الداخلية السيارات بطلي مصابيحها الامامية لحرمان الطيارين الايرانيين من نور السيارات المتجولة في الليل. وفي وقت لاحق، امرت الحكومة العراقيين بقيادة السيارات التي تنتهي لوحاتها بأرقام مزدوجة في يوم، والارقام المفردة في يوم آخر، كجزء من تقنين استخدام النفط الذي صار مطلوبا للمجهود الحربي. وصار التفلزيون الرسمي غالبا ما يقطع برامجه، ويطل المذيعون بهيئة مشرئبة لاعلان وقوع معركة ضارية ضد “قوات الخميني الدجال” في هذه النقطة الحدودية او تلك.
بيد ان تواصل الحرب، وتزايد عدد القتلى والجرحى والاسرى في صفوف العراقيين، اجبر نظام صدام على فرض الخدمة العسكرية الالزامية، وصارت القيادة تعلن في كل ليلة، اثناء برنامج “الجريدة الرسمية” على التلفزيون العراقي، طلب وزارة الدفاع من الذكور الذين ترواحت مواليدهم بين الاعوام 1941 و1963 الالتحاق بمقرات الجيش لاجراء التدريبات اللازمة والانضمام للألوية المقاتلة في الصفوف الامامية. ومع مشاركة العراقيين في القتال، كثرت مجالس العزاء في بيوتهم، وادى الانفاق العسكري الى تراجع في الاقتصاد وانحسرت البحبوحة. هنا تحول نصر صدام الاولي ضد الايرانيين الى كابوس للعراقيين، يرافقه نكسات عسكرية متواصلة على الجبهة.
هذا المزاج العراقي ينعكس في “تسجيلات صدام” فتسجيلات الايام الاولى للحرب تظهر ان الرئيس الراحل كان يتوقع ان يفرض اجتياحه امرا واقعا يقبله الايرانيون، غصبا عنهم، ربما كما قبل هو توقيع اتفاقية الجزائر في العام 1975 لضعفه العسكري والدولي في مواجهة الشاه. وتظهر التسجيلات كذلك ان صدام لم يكن يرغب في الذهاب الى حرب طويلة الامد مع الايرانيين، ولا هو اعد خطة لمواجهة احتمالية حرب استنزاف. وفي تسجيل بتاريخ 3 اكتوبر 1981، اي بعد ما يقارب السنة على اندلاع الحرب، يحاول صدام إلقاء اللائمة في تراجع قواته على القوى الدولية، ويقول: “الولايات المتحدة ضدنا، والاتحاد السوفياتي ضدنا.. ما هو المتوقع من الاميركيين والسوفيات والانظمة العربية.. مالذي فعلوه (من اجلنا)؟”.
مع بدايات العام 1984، يظهر صدام في موقع من يستجدي السوق السوداء الدولية لشراء الاسلحة. في احد الاشرطة، يتحدث عن لقائه السفير الصيني في بغداد، وطلبه الحصول على دبابات، ويقول صدام لسفير الصين ما يعكس سذاجته في الشؤون الدولية: “الا يحق لنا ان نكون مستقلين؟ الا يحق لنا ان نكبر كما كبرتم انتم؟”
لا شك ان هشاشة علاقات صدام الدولية، حتى مع العواصم المعادية لطهران، وتاليا شح سوق الاسلحة الدولية في وجهه، يضاف الى ذلك تدخله في كل شاردة وواردة عسكرية، على الرغم من انه لم ينتسب الى كلية حربية في حياته، كلها فرضت تقهقرا عراقيا. ويظهر اطباق صدام غير المبرر على القرارات العسكرية في تسجيل بتاريخ 7 تموز (يوليو) 1984، يقول فيه: “على الجبهة ان تعلمني حتى بالمواضيع المؤلمة، حتى استطيع ان اقيم الوضع واعرف ما هي العوامل التي ادت الى الالم واتخذ القرار الصحيح”. ويضيف: “هذا واحد من الاسباب الذي دفعني لتفقد الجبهة والجندي. لم يحدث في تاريخ الحروب في العالم ان نتفقد الجندي وهو يجلس مع قادته بعد كل معركة.. انا لا اعني انني لا اثق في القادة، ولكنني اردت المعلومات من فم الجندي حتى تساعدني على استنتاج اشياء لا يستطيع ان يستنتجها القائد الميداني”.
ولأن صدام كان متدخلا في التفاصيل العسكرية كافة، فهو كان المسؤول الاول والاخير عن قرار بغداد استخدام اسلحة كيماوية، محظورة دوليا، لقلب الموازين في المواجهة مع الايرانيين.
في 6 آذار (مارس) 1987، يدور نقاش بين صدام واعوانه حول استخدام تلك الاسلحة، واختيار الاهداف المناسبة لها، فيقترح احدهم توجيهها الى المدن الايرانية وابادة واحدة منها عن بكرة ابيها، “ولندع الذي يحصل يحصل”، ثم يتدخل سعدون حمادي، الذي يبدو انه كان يعتقد ان العراق اوقف استخدامه لتلك الاسلحة كليا، فيجيبه صدام :”لم نتوقف عن استخدام الاسلحة الكيماوية ضد التشكيلات العسكرية، ولم نقرر ان نتوقف.. هذا امر متواصل”.
بين ذلك التاريخ وتاريخ قبول الخميني قرار مجلس الامن بوقف اطلاق النار، او “تجرع السم” كما جاء في خطابه في 20 آب (اغسطس) 1988، انقلبت الموازين العسكرية مجددا لمصلحة العراقيين، وربما كانت استعادة العراقيين لشبه جزيرة الفاو في 35 ساعة فقط هي المعركة الحاسمة التي دفعت طهران الى تخليها عن هدف الاطاحة بصدام ونظامه وقبولها وقف الحرب، وهو ما عده صدام بمثابة الانتصار.
لقد علمت الحرب مع ايران العراقيين دروسا كثيرا، ابرزها ان العالم لا يحترم الا لغة القوة، فصدام حسين طالب المجتمع الدولي، وفي مناسبات عديدة في السنوات التي كانت قواته تتلقى الضربات الايرانية الموجعة وتجبر على التراجع، ان يجبر ايران على وقف اطلاق النار، لكن العالم – وخصوصا مجلس الامن – بدا عاجزا عن فرض وقف الحرب، بل ان قراره رقم 598، الصادر في يوليو 1987 والقاضي بوقف اطلاق النار بين الجانبين، لم يتم تنفيذه حتى وافق الايرانيون على ذلك بعد حوالي العام، وفقط تحت وطأة تراكم هزائمهم في وجه تواصل الانتصارات العراقية.
“نريد ايصال رسالة.. الى العالم، الذي يحمل مفاتيح (القرار) بين يديه.. رسالة الى ايران، الشعب الايراني، والقيادة الايرانية، ورسالة الى العرب من اجل ايقاظهم مرة اخرى”، يقول صدام في تسجيل يعود تاريخه الى 18 نيسان 1988، على اثر انتصار قواته في الفاو، “ان العالم بأجمعه بدأ ينظر الى مقاييس الجيش العراقي، الدول تشاهد كيف يقاتل العراقيون”.
غزو الكويت
من ابرز الطرفات العراقية التي تلت حرب تحرير الكويت في العام 1991، والتي اوقعت بالجيش العراقي هزيمة فادحة وادت الى تدمير البنية التحتية للبلاد وفرض حصار اقتصادي خانق عليها، هي التلاعب على شعار اطلقه صدام حسين بعد الحرب. يقول الشعار “ما أحلى النصر بعون الله”، فيما قلبه العراقيون، الذين وجدوا انفسهم على ابواب السفارات يستجدون الهجرة الى بلدان المعمورة، الى “ما احلى النصر بهولندا” في اشارة الى الهزيمة العراقية التي ادت الى هجرة واسعة.
لكن ما الذي دفع صدام، الذي تظهر التسجيلات شبه انفراده في صنع القرار العراقي، الى امر قواته باجتياح الكويت في آب (اغسطس) 1990؟
