الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

سوريا الأسد


حسين عبد الحسين

كان المؤرخ الراحل كمال الصليبي يروي في مجالسه الخاصة، أن الفتيات السوريات كن يأتين الى لبنان من منطقتي جبال العلويين ووادي النصارى المجاور، في الشمال الغربي لسوريا، للعمل في خدمة المنازل. ويقول الصليبي، ان ظروف معيشة السوريات كانت صعبة، فربات المنازل اللبنانيات اللواتي كن يأويهن غالبا ما كن يحلقن لهن شعورهن بالموسى، لتفادي اثارة غرائز رب المنزل. وكانت "العلية"، وهي مساحة لتخزين كل ما هو لا حاجة له، وغالبا ما تأوي زواحف وقوارض البيت، هي الغرفة المخصصة للخادمات السوريات اللواتي كن يعملن بأجور زهيدة جدا.

قد لا يتذكر الكثير من اللبنانيين اليوم ذلك الزمن يوم كانت العلويات والنصرانيات، ينزحن الى لبنان للعمل في خدمة المنازل في ظروف مذلة. لكن المشهد لم يفارق فؤاد عجمي، استاذ العلوم السياسية المتقاعد في جامعة جونز هوبكنز، حتى بعد السنين الطويلة لافتراقه عن بلده الام، لبنان، وهجرته الى الولايات المتحدة، وكأنه لا ينقص هذا الرجل صاحب المعرفة الموسوعية والأسلوب الكتابي الشيق والفريد، الا تضمين كتبه روايات من الذاكرة الشعبية، فيتحول كتابه عن الثورة السورية، الصادر مؤخرا، الى نص جميل وغني يدفع القارئ الى التمني بأن يطول الكتاب أكثر فأكثر.

في ذاكرة عجمي صورتان عن سوريا من سني صباه، فهو كلبناني من جنوب لبنان وعلى المذهب الشيعي، كانت والدته ممن يتبركون بزيارة ضريح “السيدة زينب”، اخت الحسين بن علي بن أبي طالب، في ضواحي دمشق، فكانت غالبا ما تزور وتصطحبه معها. وفي سنين شبابه، التحق عجمي بكثيرين ممن ذهبوا الى سوريا لرؤية الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي وقف على شرفة دمشقية يتأمل جمهوريته العربية المتحدة التي تشكلت في العام 1958، وانفرط عقدها بعد ثلاث سنوات.

يختار عجمي ان يروي قصة “سوريا الأسد” لا سوريا عموما، وهو اختيار موفق، فحافظ الأسد حكم سوريا رئيسا لثلاثة عقود، وشارك في صناعة تاريخها لمدة عقد او اكثر قبل توليه السلطة. فالأسد الاب، على الرغم من عضويته في “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي كان يبشر بالوحدة العربية، كان من الناشطين لإنهاء وحدة سوريا مع مصر عبدالناصر. وفي الستينات، كان الأسد حاضرا الى جانب زميله البعثي حاكم سوريا صلاح جديد، وتبوأ الاسد مناصب قيادية كوزير دفاع ورئيس حكومة. وبعد وفاته في العام 2000، ورث ابن الاسد، بشار، حكم البلاد، وهو المنصب الذي مازال يشغله حتى اليوم.

اذن، على مدى نصف قرن، منذ انفراط الوحدة في العام 1961 وحتى اندلاع الثورة السورية في العام 2011، لعب حافظ ثم بشار الاسد دورا اساسيا في رسم احداث سوريا. لكن قبل الاحاطة بالظروف التي رافقت حكم الأسدين، وتقديم مقارنة بين شخصيتي الاب والابن وتأثير كل منها على مجريات الاحداث، يقدم عجمي لمحة عن المرحلة التي ادت الى صناعة سوريا ككيان سياسي في شكله الراهن.