قد يكون ابرز الاسباب هو الثقافة العراقية السائدة عموما والقائلة بأن الكويت جزء من العراق سلخها الانجليز. ويظهر تسجيل انه في تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، قال صدام ان “السياسات العراقية هنا تقول ان علينا التخلص من حاكم الكويت”. ومع ان الكويت هبت لمساندة العراقيين ماليا اثناء حربهم مع الايرانيين، الا ان صدام اعتبر حصوله على هذه الاموال تحصيل حاصل، وبمثابة مكافأة لوقوفه في وجه الخطر الايراني الزاحف الى الخليج.
ثم ان تجربة صدام في حربه مع ايران لم تعطه ثقة عسكرية زائدة بالنفس فحسب، بل اظهرت له ان المجتمع الدولي، الذي لم يهب لنجدته من قبضة الايرانيين، عندما قاربوا احتلال البصرة وقبل ان يعكس العراقيون ميزان القوى ويقلبون تراجعهم تقدما، لا يحرك ساكنا للفصل بين الجيوش المتحاربة حول العالم، فالحرب العراقية – الايرانية لم تكن الوحيدة في زمانها، اذ ترافقت مع اجتياح الاتحاد السوفياتي لافغانستان، وكذلك حرب جزر الفوكلاند بين بريطانيا والارجنتين، والاجتياحات الاسرائيلية المتكررة للبنان، والاحتلال السوري في لبنان كذلك. فاذا كانت كل الدول تستقوي على جيرانها الاضعف منها من دون ان يحرك المجتمع الدولي ساكنا، ما الذي يمنع العراق من تكليل انتصاره على الايرانيين بجائزة ترضية عن طريق ابتلاعه الكويت؟
بيد ان التسجيلات تظهر ان صدام لم يكن يتوقع حجم ردة الفعل الدولية، وخصوصا الاميركية، لاخراج قواته من الكويت. وفي اجتماع في 23 فبراير 1991، قبل ساعات من بدء التحالف المؤلف من 33 دولة بقيادة اميركية اجتياحه البري، بحث صدام مع معاونيه امكانية سحب قواته البرية من الكويت، واقامة “ديمقراطية وطنية” هناك. يقول نائب رئيس “مجلس قيادة الثورة” عزت الدوري مخاطبا صدام، “علينا ان نركز في الايام الاربعة هذه على سحب جنودنا”، فيجيبه صدام: “لقد اعطيت التعليمات، ارسلت رسالة هذا الصباح”. ويضيف الرئيس العراقي: “من الافضل ان تسحب جنودك بدلا من ان يفعل ذلك عدوك بالنيابة عنك”. هنا يبادر احد الحاضرين الى القول: “سيدي، علينا اغتيال امير الكويت (الشيخ جابر الاحمد) عند دخوله الكويت”، ويسود الضحك، وفي نفس الاثناء، تتباحث القيادة العراقية في توقيت ازالة صور صدام، التي انتشرت في انحاء العاصمة الكويتية، قبل الانسحاب العراقي منها.
الا ان الاحداث داهمت صدام وقواته، وفي تسجيل في اليوم التالي، يتحدث الرئيس العراقي ومعاونيه حول بدء العمليات البرية للتحالف، ويعتبر صدام ان سبب التوقيت سياسي يرتبط بمحاولة الرئيس جورج بوش الاب الافلات من “المبادرة السوفياتية” التي كانت تنص على وقف فوري لاطلاق النار.
شريط اجتماع 24 فبراير يظهر انقطاع الاتصال بين الجنود العراقيين، الذي استسلموا لقوات التحالف باعداد كبيرة، والقيادة العراقية التي كانت تستمع الى انباء الاستسلام عبر وسائل الاعلام الاجنبية، وتعتبر ذلك جزءا من الحرب النفسية على العراقيين.
اللافت هنا مرة اخرى ان اعضاء القيادة العراقية حاولوا اخفاء بعض الامور عن صدام، ربما خوفا من ردة فعله. في هذا السياق، يقول حسين كامل، في تسجيل يرجح المحررون تاريخه “ربيع 1991″، مخاطبا صدام: “سيدي، لم نوافيك بالصورة الحقيقية للوضع، لاسباب عديدة، هي الخوف او اعطاء الانطباع (امامك) انه تمت زعزعتنا، ولكن من الآن وصاعدا من المفروض اعطاؤك الصورة كاملة”. ويضيف صهر صدام: “في مرات عديدة، خصوصا عندما كنا في الكويت، كل اعضاء القيادة العليا، والذين كنت ترسل من يراقبهم، وصلت معنوياتهم الى ادنى مستوياتها، ولكننا كنا عندما نأتي لنراك، لم نستطع سيدي ان نكشف لك او نعلمك بحقيقة وضعنا”.
ويرد صدام: “احد المسؤولين قال لي ان الناس واعضاء الحزب يتذمرون من قبولك مبادرة السلام (الروسية)، القاضية بالانسحاب (من الكويت) في 15 شباط (فبراير)… وسألته لما يتذمرون، فاجابني لانك تسببت لهم بضياع فرصة ليقتلوا فيها الاميركيين، ولكنني شرحت له الوضع، وقلت له اني سعيد لسماع ما قاله”.
صواريخ على الرياض
يقول المحللون السياسيون ان حرب الخليج الاولى، او عاصفة الصحراء، كانت اولى الحروب في العالم التي نقلت احداثها شبكات التلفزة بصورة مباشرة. الذين عايشوا تلك الفترة، يتذكرون ان محطات التلفزيون كانت غالبا ما تقطع برامجها المقررة مساء، وتبدأ ببث صور الصواريخ العراقية وهي في طريقها للسقوط على مدن سعودية. ثم كانت المحطات تسرع في ارسال مراسليها الى مكان سقوط الصاروخ، وتحاول فورا معرفة ما اذا كان تقليديا او محملا برؤوس كيماوية او بيولوجية. ويتناقل العراقيون رواية مفادها ان صدام اعطى الامر لشن هجمات كيماوية ضد اهداف لقوات التحالف، الا ان احد القادة، الاميركي نورمان شوارزكوف، والذي كان فريقه يتنصت على الاتصالات العراقية، اتصل بدوره بالضباط العراقيين وحذرهم من ان اي مغامرة كهذه ستكلفهم غاليا، وان اميركا ستقابل استخدام العراق صواريخه الكيماوية باستخدامها رؤوس نووية تكتيكية ضد اهداف عراقية.
لكن يبدو ان “شرائط صدام” تدحض الاعتقاد الشعبي العراقي بأن صدام امر باستخدام السلاح الكيماوي اصلا. ويظهر تسجيل لاجتماع “مجلس قيادة الثورة” في 17 كانون الثاني (يناير) ان صدام اعطى اوامره فعلا لضرب “تل ابيب ومدن اسرائيل الاساسية”. هنا، يسأله طارق عزيز: “بصواريخ تقليدية؟” فيجيب صدام: “نعم، صواريخ تقليدية، يعني اننا سنستخدم الرؤوس الاخرى، كما تعرف، كرد على الرؤوس الحربية التي سيستخدمونها هم ضدنا”. هنا يبدو ان صدام كان رسم معادلة لاستخدامه اسلحة غير تقليدية في المواجهة مع التحالف مفادها انه سيرد برؤوس غير تقليدية فقط ان بادرت اولا اسرائيل، او التحالف، باستهدافه بأسلحة دمار شامل.
ثم يقول عزيز: “سيادتك، لقد هاجمنا اهداف في السعودية”. فيقاطعة صدام بالقول “بعض مصافي النفط السعودية، بعد ذلك نهاجم المدن السعودية.. الرياض، وجدة، يعني اننا سنهاجم كل المدن التي تصلها صواريخنا”. في ذلك الوقت، اشارت التقارير الى ان مجموع الصواريخ التي اطلقتها قوات صدام باتجاه السعودية بلغ عددها 49 صاروخا، اعترضت منظومة باتريوت معظمها، وسقط بعضها الآخر في اماكن متفرقة، ولم تفد التقارير وقتذاك بوقوع قتلى، مع ترجيح مقتل سعوديين اثنين بسبب تلك الهجمات.
من كان صدام
ان اول اهداف كتاب “تسجيلات صدام”، والاعمال الاكاديمية المشابهة المبنية على الكاسيتات والوثائق التي تم جمعها في بغداد، هو محاولة فهم شخصية الرجل الذي شغلت تصرفاته العراق، و منطقة الشرق الاوسط، والعالم لاكثر من ثلاثة عقود. بيد ان هذه العملية معقدة وتحتاج الى مقارنة مصادر متعددة، اولها خطاباته وتصريحاته العلنية، ثم التحقيقات التي اجريت معه ومع معاونيه على اثر اعتقالهم بعد العام 2003، ثم التسجيلات التي تم العثور عليها، فمؤلفات الاشخاص الذي عاصروا صدام او التقوه او عملوا الى جانبه في مواقف مختلفة.