ينقل عجمي عن المؤرخ الكبير متي موسى، انه مع انحسار نفوذ الانتداب الفرنسي في سوريا، قدم عدد من وجهاء الدولة العلوية عريضة الى الفرنسيين في العام 1936 تطالب باريس بالابقاء على استقلال الدولة وعدم السماح بضمها للجمهورية السورية وعاصمتها دمشق. وكان من الموقعين على العريضة، المدعو سليمان، والد حافظ الاسد.

من دون الخوض في تفاصيل “الثورة السورية الكبرى” التي اندلعت في العام 1920 ضد حكم الفرنسيين، يتوصل عجمي الى استنتاج مفاده ان الأقليات عموما كانت معادية لانخراط دويلاتها التي انشأها الفرنسيون في الجمهورية السورية، فيما كانت الأغلبية السنية من اهل المدن من اصحاب الوجاهة والاراضي الزراعية الشاسعة، والمصالح التجارية في عموم الدولة هي التي تحرض ضد مشروع الفرنسيين في الابقاء على الدويلات، وتسعى ـ غالبا بدعم بريطاني منافس ـ الى انشاء دولة عربية موحدة تضم الى سوريا المؤلفة من ولايتي دمشق وحلب، دولة العلويين في الشمال، والدروز في الجنوب، ولبنان المجاور ذات الأغلبية المسيحية.

لا شك انه لم يكن متاحا لعجمي الخوض في تفاصيل موضوع الدويلات وتوحدها، ولاحقا الوحدة مع مصر، في كتاب يهدف الى القاء الضوء على الثورة السورية الحالية، لكن يمكن للمهتمين مطالعة كتاب “الثورة السورية الكبرى” الذي اصدره في العام 2005 مايكل بروفنس، وهو اكاديمي متميز عمل في “الجامعة الاميركية في بيروت”. في كتابه، يقول بروفنس ان الاقليات كالعلويين والدروز آثروا البقاء خارج دولة دمشق، وان ثورة الدروز في الجنوب اندلعت لاسباب مختلفة عن الوحدة.

يعتقد بروفنس ان الدروز ثاروا اولا ضد محاولة الفرنسيين اخضاعهم لحكم مباشر مقارنة بما يشبه الحكم الذاتي الذي كان العثمانيون يمنحونهم اياه. ثانيا، لا بد ان قائد الثورة، سلطان باشا الاطرش الذي تلقى علوما في اسطنبول، كان متأثرا بحرب الاستقلال التي كان يخوضها في ذلك الوقت كمال مصطفى (اتاتورك) ضد الحلفاء من اجل استقلال تركيا. ثالثا، كانت تربط الاطرش وكبار مزارعي الدروز علاقات تجارية وطيدة مع وجهاء وتجار دمشق، فحوران، اي منطقة الدروز الجنوبية، كانت بمثابة مخزن القمح لاستهلاك دمشق والمناطق المجاورة، وهو ما كان يعني ان التقسيم قد يحرم الدروز من سوق كبير لانتاجهم القمحي.

لا يخوض عجمي في الاسباب التي يقدمها بروفنس، ولكنه يبني على مقتضاها، فالغالبية السنية المدينية في سوريا كانت في موقع سياسي واقتصادي واجتماعي افضل من الاقليات عموما، باستثناء اللبنانية المسيحية والتركية في سنجق انطاكية واليهودية في فلسطين. ومع اقتراب العالم من الحرب العالمية الثانية وانحسار نفوذ فرنسا وبريطانيا في المنطقة، وبما ان بعض هذه الدويلات، مثل العلوية، لم تتوافر لديها الامكانيات لادارة شؤونها بعد غياب الفرنسيين، صارت وحدة دولتي العلويين والدروز ممكنة مع سوريا دمشق وحلب.

ولكن حتى بعدما انخرطت الاقليات السورية في الجمهورية بشكلها الحالي، لم يتحول السوريون الى مجتمع متجانس بل استمر الانقسام بين الغالبية السنية الحاكمة وابناء الاقليات المحرومة، وتحولت الاحزاب الراديكالية القومية والجيش الى ادوات يمتطيها ابناء الاقليات ليقارعوا سيطرة الغالبية السنية المدينية على مقدرات الحكم والدولة.

لم تتأخر نتائج هذه المواجهة، فسوريا نالت استقلالها التام من الفرنسيين في العام 1946، وما هي الا ثلاث سنوات حتى قام سامي الحناوي باول انقلاب عسكري، وكرت السبحة من بعده وساد عدم الاستقرار السياسي لاكثر من عقدين من الزمن حتى نجح الاسد، الذي صادق الضباط، في خلع جديد، الذي خلع بزته العسكرية وصادق السياسيين، كما يقول عجمي.

“عندما وصلت أسرة الاسد الى السلطة، كانت سوريا دولة زراعية يبلغ عدد سكانها ست ملايين”، يكتب عجمي. اما مع اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) 2011، فقد “كانت البلاد قد اصبحت مدينية ووصل عدد سكانها الى 22 مليونا”. وفي العقود الأربعة الفاصلة بين التاريخين، عمل حافظ الأسد على تغيير وجه سوريا بشكل جذري حتى اختلفت كثيرا عما كانت عليه في الماضي.

ويكتب عجمي ان النظام، وقاعدته الاجتماعية، ونواته العلوية يمكن القول انهم عملوا على “ترييف” دمشق، وهذه صورة يتفق فيها مع السوسيولوجي العراقي فالح عبدالجبار، الذي يرسم صورة مشابهة لـ “ترييف” المدن العراقية، وخصوصا بغداد، ابان وصول صدام حسين وبعثه ونواته التكريتية الى الحكم في العاصمة العراقية. ويضيف عجمي: “ماديا، كان الريف يفيض الى المدينة.. وكان هناك تغيير ثقافي: وصول الفلاحين الى السلطة”.

هكذا، افرغ حافظ الأسد الدولة السورية من معناها. انشأ دولة خوف وأجهزة مخابراتية متنافسة تأمر بأوامره وحده، واستورد ثقافة عبادة الفرد من الدول الشيوعية واتكأ خصوصا، يقول عجمي، الى موضوع الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، فالأسد، من دون هذا الصراع، ليس إلا “طاغية علويا”.

يد ان تغييرات الأسد طالت حتى طائفته العلوية. ينقل عجمي عن كاتب علوي من آل وطفة قوله ان آل الأسد “عسكروا” العلويين وحولوهم الى حرس امبراطوري، وهو ما أدى الى تدهور الحالة العلمية بين ابناء هذه الطائفة، وتم افراغ المدارس من شباب الطائفة الذين تم تطويعهم في الوحدات العسكرية الخاصة والمخلصة للأسد. ومع ان العلويين هبطوا من جبالهم الى المدن، الا انهم انشأوا احياءهم غالبا في ضواحيها، ولم يختلطوا مع المدينيين من الطوائف الاخرى: “الاحياء البائسة على مداخل المدن، والتي تأوي جنودا محبطين وفقراء، هي شاهد على وضع معظم هؤلاء”.

وينقل كذلك عجمي عن وطفة قوله ان “العلويين عموما لم يراكموا ثروات، بل نشأت طبقة اقطاعية جديدة بين العلويين”، وان “الفيلات الكبيرة” لابناء الاقطاع العلوي “تزين قرى اجدادهم، ولكن الفقر المنتشر على نطاق عريض بين العلويين لم يتم تحسينه”.