من ابرز المؤلفات في هذا الصدد كتاب بعنوان “دولة الاذاعة” بقلم ابراهيم الزبيدي، وهو من تكريت، المدينة الاقرب الى مسقط رأس صدام في العوجة. وكان الزبيدي، وهو عمل مذيعا ثم مديرا لراديو العراق، من اقرب اصدقاء الطفولة والمراهقة لصدام وابن خاله عدنان خيرالله. كتاب الزبيدي يكشف الكثير عن شخصية صدام المراهق الذي دفعته تجربته الى اعتناق العنف حلا اساسيا في الصراعات. ولم يكن صدام العراقي الوحيد من ابناء جيله، ومن سبقه ومن لحقه، ممن تبنوا العنف، بل كان اكثر من برعوا في استخدامه لمصلحتهم وفي فرض اراداتهم، السياسية والاجتماعية، على غيرهم عن طريق اللجوء اليه.
وعلى الرغم من صداقته الوطيدة بصدام، اضطر الزبيدي الى الخروج من العراق والعيش في المنفى، فهو ادرك انه بعد صعوده وتحوله الى اهم شخصية عراقية، اراد صدام ان يقطع مع ماضيه، واعتقد الزبيدي انه قد يتحول الى كبش محرقة محاولة صدام نسيان الماضي.
العمل الثاني الذي القى الضوء على شخصية صدام هو مجموعة المقابلات التي قام بها عميل الـ”اف بي اي” الاميركي من اصل لبناني جورج بيرو، وصدر موجز عنها في كتاب، اما الباقي، فتعمل الحكومة الاميركية على رفع السرية عنه تباعا. يقول بيرو ان عملية فوزه بثقة صدام استغرقت وقتا، ولكنه تمكن في النهاية من اقناعه بأن عليه الحديث من اجل التاريخ. الباحثون الاميركيون مقتنعون بهوس صدام بصورته بعد مئات او الاف السنوات من رحيله، وهذا تجلى في قيامه بنقش احرف اسمه “ص ح” على الآثار العراقية القديمة كما في نشاطات عمرانية اخرى شيدها لاعتقاده انها ستساهم في تخليد ذكراه كزعيم للعراقيين.
لكن صدام في مقابلات بيرو هو غير صدام الذي تظهره التسجيلات يتحدث في السبعينات في ايام الشباب عندما كان في مراحل صعوده. وقتذاك، لم يسع صدام لكتابة التاريخ بل كان يعمل على وصوله الى قمة السلطة، وذلك عبر اظهاره شراسة ودموية، بث جزءا منها على التلفزيون الرسمي. اما في مقابلات بيرو، كان صدام، في عمر الشيخوخة، قد اعتاد على وجوده في قمة السلطة فصار يسعى الى تخليد اسمه في التاريخ. كذلك، كان صدام في السبعينات واحدا من بين كثر يتصارعون لاعتلاء هرم السلطة، وكان اكثر اتصالا بالواقع، ولكنه بعد عقود على تربعه على عرش العراق، خسر اتصاله مع العالم الخارجي، كما يبدو جليا في التسجيلات التي تظهر مرارا ان اعوانه حاولوا اخفاء امور مختلفة عليه، اما خوفا منه، او خوفا من تدخله في شؤون عسكرية ليست من اختصاصه.
التسجيلات تؤكد كذلك الرأي القائل بأن صدام كان يتدخل في تفاصيل الامور، وهو ما يؤكد مسؤوليته لا عن النكسات العسكرية في المواجهة مع ايران فحسب، بل مسؤوليته عن استخدام الاسلحة الكيماوية ضد الكرد العراقيين، كما ضد الايرانيين. كذلك، تظهر التسجيلات ان صدام هو من كان يحدد لائحة الاهداف التي استهدفتها صواريخه، وانه هو الذي امر بالتنكيل بأي مقاومة كويتية ضد قواته اثناء احتلالها الكويت، وانه هو صاحب فكرة الاجتياح اصلا، ثم الانسحاب الذي لم يسنح له الوقت الكافي ليتم فيما بعد.
العمل الثالث الذي قد يساهم في القاء المزيد من الضوء على صدام والاسباب الكامنة خلف تصرفاته هو كتاب محاميه اثناء اعتقاله خليل الدليمي. ومع ان الدليمي منحاز لصدام، فان روايته تصور الرئيس العراقي في موقف غير المدرك تماما للتغييرات الحاصلة على اثر الاجتياح الاميركي، فصدام كان يعتقد ان الاميركيين يحاكموه كوسيلة لابتزازه ليخضع لهم ويواجه ايران بالنيابة عنهم. وكان صدام منقطعا عن الواقع لدرجة انه كان يحاول رسم خطة اقتحام سجنه الاميركي للهروب منه واستعادة موقعه كزعيم للعراقيين.
المهم في اعمال بيرو والدليمي انها تغطي فترة لا تسجيلات فيها، ويمكن مقارنة العملين لاستخلاص الرواية الافضل، اذ من الطبيعي ان يخال صدام ان حديثه الى بيرو هو بمثابة رسائل الى الاميركيين، فيما يظن انه من خلال الدليمي كان يوجه رسائل للعراقيين، الذين كان يعتقد ان معظمهم كانوا من مؤيديه ومحبيه. وبالمقارنة بين العملين، بالاضافة الى اعمال مثل كتاب الزبيدي، والاشرطة والوثائق، وكتاب “تسجيلات صدام” وغيره، يمكن للباحثين البدء برسم صورة اولية للافكار التي كانت تخالج بال صدام، والتي دفعته للقيام في ما قام به من حروب، واجتياحات، وقمع للتمردات العراقية الداخلية.
بعد كل هذه الاعمال، وبعد ما يقارب العقد على سقوط نظامه، صار ممكنا الخروج ببعض الاستنتاجات حول شخصية صدام حسين. وعلى ما يقول محررو كتاب “شرائط صدام” في خاتمتهم، يبدو ان خطاب الرجل السياسي في العلن كان نفسه في جلساته الخاصة. كان صدام مقتنعا انه من القادة العظام في التاريخ، من امثال نبوخذنصر وصلاح الدين. وكان صدام يعتقد انه نجح في صناعة قوة اقليمية عراقية، يمكنها الحاق الهزيمة بقوى عظمى كالولايات المتحدة الاميركية، على الرغم من انه في جلساته المقفلة، كان واقعيا لدرجة انه كان يسعى لاستعادة العلاقات مع واشنطن بأي ثمن بعد حرب الخليج وخروجه من الكويت.
كذلك، يبدو ان صدام كان يتمتع بذكاء فطري، ولكن الظروف لم تسمح له بتطوير ذلك الذكاء للافادة منه ثقافيا او فكريا او عسكريا، فكانت قراراته في الغالب مبنية على فهم ساذج في شؤون العسكر والاقتصاد والحكم والعلاقات الدولية. ولم يساعد اضطرار صدام ابتعاده عن الناس بسبب قلقه الامني في التخفيف من قصوره في فهم شؤون العالم، بل ساهمت سطوته في فرض قرارات خاطئة على مساعدين كانوا أكفأ منه (على سبيل المثال عدنان خيرالله وزير دفاعه وخريج الكلية الحربية العراقية).
منذ اليوم الذي وقفت اهتف فيه واقراني الصبية “بالروح بالدم نفديك يا صدام” وحتى يومنا هذا، وبعد اطلاعي على الكمية الكبيرة من الكتابات عن صدام ومن المواد الاولية التي وصلتنا منه وعنه، مازال سؤال من هو صدام يحتاج الى اجابات كثيرة في بالي، كما في بال كثيرين، ومازالت الاعمال الاكاديمية، التي تترافق مع الافراج المتوالي عن الوثائق في واشنطن، في اولها، وكما مع من سبقه من ديكتاتوريات، ستستمر الكتب والمقالات عن صدام حسين وحكمه الى وقت طويل بعد رحيله، وربما هذا ما اراده الرجل اساسا، وربما هذا ما دفعه الى الطلب من اجهزته الاستخباراتية تسجيل بعض حواراته، التي دفعتنا بدورها الى كتابة هذا التعليق المفصل.