وبكثير من الاناقة اللغوية، يلخص عجمي كيف صمم الأسد الأب النظام، وكيف أساء ابنه استخدامه، ويقول: “حافظ الأسد، الرجل الذي صنع هذا النظام، ادرك ان بقاءه وبقاء سيادة اقليته كان يرتبطان بوحدة طائفته العلوية وبإبقاء السنة منقسمين ومسالمين”. اما بشار، “فلم يكن لامعا” كأبيه اذ نجح في “معادة ـ وايقاظ ـ ما يكفي من الاستياء السني لتهديد سطانه”. الا أن عجمي يؤكد انه “لم يثر كل السنة ضد بشار، فموجة عارمة كان من شأنها سحق ديكتاتوريته”. ويتابع القول انه من الواضح ان “انقسامات طبقية وجغرافية” سادت الثائرين السنة في وجه حكم بشار الأسد، مما افقد الثورة الكثير من فاعليتها.

يعتقد عجمي ان بدء افول حكم الأسد بدأ قبل الثورة السورية بسنوات، وتحديدا في العام 2005 عندما اجبرت “انتفاضة الاستقلال” في بيروت، الأسد الابن على سحب جيشه من لبنان، بعد ما يقارب ثلاثين عاما من الاحتلال السوري الذي بدأ في عهد الأسد الاب. ويقول ان دمشق حصلت على تفويض عالمي في العام 1990، عندما انخرطت في صفوف التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت من جيش صدام حسين، “اللبنانيون مساكين، لديهم شجر الارز، فيما الكويت لديها نفط”، يقول عجمي مضيفا: “تمت استعادة سيادة الكويت، اما اللبنانيين فتم تركهم لقدرهم الرهيب في السجن السوري الكبير”.

يتابع عجمي ان تحالفا معارضا للاحتلال السوري للبنان، بدأ يتألف في اعقاب حرب العراق والمتغيرات الدولية، وجاءت الشرارة الأولى للمواجهة بين هؤلاء والأسد الابن ابان نهاية ولاية الرئيس اللبناني اميل لحود في سبتمبر (أيلول) 2004، عندما اعلن الحريري انه يفضل كسر يده على توقيع مرسوم التمديد للحود لنصف ولاية اضافية، فاستدعى بشار الأسد، الحريري وانهال عليه بالتهديد، وفرض عليه قبوله وكتلته البرلمانية للتمديد. “لم تكن هذه طريقة ابيه في التعامل، ولكن سوريا كانت اصبحت دولة بشار”، يكتب عجمي، الذي يعتبر ان حافظ كان “سيد الاستراتيجية في دمشق.. وكان الصبر ابرز صفاته، ونجح بشكل منهجي في اخراج او تهميش اللاعبين الخارجيين الآخرين في لبنان، وترك للبنانيين سيادة وطنية فارغة”.

في شباط (فبراير) 2005، اغتيل الحريري في بيروت. يعتقد عجمي ان السوريين ضالعون بالجريمة، وان قتلة الحريري “لم يعلموا ان في ضحيتهم هذه الكمية من الدماء” التي سالت بغزارة، وان “شبح الحريري برهن انه اقوى من الرجل نفسه”.
لكن المتغيرات الدولية مرة اخرى، وخصوصا تراجع الصقور داخل ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، فرضت نفسها على اللبنانيين، ووفرت للأسد مخرجا من عزلته الدولية ومأزقه، حتى اضطر وريث الحريري، ابنه سعد، الى “التضحية بذكرى والده على مذبح الواقعية” بزيارته الأسد في دمشق. “الفرنسيون والأميركيون والخليجيون لم يقدروا على موازنة قوة محور ايران ـ سوريا ـ حزب الله” في لبنان، يقول عجمي.

ثم اندلع “الربيع العربي” في تونس، وامتد الى دول أخرى، لكن بشار الأسد أدلى بمقابلة لصحيفة “وال ستريت جورنال” قال فيها كلمته إن “سوريا ليست ليبيا” واعتبر فيها ان خياراته في مواجهة اسرائيل، والتي تتطابق مع خيارات شعبه، تحميه وتؤمن بقاء نظامه. ويقول عجمي انه بسبب الاحداث اللبنانية في السنوات السابقة، صار بشار يعتقد بامكانية استناده الى الصراع السني ـ الشيعي في المنطقة كقوة كافية لتأمين استمراره في الحكم. لكن ذلك لم يحصل، وانتفض السوريون للمطالبة بإنهاء ديكتاتورية آل الأسد.