السبت، 14 يوليو 2012

هل تعود كوندوليزا رايس إلى المسرح الدولي؟


| واشنطن - من حسين عبد الحسين |
جريدة الراي

استفاقت واشنطن على خبر امكانية ترشيح ميت رومني، المرشح الجمهوري للرئاسة في الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل، وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس الى منصب نائب الرئيس. وعلى الفور، ادى الخبر الى ردة فعل استباقية في صفوف ماكينة الرئيس الطامح لولاية ثانية باراك اوباما والديموقراطيين عموما، فرايس للبعض هي بمثابة السلاح السري الذي يمتلكه الجمهوريون في المواجهة المقبلة بين الحزبين، ولكن الديموقراطيين يعتقدون ان ترشيحها يسهل من مهمتهم في الهجوم على رومني.
وكانت رايس شاركت في اللقاء المغلق الذي عقده كبار قادة الحزب الجمهوري في ولاية يوتاه، قبل اسبوعين، وادلت بخطاب انتقدت فيه سياسة اوباما الخارجية، وتحدثت عن ضرورة عودة بلادها الى زعامتها العالمية. وكان لوقع خطاب رايس تأثيرا ايجابيا في نفوس الحاضرين الذين قاطعوها بالوقوف والتصفيق مرارا.
ورايس تتمتع بعناصر قوة متعددة تجعلها مرشحة قوية لمنصب نائب الرئيس، فهي مثل اوباما من اصول افريقية، ما يكسر احتكار الرئيس لاصوات الاقلية من السود والبالغة نسبتهم 10 في المئة من السكان.
وكان رومني تعرض لصفير الاستهجان مرارا، الاربعاء، اثناء القائه خطابا في تنظيم للحقوق المدنية للاميركيين من اصل افريقي، وهو ما يظهر بأن المرشح الجمهوري يواجه صعوبة فائقة في استمالة هذه الفئة الناخبة التي تؤيد اوباما بأكثريتها الساحقة.
ثم ان رايس امرأة، وهو ما يضع حدا للاتهامات التي يكيلها الديموقراطيون للجمهوريين والقائلة ان الحزب الجمهوري، الذي يعارض الاجهاض ويطالب بسياسات تمنع دعم الدولة لحبوب منع الحمل او تمويل الفحوصات الروتينية للنساء، هو حزب معاد للنساء.
لكن نقطة الضعف الوحيدة لدى رايس هي اختلافها مع الجمهوريين في موضوع الاجهاض وتأييدها لحرية المرأة باجرائه، وهو ما حمل كبير مستشاري رومني الى نفي خبر امكانية ترشيح رايس الى منصب نائب الرئيس. وكتب المستشار في ايميل الى الصحافيين: «اعتقد ان عليها ان تغير موقفها في موضوع الاجهاض، ولا اعتقد ان ذلك مستحيل، ولكنه غير متوقع... ثم ان ميت لا يحب المجازفة ابدا في هذه المواضيع».
لكن رغم تباين موقفها مع حزبها في موضوع خيارات المرأة في حملها، الا ان رايس حازت على اكبر تأييد بين المؤثرين في صناعة رأي الجمهوريين، من امثال المعلقين المعروفين رش ليمبو ومات دردج، اضافة الى تبني آخر مرشحة الى المنصب نفسه، سارة بايلين والتي ما زالت تتمتع بشعبية كبيرة في صفوف اليمين الاميركي، لفكرة ترشيح رايس الى جانب رومني.
الا ان بعض الديموقراطيين اعتبروا ان لرايس نقاط ضعف في السياسة ايضا.
مارغي اوميرو، وهي من القيمين على استطلاعات الرأي الدورية التي يجيرها الديموقراطيون، اعتبرت ان ماكينة رومني تناور، وان «لا شيء يمكن ان يبرهن ان رومني ينوي العودة الى سياسات (الرئيس السابق جورج) بوش الفاشلة اكثر من ترشيحه احد ابرز شخصيات ادارة بوش الى منصب نائب الرئيس».
ولفتت اوميرو انه يوم خروجهما من الحكم، وقفت شعبية بوش على 22 في المئة، ونائبه ديك تشيني 13 في المئة، وهي ادنى نسب لرئيس ونائبه عند خروجهما من الادارة، ما يعني ان عودة شخص يرتبط بهما مثل رايس، لن يكون لها التأثير الايجابي الذي يعتقده البعض.
ورغم سمعتها كمثقفة من الطراز الرفيع، الا ان اسم رايس غالبا ما ارتبط بحرب العراق، ومعتقل غوانتانامو، وسياسات اخرى، وهي في حال ترشيحها، ستعيد الى اذهان الاميركيين ما حاولوا نسيانه على مدى السنوات الاربعة الماضية، وهو ما يرجح بقاء رومني بعيدا عنها، فرومني، لا يكره المجازفة فحسب، بل هو طلب من مضيفه نائب الرئيس ديك تشيني، الذي أقام عشاء لجمع التبرعات في منزله في ولاية فرمونت الاربعاء، ان يمنع دخول اي كاميرات اعلامية اذ يبدو ان رومني وحملته يعتقدان ان اي صورة تجمعه مع تشيني من شأنها ان تؤثر سلبا على حظوظه الانتخابية.

انقلاب الصورة


حسين عبد الحسين
المجلة

تجري الامور في سوريا بشكل متسارع، الا ان الانطباع العام هو التدهور السريع لمقدرة بشار الاسد وقواته على السيطرة على الوضع، فمقاتلي “الجيش السوري الحر” اصبحوا يتجولون بأسلحتهم داخل احياء دمشق، التي وصلت إليها رائحة البارود مع تقارير عن سماع اهاليها لدوي مدافع الهاون دوريا كل ليلة.

وبحسب الخبير في “معهد دراسة الحرب” جوزف هاليداي، يدل استخدام المدافع من قبل قوات الاسد على تلاشي مقدرتها على دخول منطقة معينة واخضاعها، مما يدفع بهذه القوات الى التراجع ومحاصرتها، ودكها بالمدفعية كعقاب جماعي لسكانها ولاجبار مقاتلي الجيش الحر على الهروب.
هذا التكتيك استخدمه جيش الاسد في احياء سكنية داخل مدن عديدة، اشهرها بابا عمرو في حمص. وهذا يعني ان مجرد سماع اصوات المدفعية داخل دمشق يعني ان قبضة الاسد تتراخى وان قواته تخسر سيطرتها في احياء العاصمة، الواحد تلو الآخر.

الا ان الدليل الاكبر الذي تلقفه خبراء واشنطن للدلالة على ان قوى الاسد تخور يتمثل برصد الاستخبارات الاميركية لقيام هذه القوات بتحريك عدد من اسلحتها الكيماوية. وكتب الباحث في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى” جيفري وايت ان تحريك هذه الاسلحة يدل على احتمالين، اولها ان الاسد يخشى من تمكن قوات الجيش الحر من السيطرة عليها بسبب الضعف المتزايد في قواته وعدم قدرتها على حماية هذه الاسلحة. اما الاحتمال الثاني، حسب وايت، فهو نية قيام الاسد باستخدامها في قصف الاحياء السكنية المنتفضة ضد حكمه.

الاحتمالان، يقول الخبير الاميركي، يدلان على الضعف المتزايد لقوات الاسد، وهو ما ادى الى تزايد القلق داخل اروقة القرار الاميركية التي تراقب اسلحة الاسد الكيماوية عن كثب.
ويعتقد وايت ان كل هذه الخطوات والقلق المتزايد يدفع المجتمع الدولي، وواشنطن خصوصا، بالتفكير بحسم الوضع بالتدخل عسكريا، اذ يبدو ان كل المبادرات الديبلوماسية قد منيت بفشل ذريع، وان الحل الوحيد صار يتمثل باجبار الاسد عسكريا على الخروج من الحكم.

ومما كتبه وايت: “اذا كان نظام الاسد مستعدا للمجازفة بهذا الشكل بتحريك الاسلحة الكيماوية، قد يشي ذلك بأن دمشق قلقة جديا من احتمال تدخل خارجي”.

وفي وسط قلق دمشق ومخاوف واشنطن، نقلت صحيفة “وال ستريت جورنال” عن مسؤول كبير في ادرة الرئيس باراك اوباما قوله إن “لا حل ديبلوماسيا في سوريا”، وهذا يمثل تطورا نوعيا في الموقف الاميركي المتمسك حتى الآن، على الاقل علنا، بالمبادرة الديبلوماسية للحل التي يقودها المبعوث الخاص كوفي عنان. كما يشير موقف المسؤول الاميركي الى بدء تفكير واشنطن جديا في التدخل عسكريا لحسم الوضع واجبار بشار الاسد على التنحي.