بعد ذلك، ينقلب عجمي في كتابه من مؤرخ إلى محلل سياسي، ويقدم احداث الثورة السورية بترتيب تاريخي، طبعا من دون ان ينسى تقديم رؤيته واقتباسه من معنيين او اجراءه لقاءات معهم، كما فعل في زيارة الى تركيا التقى خلالها لاجئين سوريين، وناشطين، وزعماء في المعارضة تصدرهم رياض الشقفة، مراقب “الاخوان المسلمين” في سوريا.
ربيع سوريا، يقول عجمي، بدأ في درعا الجنوبية عندما كتب اولاد تأثروا برحيل مبارك شعارات تنادي برحيل الاسد، فجاءت ردة فعل عدد من مسؤولي النظام مع أهل الأولاد يشوبها الكثير من العنف، والعجرفة والوقاحة.

ويعرج عجمي على تقرير اصدرته “مجموعة الأزمات الدولية” وجاء فيه: “للمفارقة، النظام جاء من نفس المحافظات التي تنتفض اليوم ضده”. ويضيف انه “كما هي العادة مع الانظمة التي يفاجأها التاريخ وهي غير مستعدة”، كانت ردة فعل نظام بشار الأسد في مواجهة الثورة السورية هي عبارة عن مزيج من “الدموية والوعود بالاصلاح”.

ويكتب عن المواقف الدولية بالقول ان روسيا والصين، مارستا حق النقض الفيتو في مجلس الامن الدولي ضد القرارت المعنية بسوريا، لأن “في بال الصينيين كان موضوع التيبيت” التي يحتلونها، فيما كان “الروس يفكرون بالشيشان”. وبفطنة يقدم عجمي حكمته لتلخيص الموضوع، ويقول “ان الاستبداد لا يتجزأ، والمظاهرات الشعبية تشكل تهديدا لكل ما تمثله هاتان الاوتوقراطيتان”.

ثم يوسع عجمي هجومه ليشمل موقف دول غير دائمة العضوية في المجلس، والتي ساندت الأسد، مثل الهند والبرازيل وجنوب افريقيا، ويكتب: “اذا كانت هذه القوى ترغب في دور اكبر حول العالم، واذا كانت ترغب في عضوية دائمة في المجلس، فإن تنازلها الاخلاقي يشكل دليلا على انها ما زالت غير مستعدة لتحمل عبء الحفاظ على نظام عالمي لائق”.

ويضيف ان “عار الهند ـ اكبر ديمقراطية في العالم ـ يحسب عليها، فالهند تفكر دائما في كشمير وفي مبدأ وجوب عدم التدخل الدولي في اي سيادة وطنية مهما كان ثمن”. اما البرازيل، “فيقال انها صدقت ادعاءات النظام السوري حول حمايته للمسيحيين، فيما جاءت جنوب افريقيا الى الموضوع مع ادائها المخزي في الموضوع الليبي”.

ويمضي عجمي في ذمه للمعارضين للتدخل الدولي في سوريا للاطاحة بالأسد، ويقول انه لمفارقة القدر، “ابدى جلال الطالباني، الذي وصل الى الرئاسة بالقوة الاميركية التي اطاحت بنظام صدام، معارضته للتدخل الغربي المسلح في الشؤون الداخلية لأي دولة في المنطقة”.
أما الأسد، فيعتقد عجمي انه التصق بقواعد اللعبة التي يمارسها: “شراء الوقت على امل أن قوى المعارضة ستتعب من اندفاعها ضد نظام يجلس في خندق ومستعد لاستخدام كل الوسائل المطلوبة للبقاء”.

ويقول عجمي ان تصوير الصراع السوري على انه “صراع الغالبية السنية، لاستعادة الحكم من سيادة الاقلية”، هو ضرب من ضروب التبسيط، ولكنه يضيف: “هذه الصورة هي التي طغت، وحددت شكل هذا الصراع”.

عجمي يرفض حصر المواجهة السورية في شقها الطائفي، او الثقافي كمواجهة ريفية في وجه المدينية، ويشير الى البعد الطبقي الاقتصادي كذلك بالقول: “كان هناك (لدى العلويين) في سوريا (قبل الاسد) مظالم تتعدى الحياة السياسية، وكان لديهم مظالم تتعلق بغياب العدالة بسبب اماكن ميلادهم ومعيشتهم التي خلقت ـ على حسب التعبير العربي ـ اولاد جارية واولاد ست”.

ويكتب: “حياة سياسية مليئة بالتآمر والعنف، ونوع من التوق الى العدالة، جاءت بالعلويين الى السلطة، وامن لهم المسدس والبزة العسكرية نوعا من الانتقام ضد من كانت لهم الحياة بشكل اسهل وأفضل”.
ويختم عجمي كتابه بحكمة جميلة، فيقول: “(العلويون اليوم) ليسوا في مزاج العودة الى العبودية، ولكن رقاص الساعة لا يستوي في الوسط”.

لأنه لم يمض وقت كثير على صدور الكتاب (صدر في 30 ايار عن “معهد هوفر”)، لم تصدر حتى الآن الا مراجعة واحدة بحقه، قدمها ديكستر فيلكينز في “نيويورك تايمز”. مراجعة اخرى جاءت على موقع “جدلية” بقلم بسام حداد، الا انها لم تناقش الكتاب، بل ردت على مراجعة ديكستر مع انه صبت جام غضبها على عجمي.

في حوالي 1200 كلمة، اثار فيلكينز النقاط التي تثير فضول الغربيين عموما حول الثورة السورية: الى اين تذهب الثورة، تماسك سوريا ككيان سياسي موحد مستقبلا، تشتيت آل الاسد الانتباه عن شؤون الداخل بحصر خطابهم بالعداء لاسرائيل، مجيء بشار وتحسن الاقتصاد، الثورة وطابعها الطائفي في المواجهة بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية الحاكمة، فخيارات الإدارة الأميركية في التعامل مع التطورات السورية.
الا ان المراجعة الحيادية نسبيا التي قدمها فيلكينز اثارت حفيظة حداد، فقدم ردا بلغ حوالي ثلاثة اضعاف مقالة المنشورة فيلكينز من حيث عدد الكلمات، وضمن رده هجوما ضد المقاربة الغربية للموضوع السوري، واتهم عجمي بتبني هذه المقاربة، واتهم الاثنين بـ “الاستشراق”.

يقول حداد ان عجمي “يوجه اصابع الاتهام بشكل صحيح في وجه الانظمة المتسلطة في المنطقة، ولكنه ينسب على الدوام اسباب القمع الى عوامل متأصلة داخل العرب انفسهم، وهو ما يشي بأبشع اشكال الاستشراق”. ويضيف: “كذلك يفشل عجمي في اثبات ترابط الاسباب، ويعفي القوى الخارجية من تكريسها لمعادلات جيواستراتيجية معينة”. ويتابع: “لا احد بعقل سليم يستطيع ان ينسب كل الامراض القمعية ـ الاقتصادية الى القوى الخارجية، لكن الشيء نفسه ينطبق على من يحاولون حصر الامر بعوامل داخلية وتجاهل الدور الواضح للقوى الخارجية”.
ويختم حداد هجومه بالقول ان الكتاب والصحيفة وعدد كبير من القراء، يرتاحون الى “الافتراضات غير المدروسة عن سوريا، والمنطقة، وشعوبها”.

طبعا حداد، لا يفطن لمغالطاته هو عندما يشمل “المستشرقين” كلهم في خانة واحدة، على غرار اتهامه للمستشرقين بقيامهم بإسقاط تعميمات على المنطقة وشعوبها، وهذه المغالطة تحدث عنها احد ابرز المفكرين السوريين، صادق جلال العظم، في معرض رده على ادوار سعيد ونظريته التعميمية حول “الاستشراق”.