الجمعة، 13 يوليو 2012

قرع طبول الحرب بشكل مفاجئ في واشنطن



| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
جريدة الراي

حركة غير طبيعية تسود اروقة القرار الاميركية وتنذر باستعداد واشنطن لاحتمال اندلاع مواجهة عسكرية في مكان ما من الشرق الاوسط، انطلاقاً من انباء عن نية اميركية لتحريك حاملة طائرات اضافية من ميناء نورفولك العسكري في ولاية فيرجينيا باتجاه الخليج لتصبح الثالثة من نوعها والثانية التي تتوجه الى المنطقة في اقل من ثلاثة اشهر، بعد حاملة الطائرات ابراهام لينكولن في ابريل الماضي.
ومع نهاية يونيو، كانت اميركا عززت عدد قطع اسطولها الخامس المرابط في البحرين بارسالها اربع سفن كاسحة للالغام متخصصة بابقاء الطرق المائية مفتوحة، ربما تحسبا لمحاولة ايران اغلاق مضيق هرمز الذي هدد مسؤولوها باقفاله امام الملاحة الدولية مرارا.
«الراي» حاولت الاستفسار عن سبب التعزيزات العسكرية الاميركية المتواصلة في الخليج، فجاءت الاجابة هي نفسها التي يكررها المسؤولون علنا: «اجراءات روتينية».
لكن تواجد 3 حاملات طائرات، تحمل كل واحدة منها اكثر من 60 مقاتلة، اضافة الى عشرات السفن المرافقة من مدمرات وفرقاطات وكاسحات الغام، تنذر بأن الامر هذه المرة قد يتعدى الروتين.
هل هو استعداد اميركي لحرب ضد ايران؟
تشير المعطيات في العاصمة الاميركية الى ان المفاوضات بين مجموعة دول خمس زائد واحد وطهران حول ملف الاخيرة النووي، والتي تستمر على مستوى خبراء، متعثرة في الوقت الحالي، وان انفراط عقدها تماما يعني ان مواجهة ما تلوح في الافق.
لكن هل يعني ذلك بالضرورة مواجهة عسكرية، خصوصا في ضوء كثرة التسريبات من ادارة الرئيس باراك اوباما الى الاعلام الاميركي والقائلة ان واشنطن نجحت في إلحاق الهزيمة ديبلوماسيا ومن ناحية فرض عقوبات على طهران، وانه في ظل هذا النجاح، لا حاجة لاي عمل عسكري؟
في خضم الحديث عن مواجهة مع ايران، ورد من اروقة وزارة الخارجية انباء مفادها ان عددا كبيرا جدا من ارفع المسؤولين الاميركيين سيصلون الى تل ابيب الاسبوع المقبل للتباحث في شؤون المنطقة. ومع ان جلسة المحادثات هذه هي جزء من لقاء روتيني لما يعرف بـ «المشاورات الاستراتيجية» بين البلدين التي تنعقد مرة كل ستة اشهر، الا ان اللافت في الموضوع هو قيام ارفع المسؤولين بالمشاركة في هذه الجولة. واضافة الى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي تصل اسرائيل الاثنين المقبل، من المتوقع ان يقود مستشار الامن القومي توم دونيلون وفدا من كبار الضباط والديبلوماسيين، وان يصل الوفد العاصمة الاسرائيلية الاسبوع المقبل ايضا. ويتوقع الاميركيون ان يستقبلهم نظير دونيلون الاسرائيلي الجنرال يعقوب اميدرور.
الخطوط الاميركية العسكرية الساخنة مفتوحة ايضا مع انقرة. يقول عدد من المسؤولين الاميركيين انهم ونظراءهم الأتراك يعتقدون ان الروس اشرفوا في شكل مباشر على قيام الدفاعات الجوية السورية، الروسية الصنع، باسقاط مقاتلة «اف 4» التركية فوق البحر المتوسط في 21 يونيو الماضي. هذا يعني، حسب بعض المسؤولين الاميركيين، ان «الروس متورطون مباشرة في احداث سورية اكثر مما يعتقد كثيرون».
وهذا ما يملي على الاميركيين، يضيف المسؤولون، بالاستعداد لمواجهة هذا التورط الروسي.
ويشير المسؤولون الاميركيون كذلك الى انه منذ سقوط المقاتلة التركية بالنيران السورية، افادت التقارير الواردة من انقرة بارسال القوات التركية مقاتلات «اف - 16» اكثر من ثماني مرات حتى الآن للتصدي لمروحيات سورية كانت تحلق على مقربة من المجال الجوي التركي. وينقل المسؤولون الاميركيون انه «لدى الطيارين الأتراك تعليمات بفتح النار فورا واسقاط اي مروحية او مقاتلة سورية قد تتعدى المجال الجوي التركي».
وينقل المسؤولون الاميركيون ايضا ان «انقرة عززت وحداتها العسكرية على الحدود مع كل من سورية وايران».
ختاما، سألت «الراي» حول «الاماكن الساخنة» الاخرى في منطقة الشرق الاوسط، مثل الحدود اللبنانية - الاسرائيلية، واحتمال انفجار الوضع فيها في حال حدوث مواجهة في الخليج العربي، وهنا تضاربت الروايات. بعض المسؤولين الاميركيين، ربما نقلا عن نظرائهم الاسرائيليين، يعتقدون ان «الوضع بين حزب الله واسرائيل متوتر اصلا، وهناك مخاوف دائمة من اندلاع مواجهة».
على ان مسؤولين آخرين يستبعدون نشوب اي مواجهات يتورط فيها لبنانيون، ويقول هؤلاء انه «عندما تتحول المواجهة مباشرة بين السعودية وايران مثلا، او بيننا وبين ايران، تتراجع امكانية الحروب الاصغر التي تجري بالواسطة، وتبقى الدول الاصغر مثل لبنان خارج سياق اي مواجهة كبرى».
فهل تقترب منطقة الشرق الاوسط من الحرب؟ ام ان واشنطن، التائهة في سنتها الانتخابية وهمومها الاقتصادية، تقوم بعرض قوة فقط لتظهر دعمها لحلفائها في انقرة والرياض والعواصم الشرق اوسطية الاخرى؟ الاجابات في الايام والاسابيع المقبلة.

الخميس، 12 يوليو 2012

ديمقراطيات الموز


حسين عبد الحسين

ان الانتخابات البرلمانية والرئاسية في العالم العربي، على اهميتها، لم تؤد حتى الآن الى قيام ديمقراطيات مقبولة، بل اتخذت مؤسسات الحكومات العربية – الناشئة بسبب الاجتياحات الاجنبية او الثورات الداخلية – اشكالا هجينة، تزيد من بشاعتها محاولة الحكام الجدد تلبيسها لبوسا قانونية.

فالمحكمة الدستورية العليا في مصر، كما المحكمة الفيدرالية في العراق، والمجلس العدلي في لبنان، برزت كأدوات حديثة لمحاولة الحكام تجاوز الديمقراطية عبر السلطة القضائية، التي لا تقل بؤسا عن مثيلاتها التنفيذية والتشريعية، والتي لم تتأخر عنهم في غوصها بمتاهات العداوات الشخصية والثارات المذهبية المسيطرة على المشهد السياسي العربي.

في مصر، حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية “قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية”، ما يعني بطلان عضوية ثلث الاعضاء المنتخبين بالنظام الفردي. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن لماذا حل البرلمان بالكامل؟ ولماذا عدم اجراء انتخابات بديلة لثلث الاعضاء فقط؟ وكيف يسود قرار محكمة قضائية سيادة الشعب المتمثلة بالانتخاب؟

اما في العراق، فيظهر انعدام الثقافة الديمقراطية في تلويح السياسيين، في كل تصريح تقريبا، باللجوء الى المحكمة الفيدرالية حتى ان النائب هيثم الجبوري، عضو “ائتلاف دولة القانون” برئاسة رئيس الحكومة نوري المالكي، هدد باللجوء الى هذه المحكمة للطعن بشرعية استجواب للحكومة قدمه نواب لانه “يحمل بصمة ذات طابع سياسي ولا يتضمن وثائق وأدلة تدين المالكي”، على حد تعبيره. والسؤال هنا، هل يجوز ان يكون عضو برلمان بسيطا الى هذه الدرجة في فهمه لعلاقات السلطات الثلاث مع بعضها البعض، وفي رؤيته للأسباب الموجبة حصرا لطلب استجواب الحكومة، والتي يحصرها بوثائق وادلة مدينة؟

اما في لبنان، يقرر “حزب الله” الحاكم عدم احالة قضية قيام ضابطين في الجيش بقتل شيخين في شمال البلاد الى “المجلس العدلي”، وفي نفس الوقت، يطلق القضاء سراح المتهمين.

هذه المؤسسات القضائية العربية المضحكة تجعل من الديمقراطيات الناتجة من حرب العراق او من الثورات العربية “ديمقراطيات موز”، على غرار لقب “جمهوريات الموز” الذي تم اطلاقه في غابر الزمان على دول اميركا اللاتينية التي كانت تعيش في ظل ديكتاتوريات عسكرية ولكنها تسمي نفسها، زورا، جمهوريات.

يمكن ان تستوحي الديمقراطيات العربية عملها، فيما تستوحيه، من عمل نظيراتها الغربية عموما، وخصوصا الاميركية، حيث المحكمة الفيدرالية العليا ناشطة في اصدار قرارات ما تلبث ان تتحول الى ما يشبه التشريعات. ولكن المحكمة الاميركية لا تبطل الكونغرس ولا توقف “جلسة استماع” (وهي بمثابة الاستجواب البرلماني)، بل ان المحكمة الاميركية تنشغل في تفسير القوانين، وتفسير نية المشرعين انفسهم، وتأكيد ما يتناسب وما لا يتناسب مع روحية الدستور الاميركي.

حتى ان رئيس المحكمة جون روبرتس، والمعروف عنه انه محافظ ومعارض لقانون الرعاية الصحية الذي اقره الكونغرس قبل ثلاثة اعوام، رجح كفة بقاء القانون لانه اعتبر ان للحكومة سلطة جباية ضرائب، ما يجعلها قادرة على فرض غرامات ضد المواطنين ممن لا يقبلون الضمان الصحي الالزامي.
هذا القاضي فسر القانون تقنيا مع ان تفسيره ادى الى هزيمة الفريق المحافظ الذي يشاطره الرأي سياسيا. وهكذا يكون عمل السلطة القضائية في تنظيم الديمقراطية وترجيح صراعات المؤسستين التنفيذية والتشريعية، والصراعات السياسية المرافقة لها.

ولكن ان تقحم محكمة مصر نفسها في خلع برلمان بكامله منتخب شعبيا للتو بحجة تجاوز هذا القانون او ذاك، فهو غريب عن عمل المؤسسات الديمقراطية وعلاقاتها ببعضها البعض. على ان اكبر مواساة قد تكون، في الحالة المصرية، ان المحكمة العليا نفسها لم تر تجاوزا للدستور ولا للديمقراطية لرئيس انتخب نفسه على مدى ثلاثة عقود، ثم تقفز هذه المحكمة نفسها الى الواجهة لتبطل ارادة شعب كامل.

الأربعاء، 11 يوليو 2012

أوباما لعلاقة طيبة مع «إخوان» مصر رغم معارضة أصدقاء إسرائيل

| واشنطن - حسين عبدالحسين |

اثارت الانباء عن توجيه الرئيس باراك اوباما الدعوة الى نظيره المصري محمد مرسي لزيارة واشنطن استياء شريحة واسعة من السياسيين الاميركيين، خصوصا من الجمهوريين ومن اصدقاء اسرائيل، في وقت التزم البيت الابيض الصمت، ولم يؤكد او ينفي دعوته التي نقلتها وكالة «رويترز» عن مصادر في مصر.
وكانت الوكالة نقلت عن مستشار الرئيس المصري ياسر علي، ان مرسي تسلم دعوة لزيارة اوباما اثناء زيارته الى نيويورك للمشاركة في المؤتمر السنوي للجمعية العامة للامم المتحدة في سبتمبر المقبل. 
ويوجز مدير «معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى» روبرت ساتلوف، في رسالة قبل ايام، تحفظات اليمين الاميركي ضد لقاء مرسي - اوباما بالقول ان «على الرئيس الاميركي ان يتمهل قبل دعوة رئيس مصري سبق ان قام بتمجيد حماس، ووعد باعادة النظر بمعاهدة السلام بين مصر واسرائيل، وعمل على تأسيس اللجنة الشعبية لمكافحة المشروع الصهيوني وعلى صياغة برنامج الجماعة الانتخابي المناهض للمرأة والأقباط قبل خمس سنوات فقط».
ومما زاد في حدة هجوم الجمهوريين ضد مرسي، حديثه عن نيته الطلب من الولايات المتحدة الافراج عن الشيخ المصري عمر عبدالرحمن، المسجون مدى الحياة بتهمة التحريض على تفجيرات مبنى التجارة العالمي العام 1993.
الا ان ادارة الرئيس باراك اوباما مصمّمة على فتح صفحة جديدة مع «الاخوان المسلمين» المصريين، رغم المعارضة الاميركية الداخلية. ويقول مقربون من مجلس الامن القومي، ان رأي اوباما هو ان «الانفتاح على الاخوان وعلى كل من هو منتخب ديموقراطيا هو الطريقة الصحيحة في العمل السياسي الدولي». ويضيف هؤلاء ان اوباما يعتقد ان «مقاطعة واشنطن للتنظيمات الاسلامية المنتخبة في دول الربيع العربي من شأنه ان يدفع هذه التنظيمات الى مواقف متطرفة»، وان «يزيد من نقمة البعض ضد اميركا».
على ضوء ما تقدم، يردد مسؤولو الادارة الاميركية نيتهم الانفتاح على جميع التيارات في مصر وعقد تحالفات معها وتسهيل مهمتها اثناء الحكم. ويقول المسؤولون ان واشنطن، التي استضافت سرا وعلنا عددا لا بأس به من كبار مسؤولي «الاخوان» منذ ان اطاحت الثورة بنظام الرئيس حسني مبارك العام الماضي، تنوي مد يد العون الى الحكومات العربية الجديدة، وخصوصا عن طريق اقناع المنظمات الدولية مثل «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» بتقديم قروض بفوائد منخفضة والمساعدة عن طريق برامج من اجل ترشيد الحكم في دول الربيع العربي.
الا ان معارضي سياسة انفتاح اوباما على التيارات الاسلامية الصاعدة في العالم العربي يشيرون الى امرين، الاول هو حتمية تخلي الادارة عن بعض حلفائها، ويشيرون في ذلك الى تخلي واشنطن عن مبارك، حليفها العربي الاول في منطقة الشرق الاوسط.
كذلك، يعتقد المشكّكون بالسياسة الرئاسية الاميركية ان من شأن الانفتاح على «الاخوان» في مصر اثارة حفيظة حلفاء حاليين على رأسهم المجلس العسكري.
وكان اصدقاء اسرائيل في العاصمة الاميركية اول المعارضين للثورة التي اطاحت بمبارك، وعبروا مرارا عن خوفهم من قيام حكم ذات طابع اسلامي في مصر، مما دفعهم على التمسك بالمجلس العسكري.
لكن المخاوف اليمينية الاميركية قد تسبق احيانا مخاوف حليفتها اسرائيل. في هذا السياق، برزت زيارة وزير الدفاع ايهود باراك الى الولايات المتحدة وعقده لقاءات مع مسؤولين اميركيين على هامش مشاركته في «احتفال الافكار» الذي يقيمه «مركز ابحاث آسبن» سنويا في ولاية كولورادو. وكان باراك، الذي تجمعه صداقة وطيدة برئيس المجلس العسكري المصري حسين طنطاوي، زار مصر أخيرا والتقى كبار المسؤولين العسكريين فيها.
ونقل المسؤولون الاميركيون ممن التقوا وزير الدفاع الاسرائيلي محاولته التخفيف من المخاوف التي تنتاب الجمهوريين وعدداً من الاسرائيليين بخصوص نوايا الاخوان في حال سيطرتهم بالكامل على الحكم في مصر.
ومما قاله باراك اثناء زيارته، حسب بعض من التقوه، ان «ما يحصل في الدول العربية شبيه بانهيار السلطنة العثمانية في العقد الثاني من القرن الماضي»، وان «على اسرائيل والولايات المتحدة الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ اثناء هذه الفترة التشكيلية، ودعم قيام حكومات ديموقراطية، والا البديل، فهو الفوضى والمزيد من التطرف».
نصائح باراك جاءت متوافقة مع سياسات اوباما تجاه مصر خصوصا، فالادارة كانت ارسلت نائب وزيرة الخارجية وليام بيرنز الى مصر حيث التقى مرسي ووزير الخارجية المصري محمد كمال عمر، وعمل على تحديد جدول اعمال لقاءات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي يتوقع ان تصل القاهرة يوم الاحد المقبل لتصبح بذلك ارفع مسؤول اميركي يلتقي مرسي رسميا بعد انتخابه.
في هذه الاثناء، يكرر المسؤولون الاميركيون ان سياسة اوباما تقضي بانشاء صداقات طيبة مع كل الحكومات المنتخبة حول العالم. اما في المنطقة العربية، يقول المسؤولون، فلا تمييز بين «السنة والشيعة... والدليل هو ان واشنطن تقف مع (رئيس حكومة العراق نوري المالكي) الشيعي رغم اعتراضات كثيرين من حلفائها، وتقف الى جانب اخوان مصر ومرسي السني كذلك على رغم الاعتراضات».
قد لا تبدو معالم السياسة الخارجية لواشنطن تجاه الشرق الاوسط جلية، وقد تنقلب رأسا على عقب في حال فشل اوباما في الفوز بولاية ثانية وحلول منافسه الجمهوري ميت رومني رئيسا في مكانه، ولكن ما هو واضح هو ان الولايات المتحدة انتهت من عهد الاستثناءات في نسج تحالفاتها وصداقاتها الخارجية، وان معظم صانعي السياسة الاميركيين باتوا يعتقدون ان افضل سبيل للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة لا يأتي عن طريق التعاون الاستخباراتي مع انظمة قمعية، بل عن طريق مصادقة الشعوب، التي يصادف انها تطيح ببعض حكامها كما في حال المنطقة العربية.
كذلك لن تقنع سياسة اوباما من اعتادوا تأييد بعض الانظمة القمعية التي تعلن انها تدافع عن مصالح واشنطن. هؤلاء كانوا من اول المعارضين للثورات العربية اصلا وعملوا على اشاعة الخوف من قدوم الاسلاميين الى الحكم، او على حد تعبير عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية فلوريدا الن وست الذي قال «ان الربيع العربي ليس اكثر من كابوس راديكالي اسلامي».

الجمعة، 6 يوليو 2012

طلبات طهران في مفاوضات موسكو: سورية والبحرين و4 مفاعلات نووية

| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
جريدة الراي

أظهرت الوثيقة التي قدمها الوفد الايراني المفاوض في موسكو، وسربتها الادارة الاميركية الى بعض الاعلاميين، انعدام واقعية طهران الى حد «السذاجة» في موضوع العلاقات الدولية، على حد قول مسؤولين اميركيين، كما بدا جليا في مطالبة الايرانيين بالدخول مع مجموعة «5 + 1» في مفاوضات حول الاوضاع في البحرين وسورية، وسماح العالم لايران ببناء 4 مفاعلات نووية جديدة وقيامها بتصدير اليورانيوم المخصب بنسب اكثر من 20 في المئة. في المقابل تساهم ايران في «مكافحة القرصنة والاتجار بالمخدرات» حول العالم.

الوثيقة، التي جاءت في 48 صفحة، تنقسم الى 3 محاور عريضة. في الاول، تفسير ايراني مطول لـ «اتفاقية حظر انتشار اسلحة الدمار الشامل» وبعض اجزاء القانون الدولي. ويهدف التفسير الى اثبات حق ايران «السيادي» بتخصيب اليورانيوم، ومطالبة طهران المجتمع الدولي الاعتراف بذلك.

وتحت عنوان «اطار لحوار شامل وهادف الى تعاون طويل الامد»، تقول الوثيقة ان «ايران تشدد على معارضتها انتاج واستخدام الاسلحة النووية حسب فتوى المرشد الاعلى للثورة علي خامنئي ضد هذه الاسلحة». في المقابل، تطالب الوثيقة الايرانية مجموعة «5 + 1» بالاعتراف بحق ايران بموجب اتفاقية حظر انتشار اسلحة الدمار الشامل، خصوصا لجهة حق ايران بتخصيب اليورانيوم».

ونقل المعلق في صحيفة «واشنطن بوست» دايفيد اغناتيوس عن مسؤولين اميركيين رفيعي المستوى على اطلاع على مجريات جولة المحادثات الثالثة بين ايران ومجموعة «5 + 1»، والتي انعقدت في موسكو الشهر الماضي، ان المسؤولين الايرانيين عرضوا شفهيا امكانية قبول بلادهم تصدير كمية من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة لابقاء مخزونهم اقل من الـ 800 كيلوغرام المطلوبة لصناعة قنبلة ذرية واحدة.

لكن رغم قبولهم تقليص مخزونهم من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة، تظهر الوثيقة رفضا ايرانيا لاغلاق مفاعل فوردو المحصن قرب مدينة قم.

وتعزو الوثيقة سبب التمسك الايراني بهذا المفاعل الى انه «في مواجهة التهديدات الدائمة، نحتاج الى منشأة احتياطية لضمان استمرار نشاطاتنا التخصيبية».

المحور الثاني جاء تحت عنوان «اجراءات من اجل تعزيز الشفافية»، وورد فيه اقتراح الوثيقة تعاونا ايرانيا مع «وكالة الطاقة الذرية» لجهة التقليل من مخاوف الاخيرة من البعد العسكري للبرنامج النووي الايراني.

وكان مركز ابحاث اميركي يرأسه الخبير النووي دايفيد اولبرايت كشف قبل اسابيع ان صورا التقطتها الاقمار الاصطناعية تظهر قيام ايران بهدم ما يبدو انه منشآت نووية داخل قاعدة بارسين العسكرية. وتضاربت الاراء حول النوايا الايرانية في هدم هذه المنشآت، الا ان مصادر في الادارة الاميركية فسرت الخطوة على انها «مناورة ايرانية» كانت تنوي طهران من خلالها اخفاء اثار نشاطاتها النووية العسكرية، ثم فتح القاعدة امام خبراء «وكالة الطاقة الذرية»، وهو ما صادف مع دعوة طهران لرئيس الوكالة امانو للتوصل الى اتفاق معه في هذا الشأن. بيد ان «امانو رفض توقيع اتفاق تبييض صفحة الايرانيين حسب شروط طهران»، تقول المصادر الاميركية، وطالب «بفتح الايرانيين لمواقع اكثر واجابتهم عن عدد من الاسئلة لطالما اعتبروها تتعلق بشؤون سيادية» في الماضي القريب.

في مقابل «الشفافية» حول البعد العسكري للبرنامج النووي، حسب الاقتراح الوارد في الوثيقة الايرانية، تطلب طهران من الولايات المتحدة والدول الاوربية رفع العقوبات الاقتصادية عليها المفروضة من خارج مجلس الامن الدولي.

وورد في الوثيقة ايضا «تنبيه» الى ان ايران ستحتاج الى كمية اكبر من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة في المستقبل لتلبية حاجات «على الاقل 4 مفاعلات بحثية نووية» تنوي انشاءها، وانها تنوي كذلك «تصدير اليورانيوم المخصب الى دول اخرى».

المحور الثالث جاء بعنوان «مواضيع اقليمية، خصوصا سورية والبحرين»، تقترح فيه طهران «المساهمة في التوصل الى حلول». ولم يرد في الوثيقة تفاصيل حول رؤية ايران للحل، ولا تشرح الوثيقة الاسباب التي تخول ايران، على الاقل حسب مطالعاتها القانونية الدولية حول حقوقها السيادية، التدخل في شؤون الدولتين العربيتين المذكورتين، الا ان طهران تحاول اعطاء الانطباع ان الامور قد تتحلحل في حال تم عقد طاولة مستديرة للحوار تشارك فيها الاطراف المحلية والاقليمية في كل من البلدين للتوصل الى حلول.

«ربما هذه اشارة ان المفاوضات النووية متجهة فعلا نحو حفرة»، يقول اغناتيوس في افتتاحيته.

بدوره، يقول مسؤول اميركي رفيع المستوى لـ «الراي»، تعليقا على الوثيقة الايرانية: «يريد الايرانيون سورية والبحرين و4 مفاعلات نووية جديدة، وبقاء منشأة فوردو، في مقابل تعليقنا وحلفاؤنا الاوروبيون للعقوبات الاقتصادية». ويختم: «اين تعلم الايرانيون اصول العلاقات الدولية؟ ما قدموه في موسكو يبدو لنا ضربا من السذاجة».

الخميس، 5 يوليو 2012

البحث عن إدانة

حسين عبد الحسين
المجلة

تعبير “سموكنغ غن” في الانجليزية لا مواز له بالعربية. حرفيا، تعني العبارة “مسدس يخرج الدخان من فوهته” للدلالة على انه تم اطلاق النار منه للتو. استخداما، غالبا ما يقول الاميركيون انهم يبحثون عن “سموكنغ غن” للاشارة الى انهم يحاولون العثور على اداة الجريمة، او الادانة اللازمة التي يبحثون عنها بحق شخص يعتقدون انه مرتكب أمر ما.

منذ اندلاع الثورة المصرية، دأب الاميركيون المطالبون حكومتهم بإعلان “جماعة الاخوان المسلمين” تنظيما إرهابيا وتاليا قطع العلاقات معها. لكن ادارة الرئيس باراك اوباما، وكثير من الاميركيين، لم يجدوا الاسباب اللازمة لبدء العلاقة مع الاخوان بالقطيعة من دون سبب او مبرر. هكذا، وجد اهل المقاطعة انفسهم في سعي دائم للعثور على ما من شأنه ان يظهر الاخوان على انهم مجموعة ارهابية متطرفة، تختبئ خلف قناع من الاعتدال فقط للوصول الى السلطة، حيث يتوقع هؤلاء ان تتراجع الجماعة عن اعتدالها المعلن لمصلحة اجندة اكثر تطرفا.

حتى الماضي القريب، لم يكن بين ايدي المعادين الاميركيين للاخوان اي دليل على وجوب ابتعاد واشنطن عنهم، الى ان قام الرئيس محمد مرسي، اثناء ادلائه بخطاب القسم الشعبي في ميدان التحرير، بالمطالبة بالافراج عن الشيخ المصري عمر عبد الرحمن، المسجون في الولايات المتحدة مدى الحياة بتهمة التحريض على تفجير “مبنى التجارة العالمي” في العام 1993.

اول المعارضين للافراج عن عبدالرحمن كان حاكم مدينة نيويورك مايكل بلومبرغ، الذي وصف الحكم بحقه بـ”العدالة ضد رجل حاول قتل الكثيرين”.

وفي نيويورك ايضا، طالبت صحيفة “نيويورك بوست” اليمينية “اوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بالاظهار بوضوح أنهما لن يقايضا مع ارهابيين، ولا مع المعتذرين لهم في مناصب عليا”. واتهمت الصحيفة في افتتاحيتها الشيخ السجين بأن فتواه هي التي “استند إليها اسامة بن لادن كتبرير ديني لهجمات 11 سبتمبر”. وكتبت: “هو الشيخ الضرير نفسه الذي قامت حركته الارهابية، الجماعة الاسلامية، بانتخاب اعضاء الى برلمان مصر الجديد الذي يسيطر عليه الاسلاميون”.

على ان الانفعال الاميركي الاخير، المرتبط ظاهريا بالـ”سموكنغ غن” المتمثل بمطالبة مرسي الافراج عن عبدالرحمن، يعكس قلقا اعمق لدى اليمين الاميركي من وصول الاخوان الى السلطة في مصر، الآن او مستقبلا.

وفي هذا السياق كتب مدير “معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى” روبرت ساتلوف انه “سيكون خطأ فادحا ان نركز على العقبات التي وضعها الجيش في طريق الإسلاميين من دون إبداء الإعجاب بالقدرة الملحوظة للطرف الأخير على ملء اي فراغ سياسي يُسمح لهم بملئه – اولا، بنزولهم إلى ميدان التحرير لوراثة ثورة اطلق شرارتها العلمانيون، وثانيا بالتغلب على كافة المنافسين بفوزهم بثلثي مقاعد الانتخابات البرلمانية، وثالثا بفوزهم بمنصب الرئيس”.

واضاف انه “خلال كافة المراحل في السبعة عشر شهرا الماضية، انتصر الإسلاميون عندما واجهوا تحديا سياسيا” وان “المراهنة ضدهم الآن – لمجرد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد نفذ باحكام عملية ارتداد للاحتفاظ بالسلطة – يرجح ان يكون امرا يفتقر الى الحكمة”.

كل هذه الاسباب، تدفع عددا من الاميركيين الى محاولة البحث عن ادانة بحق الاخوان لتقديمها الى الحكومة الاميركية وحثها على تفادي تطبيع العلاقة معهم. اما الاسباب التي يعتقد اليمين الاميركي انها توجب البرودة في علاقة بلادهم مع الجماعة المصرية، فهي حسبما يوجزها ساتلوف: تمجيد لـ”حماس” ووعد بـ”اعادة النظر” بمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وتأسيس “اللجنة الشعبية لمكافحة المشروع الصهيوني”، وصياغة برنامج “الجماعة” الانتخابي المناهض للمرأة والأقباط “قبل خمس سنوات فقط”.

ويختم ساتلوف: “ليس هناك معنى لاحتضان مرسي قبل ذلك، ناهيك عن السلبيات السياسية لتحديد موعد زيارة مبكرة إلى واشنطن”.

حتى الآن، لم تظهر ادارة اوباما انها تصغي الى الدعوات المطالبة بالابتعاد عن الاخوان، على الرغم من مخاوف امثال ساتلوف وتلقف آخرين مطالبة مرسي الافراج عن عبدالرحمن واعتبارها اثباتا على تعاطفه مع الارهاب. ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين رفيعين في الادارة، من دون ان تسميهم، قولهم ان احتمال قبول اوباما الطلب المصري هي “صفر”.

وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون وفي رد مقتضب على سؤال من شبكة “سي إن إن” قالت إن الشيخ عمر عبدالرحمن حصل على الإجراءات القانونية الصحيحة في محاكمته وإن الأدلة واضحة جدا ومقنعة”.
كلينتون أضافت: “لدينا كل الأسباب لدعم هذه العملية والحكم الذى صدر بحقه”.

في نفس الاثناء، وعدا هذا التصريح، لم يرد اوباما، الذي اتصل بمرسي مهنئا بانتخابه، ولا إدارته، على تصريحات الرئيس المصري بشأن مفتي الجماعة الإسلامية المسجون، ويبدو ان الادارة تنتهج اسلوبا رسميا في التعامل مع الموضوع، اي انها في حال استلمت طلب استرداد من الحكومة المصرية بحق الشيخ، وهو مصري الجنسية، فان الولايات المتحدة سترفض هذا الطلب، تماما كما ترفض واشنطن الطلبات المتكررة لحليفتها اسرائيل بالافراج عن جوناثان بولارد، الجاسوس الاسرائيلي المسجون مدى الحياة ايضا بتهمة سرقته ادلة عسكرية اميركية وتزويدها الى تل ابيب.

الاثنين، 2 يوليو 2012

مصر والثورة التي لم تكن

حسين عبد الحسين

“نفسي ياريّس أشبع وأنام، وتغور يا ريّس وتغور المدام، وابنك يا ريّس يغور كمان، وتغور يا ريّس كل الحيتان”.. هي كلمات منسوبة للشاعر المصري احمد فؤاد نجم مخاطبا الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وطالبا منه، ومن زوجته وابنه، ومن المجموعة الحاكمة، الرحيل.
مبارك رحل، ولكن “الحيتان” التي تحدث عنها نجم يبدو أنها باقية، على الاقل حسب اعتقاد مجلة تايم الاميركية، التي خصصت عددها المقبل حول مصر وثورتها تحت عنوان “الثورة التي لم تكن”.
تقول كاتبة المقال جاي نيوتن – سمول ان الانتفاضة الشعبية في مصر “تبدو اكثر على انها انقلاب منها ثورة، فالحرس الامبراطوري قرر ان على الامبراطور مبارك الرحيل حتى يحافظ (الحرس) على صلاحياته، بما في ذلك سيطرته على قرابة ثلث الاقتصاد المصري”.
وتعتقد نيوتن – سمول ان المجس العسكري المؤلف من 19 عضوا برئاسة محمد حسين طنطاوي، لم يكن ينوي القيام بما قام به حتى الآن، بل ان معظم افعاله ارتجالية ووليدة ساعتها، وتنقل عن الملحق العسكري في واشنطن الجنرال محمد الكشكي قوله: “نحن لم نسع الى ذلك، كل شيء فرض نفسه علينا منذ الثورة، ولم يكن لدينا اي خيار آخر”.
الا ان الكاتبة تشكك بموقف العسكر من الثورة، وتستطرد بالقول ان ما يحرك المجلس العسكري فعليا هو الخوف من أمرين: الاول من “جماعة الاخوان المسلمين” وخصوصا منذ قيام نفر منهم باغتيال الرئيس انور السادات في العام 1981، والثاني خسارة الامتيازات الاقتصادية التي يتمتعون بها.
عن خوف الجيش من الاخوان، تعتقد نيوتن – سمول انه ادى الى عداء عسكري للجماعة وحرص على مراقبة من يفوز بالترقيات داخل الجيش بطريقة مشددة.
اما عن المصالح الاقتصادية، تعزو الكاتبة النجاحات المالية للعسكر في مصر الى زمن اللواء عبدالحليم ابوغزالة، الذي عمل وزيرا للدفاع بين 1981 و1989 عندما عزله مبارك بسبب صعود نجمه كما بسبب طموحاته السياسية، ومنها الرئاسية.
وتقول نيوتن – سمول ان ابوغزالة سعى الى تحقيق “الاكتفاء الذاتي” للجيش المصري عن طريق انشاء مصانع، يديرها ضباط سابقون، “ولاحقا اولادهم”، ويعمل فيها جنود، وتقوم بانتاج المأكل والمشرب والملبس. وفي وقت لاحق، تمت اضافة المنتجعات السياحية والمجعات السكنية للعائلات العسكرية.
وبعدها تحولت معظم هذه المصالح الى شراكات عسكرية مع القطاع الخاص، وصار نشاطها الاقتصادي يقدر بثلث الناتج المحلي المصري البالغ 220 مليار دولار.
لكل هذا، يتمسك المجلس العسكري بحكم مصر منذ استقالة مبارك في 11 شباط (فبراير) من العام الماضي، وهو ما دفعه الى تأجيل اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، التي فاز بها مرشح الاخوان محمد مرسي، ليتسنى للمجلس اصدار عدد من المراسيم التي حددت من صلاحيات الرئاسة. 
“لن يكون لمرسي سيطرة فعلية على الموازنة، ولا دور حاسم في السياسة الخارجية، او الدفاعية او شؤون الامن القومي… (حتى) انه لن يحمل اللقب الرمزي القائد الأعلى للقوات المسلحة”، تكتب نيوتن – سمول.
هذا الترتيب سيسمح للمجلس العسكري ممارسة الحكم، وفي نفس الاثناء دفع الاخوان الى الواجهة لتلقي الملامة الشعبية، وهذا تكرار – حسب كاتبة “تايم” – للسيناريو التركي.
ولكن في تركيا، تضيف نيوتن – سمول، “نجح اردوغان في تفادي ان يصبح كبش المحرقة للجونتا التركية، وتفوق في مناورته على العسكر ليصبح الشخصية السياسية الاولى في البلاد”.
هنا يفوت الكاتبة، ومجلة “تايم”، ان السبب الرئيس لنجاح اردوغان شعبيا في تركيا، وتاليا استعادته لليد العليا من الجيش، لم يكن بسبب “رشاقة” رئيس الحكومة التركي سياسيا، بل بسبب الصعود الهائل للاقتصاد التركي، وهو امر لا يبدو ان تكراره سهل في مصر حتى مع وصول الاخوان الى سدة الحكم وتسليم “الأمر” للرئيس الجديد الذي أصبح منذ يوم أمس، بعد أدائه اليمين، رسميا “المسؤول” عن مصر واقتصادها وأمنها ومشاكلها التي لا حد لها.