ثم انه في رأي حداد، هناك رأي واحد ورؤية واحدة “أصيلة” يمكن ان يقدمها أبناء المنطقة وشعوبها، وهو ما يزعجه اصلا، لأن عجمي يقدم رؤية، يخالف بعضها حداد، ولكن بعض الغربيين يعتبرونها “اصيلة” نظرا لجذور مؤلفها، وكأنه لا يمكن ان يقدم عجمي رؤية “ابن البلد” حول الموضوع السوري، وان يقدم حداد، اللبناني ـ السوري المقيم في واشنطن، رؤية “ابن بلد” مخالفة، او كأن نظرة ابناء المنطقة “وشعوبها” تجاه شؤونهم، كالثورة السورية ضد الأسد، عليها ان تتطابق، وان تشمل كل ما يعتقده حداد ذات صلة، خصوصا رؤيته لموضوع البحرين، والقضية الفلسطينية، وعداءه للحكومة السعودية.

ثم يصب حداد جام غضبه على عجمي، وينسب إليه قوله ان الحريات الدينية، اي قمع العلويين للسنة وممارساتهم الدينية، هي عنصر رئيسي خلف اندلاع الثورة، مع ان عجمي لم يتوسع في ذلك، بل تطرق اليه لماما مثل في اشارته الى تراجع الأسد عن منعه للمحجبات في التعليم في المدارس الرسمية، او في حديثه عن الطائفية في القطاع العام، عندما يمنح الأسد أربعة آلاف وظيفة في مصفاة بانياس للنفط الى علويين، يأتي بهم من خارج المدينة ذات الغالبية السنية.

ويكتب حداد بسخرية ان “الطائفية هي دوما الاجابة الافضل في مصانع عجمي”، مع ان عجمي حاول قدر المستطاع في كتابه ان يقدم الأسباب الاقتصادية لتقدم السنة داخل المدن، وتراجع الاقليات، وحتى السنة، في الارياف، الى ان تمكنوا من استخدام “المسدس والبزة العسكرية” لانتزاع تفوقهم الاقتصادي، وتقديم جزء منه لعدد يسير من السنة في المدن ممن ابدوا الولاء للنظام.

ثم ان عجمي تناول الفوارق الاقتصاية داخل الطائفة العلوية، ونشوء اقطاع مالي هناك، وحاول الابتعاد عن حصر صورته للثورة في اطار الصراع السني ـ الاقلوي، فيكتب ان الثورة السورية ضد الأسد اخذت للأسف هذا الشكل، وفرضته على معظم من يحاول الحديث عنها.

على ان حداد يقدم مراجعة لكتاب عجمي من دون ان يقرأ الكتاب، على ما يبدو، وهذه آفة سبق ان اطلق عليها عجمي نفسه في كتاب سابق له اسم “المأزق العربي”، وهي تظهر جليا ان جزء كبير من ورطة العرب هي من صنع ايديهم، ولكن من دون اخفاء مسؤولية تنازل واشنطن عن اصدقائها في لبنان مرارا، لأن في بلادهم شجر الارز، وفي نفس الوقت سعي اميركا لإعادة السيادة الكويتية، حيث مصالحها والنفط.

قراءة عجمي تظهر ان كتاباته تتضمن فهمه للوضع كعربي من ابناء المنطقة، ومعرفته بالشؤون الدولية كأكاديمي يعيش في الولايات المتحدة، وادراكه لأخطاء العرب انفسهم ووقوعهم، مثل الشعوب الاخرى، في منافسات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وللأسف مذهبية، وفشلهم في انتاج مؤسسات تنظم هذه الخلافات مما يدفعهم الى التداول الدموي على السلطة مثل “رقاص الساعة الذي لا يستوي في الوسط”.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق