الخميس، 30 أغسطس 2018

أميركا قد تُقلِّص وجودها العسكري في الكويت!

واشنطن - من حسين عبدالحسين
جريدة الراي

«أحد الأمثلة التي يجب أخذها في عين الاعتبار هي الكويت، حيث يمكن للعلاقة الطويلة والعميقة للجيش الأميركي (مع حكومة الكويت) أن تسمح بالانتقال إلى قواعد دافئة وحيث تكون مسألة كثافة الجنود على الأرض أقل أهمية بالنسبة لتحديات المنطقة»، حسب الدراسة الصادرة عن الأكاديميتين المتخصصتين في الشؤون العسكرية ميليسا دالتون ومارلا كارلين، اللتين سبق لهما أن عملتا في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). 
و«دافئة» مصطلح تستخدمه وزارة الدفاع للدلالة على قواعد عسكرية منخرطة في صراعات ليست «حارة»، أي أن الأكاديميتين دعتا، في الدراسة المذكورة التي نشرتها دورية «ديفينس وان» المتخصصة، إلى تقليص «حرارة» القواعد العسكرية الأميركية في الخليج، كالموجودة في الكويت، والاستعاضة عن «هذه التحولات بمزيد من عمليات التعاون الأمني مع الشركاء الخليجيين المهمين لضمان التزام الولايات المتحدة بأمنهم».
دعوة دالتون وكارلين ليست الأولى من نوعها، إذ سبق أن نشر مركز أبحاث «راند»، الذي يتلقى تمويله من وزارة الدفاع، مجلداً، السنة الماضية، جاء فيه أنه مع نهاية الحروب الإقليمية والحرب على الارهاب، ومع تحول التهديدات ضد الولايات المتحدة إلى تهديدات تقليدية ناتجة عن تسلح قوى كبرى، خصوصاً روسيا والصين، لا بد من إعادة توجيه العقيدة العسكرية للولايات المتحدة من إقليمية إلى عالمية.
وتتناسق كتابات مركز «راند» ودراسة دالتون وكارلين مع استراتيجية الدفاع القومي لسنة 2019، والتي وافق الكونغرس عليها وأقّر الاعتمادات اللازمة لتمويلها، وجاء فيها ان روسيا والصين تشكلان الخطر الاستراتيجي الاكبر للولايات المتحدة، وعليه، يتم تعديل السياسة الدفاعية للتناسب مع الخطر الذي تم تحديده.
والتحوّل في سياسة أميركا الدفاعية ليس نتاج إدارة الرئيس دونالد ترامب، بل هو تتمة للسياسة التي كانت بدأت في عهد سلفه باراك أوباما، والتي أطلقت عليها إدارة الرئيس السابق تسمية «إعادة التمحور» من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ. وفيما تبدو أميركا وكأنها تتقهقر في منطقة الشرق الأوسط، تقوم بتعزيز تواجدها في منطقة الهادئ بشكل يسمح لها بمواجهة الصين بطريقة أفضل. وفي هذا السياق، افتتح أوباما قاعدة لقوات «المارينز» في أستراليا في نوفمبر 2017، وهي قاعدة ماضية في التوسع مع بلوغ عديد الجنود فيها 2500. 
لكن يبدو أن الإدارات الأميركية المتعاقبة «مُدمنة» على الشرق الأوسط، إذ على الرغم من الاعلانات المتكررة من الرئيسين، أوباما وترامب، بشأن ضرورة خفض عديد القوات الأميركية في المنطقة المذكورة، ارتفع فعلياً عدد القوات الأميركية منذ وصول ترامب الى البيت الابيض، مطلع 2017، بواقع 33 في المئة، ليصل 54 ألفاً، من أصل 194 ألف جندي أميركي حول العالم، أي أن ربع القوات الأميركية المنتشرة حول العالم لا تزال متمركزة في الشرق الأوسط، على الرغم من كل إعلانات الانسحاب والتخفيض الاميركية.
وتشير الدراسات الاميركية الى أن واشنطن لا تعتقد أن مواجهتها ضد الصين وروسيا تعتمد على عديد القوات، وانه لو كانت الأرقام هي التي تقرر، لكانت الصين متفوقة على بقية جيوش العالم. بيد أن ما تسعى إليه وزارة الدفاع الأميركية هو تعزيز تفوقها النوعي والتكنولوجي على نظيرتيْها الصينية والروسية، وهي لهذا السبب، أضافت قرابة مليار دولار هذه السنة إلى موازنة الأبحاث التابعة للوزارة، فضلاً عن زيادة ملحوظة في الإنفاق على الأنظمة الصاروخية والجوية والبحرية.
وتتداول الأوساط الدفاعية الاميركية أن الحرب في سورية سمحت للولايات المتحدة بدراسة أداء وتقنيات جيش روسيا، التي قال رئيسها فلاديمير بوتين إن سورية هي بمثابة ساحة تدريب لقواته واختبار لأسلحته.
إعادة التمحور من الشرق الأوسط إلى الأدنى، التي تمضي فيها واشنطن، تعني تعديل نماذج الشراكة العسكرية مع الحلفاء. ويشير الخبراء الاميركيون الى أن ألفي جندي في سورية قاموا بما كان مطلوباً أن يقوم به 20 إلى 30 ألفاً من الجنود الأميركيين، بسبب تحالف واشنطن مع مجموعات عسكرية كردية. كذلك الأمر في العراق، حيث سمح التعاون عن كثب مع القوات الحكومية العراقية بالفوز في الحرب ضد تنظيم «داعش»، مع تدخل أميركي على مستوى القيادة، ومن دون الحاجة إلى نشر عدد كبير من القوات الأميركية.
واستناداً إلى تجربتيْ سورية والعراق، يرى الباحثون الأميركيون أنه يمكن لواشنطن خفض عدد قواتها في الخليج، من دون تقويض إمكانياتها الدفاعية، بسبب استمرار وجودها بالاشتراك مع الحلفاء والمضيفين. 
أما إيران، فلا يبدو أن أياً من الخبراء الأميركيين يعتبرها تهديداً عسكرياً جدياً يتطلب الحفاظ على عدد كبير من القوات الأميركية في الخليج، بل يرون أنه بسبب ضعفها عسكرياً، لطالما لجأت إلى «حروب بالوكالة» يخوضها حلفاؤها من الميليشيات العربية في لبنان واليمن وسورية، ويسعون لتحقيق مصالح طهران من دون تورط عسكري إيراني مباشر في هذه الصراعات، أو أي صراعات مباشرة أخرى في الخليج.

الأربعاء، 29 أغسطس 2018

ترامب يهرب إلى الأمام بهجومه على عمالقة الإنترنت

حسين عبدالحسين

في الأسبوع الذي لا يغرق فيه دونالد ترامب في رهاب الملاحقات القضائية التي طالت، وما تزال تلاحق، أقرب المقربين إليه، يسقط الرئيس الاميركي في هفوات وأخطاء سياسية تزيد من ضعضعة صورته، في وقت يعاني حزبه الجمهوري من انخفاض التأييد الشعبي له، قبل تسعة أسابيع من الانتخابات النصفية المقررة في الرابع من نوفمبر المقبل.
آخر أخطاء ترامب ارتبطت بتمسكه بعداوته ضد السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين، حتى بعد وفاة الأخير في عطلة نهاية الأسبوع، فنكّس البيت الأبيض العلم الأميركي الذي يعلوه في بادئ الأمر، لكن ترامب اكتفى بإصدار تغريدة تعاطف فيها مع عائلته، من دون إصدار أي بيان رسمي يرثي الراحل ويمدح مآثره. وبعد يوم، أي قبل انتهاء الحداد الرسمي، تمسك ترامب بصمته، وأعاد البيت الأبيض رفع العلم، في خطوة أثارت حنق كثيرين، ما أجبر ترامب على التراجع وإصدار بيان رسمي نعى فيه ماكين، وإعادة تنكيس العلم الاميركي. 
ورداً على رعونة ترامب في التعاطي مع رحيل ماكين، أحد أبطال حرب فيتنام وأحد أبرز وجوه وأركان الجمهوريين في واشنطن على مدى عقود، لم تدعُ عائلة ماكين الرئيس الأميركي إلى أي من مراسم التأبين للسيناتور الراحل، وهو ما أضعف صورة ترامب كرئيس لكل الأميركيين، خصوصاً أن ماكين هو من حزب ترامب الجمهوري نفسه.
وذكرت وسائل الإعلام أن رئيس حملة ترامب السابق بول مانافورت، المحكوم بجرائم ضريبية تصل عقوبتها إلى 10 سنوات، ينخرط مع المحققين في إمكانية التوصل إلى تسوية تقضي باعترافه بجرائمه، بما في ذلك تعاونه مع حكومات أجنبية، منها الروسية والأوكرانية الموالية لموسكو، من دون التصريح عن تقاضيه أموالاً من هذه الحكومات للعمل لمصلحتها داخل واشنطن، مقابل تخفيف الأحكام عنه. وكانت تقارير سابقة أشارت الى أن ترامب كان ينوي إصدار عفو رئاسي عن مانافورت لمكافأته على عدم اعترافه بالذنب مقابل أحاكم تخفيفية، لكن في حال التوصل لاتفاقية بين مانافورت والادعاء العام، يصبح عفو ترامب بلا فائدة، ويصبح الرئيس الأميركي في مهب رياح اعترافات رئيس حملته السابق.
وما ساهم في تعقيد المشكلة في وجه ترامب تصريح صادر عن زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونل، الذي تعمل زوجته الين تشاو وزيرة عمل في حكومة ترامب، قال فيه إنه يعتقد أن وزير العدل جيف سيشنز «باق في مكانه»، ورد بذلك على حملة كان شنها ترامب ضد وزير العدل الأسبوع الماضي لقيام الأخير بالاعتذار عن الإشراف على التحقيق في إمكانية تورط ترامب أو أفراد حملته في التواطؤ مع روسيا في الانتخابات الأميركية قبل عامين. 
وكانت أوساط مجلس الشيوخ المؤيدة لترامب سربت أنها لا تمانع استبدال وزير العدل بواحد يمكن ان يقوم بطرد المحقق الخاص روبرت مولر، لكن موقف ماكونل يعني أنه يستحيل تعيين وزير جديد، في حالة إقالة الحالي، إذ لن يسمح زعيم الغالبية بإجراء جلسات الاستماع المطلوبة ولا بالتصويت على المصادقة على الوزير الجديد. 
وما بين مشاكل ترامب مع عائلة ماكين وخوفه من مجريات التحقيق الذي صار يلاحق مؤسسته المالية وأفراد عائلته من العاملين في قيادتها، وجد الرئيس الأميركي الوقت الكافي لإثارة المزيد من العواصف السياسية بإصداره سلسلة من التغريدات (أول من أمس) هاجم فيها كبرى شركات أميركا التكنولوجية، مثل «غوغل» و«فيسبوك» و«تويتر»، متهماً إياها بالانحياز لمصلحة اليسار الليبرالي والديموقراطيين، على حساب اليمين المحافظ والجمهوريين.
وقال ترامب إن نتائج البحث عن اسمه على محرك بحث «غوغل» يقدم سلسلة من المواقع التابعة لوسائل الاعلام التقليدية، وهذه بغالبيتها أقرب الى الديموقراطيين منها الى ترامب، وهي تنتقد الرئيس الأميركي بشكل متواصل. واعتبر ترامب ان البحث في «غوغل» عن اسمه لا يظهر المواقع الإخبارية اليمينية، وهذه بمعظمها يديرها هواة وناشطون، وتنشر دعاية موالية لترامب أكثر منها أخباراً، ما يعني أنه من الصعب لها ان تنافس المؤسسات الاعلامية العريقة المعروفة، التي تتصدر أخبارها نتائج كل محركات البحث.
وأجمع الخبراء على أن شكوى ترامب ضد شركات الانترنت نفسها هدفها حشد التأييد الشعبي له، في وقت يعاني من الملاحقات القضائية ومشكلة التعاطي مع وفاة ماكين، وهو ما يعني أن الرئيس الاميركي يثير مشكلة لمعالجة مشكلة سابقة، وهو أسلوب صار واضحاً ومفهوماً لدى غالبية متابعيه، باستثناء مؤيديه.

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

سيناريو لضربة غربية «توجِع الأسد أكثر من ذي قبل»

حسين عبدالحسين

لا تدخل محافظة إدلب في الحسابات الاستراتيجية للولايات المتحدة، فلا موقع المحافظة استراتيجي يصل العراق بسورية، مثلاً، ولا فيها مخزون نفط يمكن حرمان الحكومة السورية منه إلى وقت التوصل إلى تسوية سياسية، كما لا تجاور إدلب دولاً حليفة استراتيجياً لأميركا، مثل إسرائيل. 
بناء على ذلك، لا يعني واشنطن من يسيطر على إدلب بين قوتيْن، تركيا وحلفاؤها من ناحية، وروسيا وايران وحلفاؤهما من ناحية ثانية. حتى أن المسؤولين في واشنطن لا يبدون حشرية لمعرفة جدول أعمال وفحوى محادثات القمة الايرانية - الروسية - التركية، المقررة في إيران، في السابع من الشهر المقبل، والتي يفترض أن يتم تخصيصها للشأن السوري، وخصوصاً مصير إدلب.
ما يعني أميركا في سورية سبق ان حدّده مستشار الأمن القومي جون بولتون بنقطتين هما: منع عودة تنظيم «داعش» من المناطق التي تم طرده منها شرق الفرات، والعمل على إخراج المقاتلين الموالين لإيران من سورية، بما يضمن حرمان طهران من تحويل سورية إلى قاعدة عسكرية يمكنها من خلالها تهديد أمن اسرائيل. والنقطتان لا تؤثر فيهما إدلب أو من يسيطر عليها.
لكن نقطة ثالثة ما تلبث أن تعود إلى صدارة الأولويات في سورية بسبب تهديدها أمن وسلامة العالم ككل، وهي إمكانية استخدام الرئيس السوري بشار الأسد الأسلحة الكيماوية مجدداً، خصوصاً في معارك فيها كثافة مقاتلين تابعين للمعارضة يجعلون عملية سيطرة النظام على مناطقهم مكلفة بالدماء والعتاد له وللقوات المتحالفة مع جيشه.
على مدى الأسبوع الماضي، تناقلت الأوساط المعنية في العاصمة الأميركية تقارير مفادها أن واشنطن رصدت قيام النظام السوري بتحريك قطع يمكنها توجيه ضربات بالأسلحة الكيماوية أثناء الهجوم على ادلب، للتسريع في عملية سيطرة قواته على هذه المحافظة. لهذا السبب، سارعت واشنطن، عبر قنواتها الديبلوماسية وعلانية، إلى تحذير موسكو من أن أي استخدام للأسلحة الكيماوية سيلقى عقاباً أميركياً - أوروبياً. 
وتنفي الأوساط الأميركية ما أعلنته موسكو عن أن واشنطن قامت بدفع سفن حربية تابعة لها إلى البحر الابيض المتوسط، مؤكدة أن عملية دخول وخروج السفن الأميركية من المتوسط هي «عملية روتينية»، وأن القيادة العسكرية الأميركية لم تدفع بأي تعزيزات.
وتأكيداً لمعلومات «الراي»، قال الناطق باسم وزارة الدفاع «البنتاغون» إريك باهون: «إن التقارير الروسية حول تعزيز القدرات العسكرية الأميركية في شرق البحر الأبيض المتوسط ليست إلا دعاية وهي غير صحيحة... (لكن) هذا الأمر لا يعني أن الولايات المتحدة غير مستعدة للعمل حال إعطاء الرئيس الأميركي أمراً مباشراً باتخاذ مثل تلك الإجراءات».
على أن إمكانية استخدام الأسد أسلحة كيماوية في إدلب أثار مخاوف واشنطن وحلفائها في اوروبا، وجرت محادثات بينهم بشأن إمكانية توجيه ضربة عقابية مشتركة «توجع الأسد أكثر من ذي قبل»، في إشارة إلى الضربة الثلاثية التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على مواقع تابعة للنظام السوري، في أبريل الماضي، رداً على استخدام أسلحة كيماوية في دوما بالغوطة الشرقية لدمشق.
وفي السياق نفسه، تدور في أروقة القرار الأميركي المعنية بالسياسة الخارجية أحاديث عن تمسك واشنطن بانتشار ألفي جندي تابعين لها، بالتعاون مع حلفاء محليين، شرق الفرات. وتقول الأوساط الاميركية إنه فضلاً عن تأمين المصالح الأميركية، لناحية إبقاء مقاتلي «داعش» وإيران خارج سورية، ستقوم واشنطن والدول الحليفة بالحفاظ على هذه المنطقة إلى أن يتم التوصل الى تسوية سياسية للأزمة السورية.
وتلفت الأوساط إلى أن منطقة شرق الفرات هي خزان سورية النفطي، وكانت تدرّ على حكومة الأسد نحو 3 مليارات دولار سنوياً، أو ما كان يشكل ربع واردات دمشق، مشيرة إلى أن إبقاءها خارج سيطرة نظام الأسد قد تقنعه وحلفاءه بضرورة التوصل إلى تسوية فعلية تؤدي لانتقال سلمي للسلطة.
ومن السيناريوات المطروحة في واشنطن إعادة إعمار مناطق شرق الفرات، وإقامة حكومة سورية محلية فيها يمكنها إدارة هذه المناطق واستيعاب بعض المهجرين داخلياً.
ووفقاً للأوساط، فإن أحد الأمور التي تقلق الأوروبيين، خصوصاً ألمانيا، من الهجوم المقبل على إدلب، هو إمكانية أن يؤدي إلى تشريد أعداد كبيرة من السوريين المقيمين فيها، والذين يقدر عددهم بنحو ثلاثة ملايين، مع ما يعني ذلك من تدفق لهؤلاء اللاجئين باتجاه الدول الاوروبية. 
وتنقل المصادر الأميركية عن نظيرتها الاوروبية انه في لقاء القمة الأخير بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت سابق من الشهر الجاري، حاول الأخير إقناع ميركل بضرورة رفع العقوبات الأوروبية عن نظام الأسد، والمساهمة في إعادة إعمار المناطق السورية، بما يسهل عودة اللاجئين إليها. 
كما عرض بوتين على ميركل، حسب الأميركيين، تأجيل أي عملية عسكرية في إدلب إلى ما بعد إعادة إعمار المناطق التي يسيطر عليها الأسد، بما يضمن أن أي لاجئين من إدلب يمكنهم التوجه إلى مناطق سورية أخرى، بدلاً من محاولة اللجوء إلى أوروبا. 
وتؤكد المصادر الأميركية أن ميركل رفضت عرض بوتين، وحاولت ثنيه عن دعم أي عملية عسكرية في إدلب من شأنها أن تساهم في المزيد من زعزعة الوضع السوري، وتعقيد المشهد المعقد أصلاً.

هل تعود الجزيرة العربية خضراء؟

حسين عبد الحسين

فيما كان حجاج هذا العام يؤدون المراسم الدينية المعروفة، تعرضت مكة لرياح وأمطار فاجأت الحجاج والمراقبين. يعتقد خبراء المناخ، في غالبيتهم، أن أمطار مكة تعكس تغييرات مناخية ناجمة عن الاحتباس الحراري، الذي يتسبب به البشر. لكن التاريخ المناخي قد يشي بما هو مغاير.

من لا يعرف تاريخ صحراء شمال إفريقيا، وامتدادها عبر البحر الأحمر لتشمل جزيرة العرب، قد يخال أن هذه الرقعة الشاسعة من الأرض كانت صحراء منذ الطور الجيولوجي الأخير الذي تكونت فيه اليابسة في شكلها الحالي. لكن الآثار الجيولوجية تشي بعكس ذلك؛ ففي صحراء شمال إفريقيا والصحراء العربية دلائل تشير إلى أنها كانت خضراء بالكامل، وأن أمطارها كانت غزيرة، وكذلك أنهارها وبحيراتها. ولوفرة مياهها وخضرة طبيعتها، عاشت في هذه الرقعة حيوانات متنوعة من التي تعيش في الأدغال، كالأسود والفهود والغزلان والزرافات، فضلا عن التماسيح وفرسان النهر، وبعضها لا تزال بقايا هياكلها العظمية متناثرة في الصحراء القاحلة اليوم.

يعتقد عدد من العلماء أن أسباب التغيير المناخي الذي قلب الصحراء خضراء، ثم أعادها صحراء مجددا، هو انحراف دوري في محور الكرة الأرضية، يؤدي إلى تغيير في انحناءة الكوكب، فتتغير قوة الشمس التي تضرب بقعة معينة من الأرض، ويؤدي التغيير الشمسي إلى تغيير مناخي. هكذا، انحرف محور الأرض قبل حوالي تسعة آلاف سنة، فانتقلت أمطار خط الاستواء شمالا، فانتعشت أراضي شمال إفريقيا والجزيرة العربية، ودامت خضراء إلى أن عاد محور الأرض إلى موقعه السابق، قبل حوالي خمسة آلاف وخمسمئة سنة، فعادت الأمطار من الشمال إلى الاستواء، وجفت الأرض شمالا، وعادت أراضي شمال إفريقيا وجزيرة العرب صحراء قاحلة.

اقرأ للكاتب أيضا: السلطان مفلس

أدى الجفاف لاختفاء نهر، كان طول مساره 1200 كيلومترا، وكان يقسم الجزيرة العربية إلى نصفين، شمالي وجنوبي، وكان ينبع من سلسلة جبال الحجاز جنوب المدينة بقليل، غرب السعودية، ويجري باتجاه الشمال الشرقي عبر وادي الرمة، ويتابع مسيره نحو حفر الباطن، ثم يلتقي أنهار كارون الإيراني ودجلة والفرات العراقيين، حيث تصب الأنهار الأربعة في موقع يحتمل أنه كان الكويت، يوم كانت الأخيرة تحت الماء، أو نقطة أخرى في جوارها. ويعتقد باحثو العهد القديم أن هذا الترتيب الجيولوجي، أي الأنهار الأربعة التي تصب في منطقة واحدة، هو الذي ترد الإشارة إليه في سفر التكوين.

منذ جفافه، يفيض نهر الرمة بمعدل ثلاث مرات كل مئة عام، وهو عند فيضانه يؤدي إلى دمار وإصابات بسبب البنيان الذي طال مجرى النهر منذ جفافه.

موقع أثري يظهر جبالا من الأحجار الرملية في صحراء العلا في السعودية

وعبر التاريخ، تم استخدام مجرى نهر الرمة الجاف كـ"طريق سريع" وصل بين اليمن والقرن الإفريقي، من ناحية، والبصرة وجنوب إيران، من ناحية ثانية. وهو ما قد يفسر سبب كثافة الرقيق الإفريقيين جنوب العراق، وهي كثافة سمحت لهم بالثورة على الخليفة العباسي في العام 869 ميلادية وإقامة إمارة دامت 14 عاما.

كذلك استخدم الساسانيون الإيرانيون مجرى الرمة في محاولة للسيطرة على باب المندب، جنوب غرب اليمن، كوسيلة لقطع طريق التجارة الذي كان يصل الهند بأوروبا، عبر البحر الأحمر، فـ"قناة الفراعنة"، فنهر النيل، إلى مرفأ اسكندرية على المتوسط.

الانقسام الطبيعي في الزمن السحيق شطر الجزيرة العربية إلى جزأين: شمالي غربي حكمه البابليون، ثم أنباط الأردن، فحكام المشرق ومنهم الرومان، وجنوب غربي تنافس في السيطرة عليه الإيرانيون ومملكة الحبشة، المتحالفة مسيحيا مع روما وبعدها مع بيزنطية.

ومن يعرف الفن العمراني الحجازي، أو من يزر متحف الرياض الذي يعرض نماذج عمرانية من المدينة وأخرى من مكة، ير الفارق الواضح بين العمارة في المدينة، وهي متأثرة بالأسلوب العربي المشرقي، والعمارة في مكة، والتي تبدو عليها آثار الزخرفة الفارسية، في اختلاف يشي أنه على عكس الرواية التاريخية الحالية، قد يكون التباين بين مكة والمدينة أكبر مما يعتقد المؤرخون.

سكان جزيرة العرب وشمال إفريقيا لم يهجروا أراضيهم فور اندلاع الجفاف فيها، بل هم اخترعوا وسائل مختلفة لاستنباط المياه الجوفية من قلب الصحراء، فحاز بعضهم لقب "الأنباط". وحفر آخرون قنوات مياه، تعدى طول بعضها مئات الكيلومترات، مثل في استجرار مياه نهر العاصي في سهل البقاع اللبناني إلى تدمر الجافة على حافة الصحراء، شرق سورية. وكان الليبي معمر القذافي آخر من استنبط مياه الصحراء الجوفية، بنصيحة من الجيولوجي المصري الأميركي فاروق الباز، وأقام "النهر العظيم" لاستجرار مياه الصحراء إلى مدن الساحل التي تعاني شحا في مياهها.

اقرأ للكاتب أيضا: قصة الحجر الأسود

على أن المياه الجوفية محدودة، وتنفد. وفي العام 750 ميلادي، ضرب زلزال كبير المشرق العربي فدمر قنوات المياه والخزانات الصخرية، فانحسرت آخر معالم الحياة النبطية، كما حدث في مدينة بترا جنوب الأردن. وانتقلت إثر ذلك القوة السياسية في المنطقة من دمشق إلى بغداد، وأعاد الخليفة العباسي المأمون (810 ـ 833 ميلادية) كتابة التاريخ العربي، من مشرقي بيزنطي إلى عراقي مع تأثيرات هندية وفارسية ووسط آسيوية.

قد تبدو أمطار مكة في موسم الحج هذا العام "اضطرابا مناخيا" سببه الاحتباس الحراري. لكن التاريخ الجيولوجي، عالميا وفي جزيرة العرب، يحتاج لإعادة نظر وإعادة كتابة، وقد يظهر أن "التغيير المناخي" اليوم ليس من صنع البشر، بل تكرار لظاهرة جيولوجية دورية، وقد يظهر أن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في جزيرة العرب يحتاج كذلك إلى إعادة نظر وإعادة كتابة.

ربما حان الوقت ليكتب التاريخ العارفون، بدلا من المنتصرين.

الخميس، 23 أغسطس 2018

إسرائيل ترفض تكرار تجربة جنوب لبنان «الفاشلة» في جنوب سورية

حسين عبدالحسين

تصرّ مصادر إدارة الرئيس دونالد ترامب على أن تصريحات مستشارالأمن القومي جون بولتون، أثناء زيارته إسرائيل، بشأن الاستياء الروسي من الوجود الايراني في سورية، هي تصريحات تعكس حَرْفية الحوار الذي دار بين المسؤول الأميركي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثناء زيارة بولتون الى موسكو قبل أسابيع.
وفي مؤتمره الصحافي الذي عقده في إسرائيل، أول من أمس، كشف بولتون أنه سمع من بوتين أن أهداف روسيا تختلف عن أهداف إيران في سورية، وأن موسكو تود لو كان بإمكانها إخراج القوات الايرانية من سورية بالكامل. لكن ما لم يقله بولتون علناً، حسب المصادر الأميركية، هو أن بوتين طلب مساعدة ودعماً غربياً - أميركياً وأوروبياً - له ولنظام بشار الأسد بهدف التخلص من الوجود الإيراني في سورية.
ولا ترى واشنطن كيف يمكن لتمويل الغرب عودة اللاجئين السوريين، عبر إعادة إعمار المناطق التي نزحوا منها، أن يؤثر في انتشار المقاتلين الموالين لإيران في سورية.
وتقول المصادرالأميركية إن بوتين حاول الإيحاء لبولتون بأن «روسيا تمسك بجهاز الاستخبارات العامة السورية»، وأن «هذا الجهاز نجح حتى الآن في تحذير الإسرائيليين من شحنات أسلحة إيرانية كانت تعبر الأراضي السورية»، إلا أن المسؤولين الأميركيين شككوا بأقوال بوتين، وقالوا إنهم سمعوا من نظرائهم الاسرائيليين أن تحديد الأهداف التي ضربتها المقاتلات الاسرائيلية داخل سورية جاء على إثر مجهود استخباراتي اسرائيلي محض، وأن الروس لم يزوّدوا الاسرائيليين بأي معلومات ذات فائدة حول التواجد العسكري الإيراني في سورية.
ولاحظت المصادرالأميركية أن سياسة روسيا تجاه سورية صارت ترتكز على نقطة واحدة: الحصول على أموال غربية لتمويل إعادة إعمار سورية، وهو تمويل إنْ حصل، فسيعني في الوقت نفسه اعترافا غربيا بشرعية الرئيس السوري بشار الأسد وشرعية بقائه.
وتضيف المصادر ان «إجابة بوتين عن كل موضوع يثيره محدثوه حول سورية هو طلب المعونة المالية من الغرب لإعادة الإعمار». وتالياً، يعتقد كبارالمسؤولين في إدارة الرئيس دونالد ترامب أن بوتين في مأزق، وأن انتصاره في سورية يستحيل أن يكتمل فيما الأسد يحكم فوق الركام.
وبسبب استماتة بوتين لـ«إعادة تأهيل» الأسد، فهو يقدم تنازلات متناقضة، من قبيل موافقته على بقاء القوات التركية شمال سورية والإبقاء على محافظة إدلب في أيدي المعارضة المسلحة، وهي موافقة على عكس رغبات الأسد الساعي لاستعادة السيطرة على كل الأرض السورية. كما تشير المصادرالأميركية إلى أن بوتين ألمح للأميركيين إلى أنه لا يعارض بقاء القوات الأميركية شرق الفرات لضمان عدم عودة «داعش» والقضاء على آخر جيوب التنظيم.
وتقديم بوتين تنازلات للوجود التركي في الشمال، وتقديم تنازلات للوجود الأميركي شرق الفرات، هي تنازلات متناقضة، فالأميركيون يوفرون حماية لمجموعات كردية مسلحة تعتبرها أنقرة إرهابية وتسعى للقضاء عليها.
وفي الحال هذه، دارت تساؤلات في أروقة القرارالأميركية، وفي حوارات بين المسؤولين الاميركيين ونظرائهم الاسرائيليين، عن إمكانية أن يكون بوتين قدّم تنازلات لايران كذلك، من قبيل السماح لقواتها بالتواجد سراً في سورية إذا تظاهرت بالابتعاد مسافة 90 كيلومتراً عن الحدود الاسرائيلية.
إلا أن إسرائيل، ومعها أميركا، لا يبدو أنهما تقبلان «ابتعاداً إيرانياً»، بل تُصرّان على «انسحاب إيراني كامل من سورية». 
وفي هذا السياق، سمع المسؤولون الأميركيون من نظرائهم الاسرائيليين أن تجربة «ابتعاد (حزب الله) عن الحدود الشمالية مع إسرائيل إلى شمال نهر الليطاني لم تنجح»، وأن «نشر الجيش اللبناني لم يُغيّر في موازين القوى عبر الحدود»، وان الحزب «يواصل التحرش بمراقبي الأمم المتحدة عندما يحاول هؤلاء التأكد من بقائه خارج المنطقة اللبنانية الجنوبية المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 1701».
ولأن تجربة إبعاد الميليشيات الموالية لإيران عن الحدود اللبنانية مع إسرائيل لم تنجح، على الرغم من انتشار الجيش اللبناني وقوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل»، لا تعوّل إسرائيل على أي ترتيب مُماثل في الجنوب السوري، وتطلب انسحاباً كاملاً للميليشيات الموالية لإيران من سورية، وهو الهدف الذي أعلنه كل من رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو وبولتون أثناء المؤتمر الصحافي المشترك بينهما في إسرائيل.

بوتين لأميركا وأوروبا: ساعدوني لإخراج إيران من سورية

حسين عبدالحسين

يتواصل الكشف عن «أسرار» المحادثات الأميركية - الروسية المتواصلة منذ يونيو الماضي واستُكملت في قمة هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في يوليو الماضي، وجديدها تأكيد مصادر أميركية لـ«الراي» أن الأخير طلب مساعدة الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) لإخراج إيران والميليشيات التابعة لها من سورية.
وقالت المصادر إن تصريحات مستشار الأمن القومي جون بولتون، أول من أمس، في ختام زيارته إسرائيل، بشأن الاستياء الروسي من الوجود الإيراني في سورية، هي تصريحات تعكس حَرْفية الحوار الذي دار بين المسؤول الأميركي وبوتين، أثناء زيارة بولتون إلى موسكو في نهاية يونيو الماضي.
وتعليقاً على ما كشفه بولتون عن أنه سمع من بوتين أن أهداف روسيا تختلف عن أهداف إيران في سورية، وأن موسكو تود لو كان بإمكانها إخراج القوات الايرانية من سورية بالكامل، كشفت المصادر الأميركية أن ما لم يقله بولتون علناً هو أن بوتين طلب مساعدة ودعماً غربياً - أميركياً وأوروبياً - له ولنظام الرئيس السوري بشار الأسد بهدف التخلص من الوجود الإيراني في سورية.
ووفقاً للمصادر، فإن بوتين حاول الإيحاء لبولتون بأن «روسيا تمسك بجهاز الاستخبارات العامة السورية»، وأن «هذا الجهاز نجح حتى الآن في تحذير الإسرائيليين من شحنات أسلحة إيرانية كانت تعبر الأراضي السورية»، إلا أن المسؤولين الأميركيين شككوا بأقوال بوتين، وقالوا إنهم سمعوا من نظرائهم الإسرائيليين أن تحديد الأهداف التي ضربتها المقاتلات الإسرائيلية داخل سورية جاء على إثر مجهود استخباراتي اسرائيلي محض، وأن الروس لم يزوّدوا الاسرائيليين بأي معلومات ذات فائدة حول التواجد العسكري الإيراني في سورية.

الأربعاء، 22 أغسطس 2018

سفينة ترامب... تغرق

واشنطن - من حسين عبدالحسين

عانى الرئيس دونالد ترامب من أسوأ يوم له في مواجهة العدالة الأميركية، حتى الآن، مع سقوط اثنين من أبرز أركان فريقه. الأول محاميه الخاص مايكل كوهن، الذي اعترف بجرائم تهرب من الضرائب وتحايل على الحكومة وبعض المصارف، وتسديد أموال لحمل عارضة خلاعية سابقة على الالتزام بالصمت حول علاقة عاطفية لها بترامب. وقال كوهن انه اقدم على فعلته بتعليمات من المرشح الرئاسي في حينه دونالد ترامب. وجاءت اعترافات كوهن على أمل حصوله على حكم مخفف، لكن من شأن توريطه لترامب في موضوع تسديد الأموال للعارضة الخلاعية أن يُعرِّض الرئيس الأميركي لمسؤولية قانونية تتعلق بإمكانية مخالفة قوانين تمويل الحملات الانتخابية. 
وفي هذا السياق، اعترف كوهن الذي بدا محبطاً وفي بعض الأحيان متلعثماً، بأنه دفع مبلغي 130 و150 ألف دولار لامرأتين تقولان إنهما أقامتا علاقة مع ترامب لقاء لزومهما الصمت، مؤكداً أن ذلك تم «بطلب من المرشح» ترامب وكان الهدف تفادي انتشار معلومات «كانت ستضر بالمرشح».
وقال كوهن إنه تصرف «بالتنسيق مع ترامب وبتوجيهات منه»، مضيفاً «شاركتُ في هذا السلوك بهدف التأثير على الانتخابات».
ويشكل هذا الاعتراف قنبلة حقيقية لترامب لأن ذلك يفترض أنه قد يكون هو نفسه ارتكب جرماً.
أما الثاني من رجال ترامب ممن سقطوا في قبضة العدالة فهو مدير حملته الرئاسية الانتخابية بول مانافورت، الذي وجدته هيئة المحلفين مذنباً في ثمانية من 18 اتهاماً، تنوّعت بين التهرب من الضرائب، والتزوير، والتحايل على الحكومة وعلى بعض المصارف، وهي جرائم من المرجح أن تؤدي الى صدور حكم سجن بحقه يصل الى عشر سنوات.
ولا يزال مانافورت في انتظار محاكمة ثانية، مقررة الشهر المقبل، وتتعلق بعدم تصريحه عن العمل كـ«عميل خارجي» وتسلمه أموالاً من حكومة أجنبية، هي حكومة أوكرانيا السابقة المؤيدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أجل القيام بحملة علاقات عامة (لوبي) لمصلحة هذه الحكومة.
وكان لافتاً التزامن القضائي المذهل (أول من أمس الثلاثاء) لتلقي ترامب الضربة المزدوجة مع قيام كوهن بتوريطه، وإدانة مانافورت في ختام محاكمته.
ويتم النظر في القضيتين المنفصلتين أمام محكمتين مختلفتين، غير أن الظل نفسه يُخيّم فوق المحاكمتين في ألكسندريا قرب واشنطن ونيويورك، هو ظل ترامب الذي تواجه ولايته مسائل قضائية كثيرة تكبلها، إذ تطول العديد من المقربين منه وباتت تهدد بتلطيخه مباشرة.
وبين سقوط محاميه ومدير حملته في قبضة العدالة، أثار لقاء عقده محامي البيت الأبيض دون ماغان مع فريق المحقق الخاص روبرت مولر، واستغرق 30 ساعة، قلق الرئيس الاميركي من إمكانية أن يقوم ماغان بإفشاء أسرار معلّمه، فغّرد ترامب وشبه ماغان بـ «الجرذان»، وهي التسمية التي تطلقها المافيا الايطالية على أي من اعضائها ممن يفشون أسرارها الى السلطات.
وبين وقوع كوهن ومانافورت وتقهقر ماغان وامكانية تعاونه مع مولر بهدف الحصول على حكم مخفف مثلما فعل كوهن، تابعت العاملة السابقة في البيت الابيض اوماروسا نيومان نشر محادثات كانت سجلتها سراً أثناء عملها في الفريق الرئاسي، الذي وفدته من برنامج تلفزيون الواقع «ابرنتيس»، الذي كان يقدمه ترامب. 
ومن التسجيلات التي قدمتها اوماروسا، تسجيل يُظهرها في حوار مع زوجة ابن ترامب، لارا، عرضت فيه الاخيرة راتباً قدره 15 ألف دولار شهرياً، من أموال المانحين الانتخابيين لحملة ترامب الانتخابية، بهدف شراء صمت العاملة السابقة في البيت الابيض. وفي تسجيل آخر، تُحاور أوماروسا اثنين من الفريق الرئاسي حول قيام ترامب باستخدام كلمة «زنجي»، وهي كلمة محظور استخدامها على البيض الأميركيين بسبب تاريخ البلاد في العبودية وحساسية الموضوع سياسياً.
إقرار كوهن بالذنب سيثير المزيد من مخاوف ترامب، فكوهن هو اليد اليمنى سابقاً له، وهو الذي قام بعمليات «تنظيف»، من قبيل إسكات العارضة الخلاعية قبيل الانتخابات، وهي جريمة يُحاسب عليها القانون، لا بسبب العلاقة الجنسية والمال لإسكات صاحبتها، بل لاستخدام كوهن أموالاً تتعلق بالانتخابات من دون التصريح عنها إلى هيئة مراقبة تمويل الانتخابات.
ويعتقد بعض الخبراء أن كوهن هو بمثابة «أمين أسرار» ترامب، وأن موافقته على التعاون مع التحقيق (بعد اعترافه) قد تفيد المحققين، وبعدهم المدعون العامون ممن سيترافعون في القضية، بأدلة كثيرة يمكن استخدامه في ملاحقة ترامب نفسه في وقت لاحق.
كما يمكن أن تتحول ملاحقة مولر لمانافورت، عن طريق ضرائبه أولاً قبل ملاحقته بموضوع التعامل مع أوكرانيا، إلى نموذج لملاحقة مولر لترامب بمواضيع تتعلق بضرائبه، التي يصر الرئيس الأميركي على إخفائها ليصبح أول رئيس لا يفصح عن ضرائبه منذ منتصف السبعينات. 
كذلك، اعتبر الخبراء أن ثبوت الاتهامات في حق مانوفورت هو بمثابة انتصار لمولر وفريق التحقيق. وعلى الرغم من أن أياً من الأحكام بحق مانافورت أو اعترافات كوهن لا ترتبط بروسيا ولا بالتحقيق الساعي إلى البحث عن تواطؤ بين ترامب وأفراد حملته وبين موسكو، أثناء الحملة الرئاسية الانتخابية قبل سنتين، إلا أن هذه «الانتصارات» تفتح أبواباً واسعة لمولر، وتُثبت أن هجمات ترامب ضد المحقق الخاص، واتهامه بأنه يمارس «صيد ساحرات» وأن التحقيق «مسيس»، هي هجمات واتهامات فارغة هدفها عرقلة مهمة مولر، ربما لخوف الرئيس من أن تطوله نفس الكأس المرة التي طالت المقربين منه.
وبدا التوتر ظاهراً على ترامب، في تغريداته، منذ فترة، فهو بالكاد يمر يوم من دون أن يوجه سهام انتقاداته اللاذعة إلى التحقيق، ومولر، ووزارة العدل وأركانها، بمن فيهم الوزير جيف سيشنز ووكليه رود روزنستاين، علماً أن الاثنين عيّنهما ترامب في منصبيهما. كما يوزع ترامب انتقاداته على الديموقراطيين، ويكرر أنه لم يكن هناك أي تواطؤ مع روسيا، وأنه حتى لو كان يوجد أي تعامل، فإن التعامل لا يتعارض مع القانون. كما أبدى ترامب حزنه لصدور حكم بحق مانافورت، ووصفها بالقصة الحزينة، ولكن التي لا تتعلق به في الوقت نفسه.
على أن المشاكل القانونية التي يعاني منها ترامب وفريقه لا تبدو وكأنها تؤثر كثيراً في شعبيته، التي تقف عند 42 في المئة، حسب موقع «فايف ثيرتي ايت» المتخصص. ويلفت الخبراء الى أنه في السنوات التي كان فيها الاقتصاد منتعشاً، كما هو الآن، وسوق المال في أعلى مستوياتها، كانت معدلات تأييد الرئيس لا تنخفض عن 50 في المئة، وانه بسبب شخصية ترامب ومشاكله القانونية، فإن شعبيته تنخفض الى معدلات غير مسبوقة بالنسبة لرئيس في هذا الوقت من رئاسته ومع أداء اقتصادي قوي. 
لكن نسبة 42 في المئة لا تبعد كثيراً عن الـ46 في المئة التي أوصلت ترامب إلى البيت الابيض، وهو ما يعني أنه على الرغم من مأزقه القانوني، لا تزال حظوظ ترامب في الفوز بولاية ثانية في سنة 2020 مرتفعة، إلا في حال نجح مولر بالاطاحة بالرئيس قبل موعد انتخابات 2020.

الثلاثاء، 21 أغسطس 2018

جهود روسيا لإعادة تأهيل الأسد «خارجياً» تصطدِم بقرارات الأمم المتحدة

حسين عبدالحسين

الهجوم الشرس الذي شنّه وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، أول من أمس، ضد «الدائرة السياسية في الأمم المتحدة»، يشي بأن رئيس هذه الدائرة، الديبلوماسي الأميركي السابق جيفري فيلتمان، ما يزال يزعج تحالف إيران وروسيا والرئيس السوري بشار الأسد. 
لافروف اتهم هذه الدائرة السياسية بـ«إرسال مذكرة سرية تحظر على المنظمات التابعة للأمم المتحدة المشاركة في أي مشروع هدفه إعادة تأهيل الاقتصاد السوري». وهاجم لافروف الولايات المتحدة وحلفاءها لربطهم أي مساعدة للحكومة السورية بعملية الانتقال السياسي، واتهم العواصم الغربية بالضغط على الأمم المتحدة للبقاء بعيدة عن جهود إعادة إعمار سورية، وقدم مثالاً على ذلك وكالة «اليونيسكو»، الذراع الثقافية للأمم المتحدة، المترددة في إعادة تأهيل مواقع أثرية شهيرة، مثل مدينة تدمر، شرق سورية. 
وكشف لافروف أنه اتصل بالأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس معترضاً على تلكؤ المنظمة في المشاركة بجهود إعادة إعمار سورية، معتبراً أن في الأمر انحياز ينتقص من مصداقية المؤسسة القائمة على المساواة بين كل الدول الأعضاء. وحض لافروف الدول الغربية على التوقف عن محاولة استغلال الأمم المتحدة سراً.
في واشنطن، ردّت مصادر رفيعة في إدارة الرئيس دونالد ترامب على اتهامات لافروف بالقول إن «تلكؤ الأمم المتحدة في المشاركة في عملية إعادة إعمار سورية ليس سراً أبداً». 
وقالت المصادر إنه، على الرغم من هوية فيلتمان، الذي سبق أن عمل سفيراً لبلاده في لبنان ومساعداً لشؤون الشرق الأدنى لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، إلا أن «جيف ديبلوماسي محترف، ولا يتصرف وفق أهوائه ولا أهواء واشنطن، وهو يلتزم القوانين الداخلية للمنظمة، ويعمل بموجب المذكرات الصادرة عنها وبموجب قراراتها».
ولفتت إلى أن «مذكرة الدائرة السياسية للأمم المتحدة الى الوكالات التابعة للمنظمة، والقاضية بعدم التعاون مع حكومة الجمهورية العربية السورية، هي مذكرة مستندة الى القرار 66/253، الصادر عن الجمعية العامة في 3 اغسطس 2012، والذي تبنته الجمعية بغالبية 133 عضواً، والذي يحدد كيفية التوصل الى تسوية سياسية في سورية».
واضافت المصادر الاميركية ان القرار المذكور تبنّى، وقتذاك، البيان الختامي لـ«مجموعة العمل حول سورية»، التي انعقدت بجنيف في 30 يونيو 2013، بعضوية ممثلين عن أمانتي الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووزراء الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والأمم المتحدة وتركيا والعراق والكويت وقطر وممثلين عن الاتحاد الاوروبي.
في البيان الختامي المذكور، والذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، حدّد المجتمعون خطوات الانتقال السياسي في سورية على الشكل التالي: «قيام هيئة انتقالية حاكمة يمكنها فرض بيئة محايدة تسمح بحصول الانتقال، وهو ما يعني أن الهيئة الانتقالية الحاكمة تمارس كل الصلاحيات التنفيذية… ويمكنها أن تضم اعضاء من الحكومة (السورية) الحالية، والمعارضة، ومجموعات أخرى، ويتم تأليفها بناء على توافق جميع الأطراف».
هذا الاجتماع في جنيف هو الذي حصل على اسم «جنيف 1»، وتلك كانت المرة الأولى التي توافق فيها روسيا على بحث مستقبل سورية، بعد مرور عام ونصف عام على اصرار موسكو على معارضة أي حديث عن الأزمة السورية، واعتبارها ان الاحداث السورية «شؤون داخلية خاضعة لسيادة الحكومة السورية، ولا شأن للمجتمع الدولي للتدخل بها»، حسب المصادر الاميركية. 
وكان ديبلوماسيون اميركيون ممن شاركوا في «جنيف 1» عبروا عن دهشتهم لموافقة الروس على البيان الختامي. يومذاك، قال ديبلوماسي مشارك ان الروس رأوا في قبول الغرب تشكيل هيئة انتقالية تجمع نظام الأسد والمعارضين تراجعاً غربياً عن مطلب خروج الأسد من السلطة كشرط للحوار والتسوية، فيما رأت العواصم الغربية والعربية ان موافقة الروس على قيام هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية تعني حكماً انتزاع هذه الصلاحيات من أيدي الأسد وإناطتها بأفراد من نظامه ومعارضين. 
هكذا، أوضحت المصادر الاميركية ان الأمم المتحدة حددت بشكل واضح، في قرار تبنته غالبية اعضائها، شكل العملية الانتقالية في سورية، وهي «عملية تنقل صلاحيات الحكم الحالي من أيدي الحكومة السورية، بما فيها الأسد، الى ايدي هيئة انتقالية جامعة تتألف من أفراد في نظام الأسد ومن المعارضين، وتشرف على صياغة مستقبل سورية في مرحلة ما بعد الصراع». 
واضافت ان «هذه الهيئة، والحكومات التي ستليها، هي التي ستتعامل معها الأمم المتحدة والتي ستقوم العواصم الغربية والعربية بتمويل جهودها لاعادة الاعمار». 
وقالت المصادر الأميركية: «إذا كان السيد لافروف حريصاً على مصداقية الأمم المتحدة، فعليه الالتزام بقراراتها، فالمنظمة لن تنخرط في أي مجهود في سورية ما لم يلتزم الأسد بقرارات المنظمة، وعليه، يمثل استمرار إمساك الأسد بالسلطة التنفيذية خرقاً للشرعية الدولية، وهو ما يفرض إحجام الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها عن التعامل مع السيد الأسد».
على أن لافروف يبدو انه حاول استخدام كل التهديدات التي بحوزته، فلفت الى ان مصير لبنان يتعلق بضرورة عودة اللاجئين السوريين، الذين تقدّر الأمم المتحدة عددهم في لبنان بقرابة المليون، الى بلادهم. ويبدو أن الوزير الروسي كان ينذر أوروبا ضمنياً بأن تمويلها عودة اللاجئين السوريين، الذي يتطلب حكماً إعادة إعمار قراهم وبلداتهم المدمرة، هو في مصلحة الاوروبيين، وإلا فإن مستقبل أوروبا سيبقى مرهوناً بإمكانية تدفق المزيد من اللاجئين السوريين إليها.
وقالت المصادر الاميركية ان روسيا محتارة بين تصوير نفسها وكأنها انتصرت في سورية كلياً بلا أي حاجة لموافقة الغرب أو دعمه، وبين محاولتها ابتزاز الغرب بتلويحها بالمزيد من اللاجئين السوريين لإجبار العواصم الغربية على الانفتاح على الأسد وتمويل إعادة اعمار سورية.
وفي هذا السياق، توقفت المصادر الاميركية أمام رمزية الرقم الذي قدّمه لافروف عن عودة اللاجئين السوريين من لبنان الشهر الماضي، برعاية روسية. تقول المصادر: «قال لافروف إن عدد العائدين الى سورية من لبنان بلغ 7000 لاجئ سوري، وإذا كانت هذه هي وتيرة العودة، سيحتاج اللاجئون السوريون الى 12 عاماً لمغادرة لبنان بالكامل».
واشنطن والعواصم الحليفة «لن ترسل دولاراً واحداً إلى سورية - باستثناء مناطق شرق الفرات - طالما ان الأسد مستمر في الإمساك بالسلطة التنفيذية في سورية بما يخالف قرارات الأمم المتحدة»، وفقاً للمصادر الأميركية، التي تختم بالقول: «أما إذا سلّم الأسد السلطة الى هيئة انتقالية، حسب القرارات الأممية، فإن العالم سيقف مستعدا لتمويل إعادة إعمار سورية والانفاق بما يكفل مستقبلاً أفضل للسوريين».

السلطان مفلس

حسين عبدالحسين

في كراسات التاريخ التي عممها مصطفى كمال أتاتورك على شعبه، أن الحلفاء فشلوا في احتلال تركيا بسبب انتصاره الأسطوري والمحوري في معركة غاليبولي. صحيح أن انتصار أتاتورك جنب السلطنة انهيارا كاملا في وقت كانت الحكومة العثمانية تستعد لإخلاء العاصمة اسطنبول، إلا أن الحلفاء لم يبذلوا جهدا مماثلا للذي بذلوه في احتلال مناطق عثمانية أخرى اعتبروها استراتيجية، مثل العراق، الذي غرقت القوات البريطانية في مستنقعاته الجنوبية، لكنها لم تتراجع، بل كررت حملاتها العسكرية حتى فرضت سيطرتها عليه بالكامل.

أما سبب تلكؤ الحلفاء في احتلال تركيا، فيعود لقلة أهميتها الاستراتيجية، إذ بعد شق قناة السويس وقيام الكويت بحماية بريطانية، لم تعد تركيا على طريق الهند. ومع استيلاء الحلفاء على الولايات العثمانية العربية، استولوا على حقول النفط العراقية وعلى المساحات المطلوبة، في سورية ولبنان وفلسطين، لوصل هذه الحقول بموانئ المتوسط.

بقيت تركيا الجريحة خارج الحرب العالمية الثانية، لكنها انضمت للتحالف الذي قادته الولايات المتحدة في الحرب الباردة، ربما ليس حبا بأميركا والديموقراطية، بل خوفا من أن يبتلعها الاتحاد السوفياتي، الذي جاورها بضمه جورجيا وأرمينيا في الشرق، وهيمنته على بلغاريا في الغرب. هكذا، صارت تركيا في عداد "تحالف الأطلسي" للديموقراطيات، مع أن أحوالها بقيت على حالها: ديكتاتورية عسكرية محاطة بفاسدين، بلا حرية ولا ديموقراطية ولا اقتصاد.

وفيما شهد مطلع القرن العشرين تحول الإمبراطورية العثمانية إلى ديكتاتورية تركية هامشية عالميا، شهدت نهاية القرن صعود الجيل الأول من الإسلاميين الأتراك، الذين قدموا أداء في الحكم أفضل اقتصاديا من العسكر، وزاحموهم على السلطة. فأطلق الجيش ماكينة القمع لكنه خسر المعركة، فسيطر الإسلاميون بالكامل، خصوصا بعد فشل انقلاب 2016.

اقرأ للكاتب أيضا: قصة الحجر الأسود

لم تكن نجاحات الإسلاميين الاقتصادية ثابتة، فتعرضت تركيا لاهتزازات كبيرة مع بداية الألفية، وخرجت منها بدعم المنظمات الاقتصادية الدولية، التي فرضت إصلاحات. وراحت تركيا تحقق نموا باهرا مع حلول النصف الثاني من العقد الماضي.

لا تزال ماهية الصعود الاقتصادي التركي غير مفهومة. هل دفعت الصناعات الخفيفة نمو تركيا؟ أم هل مولت تركيا نهضتها الاقتصادية بالدين الحكومي؟

تجاوز دين تركيا 230 مليار دولار بالتزامن مع تضخم خارج عن السيطرة وربط الحكومة شرعيتها بنمو صار يبدو مصطنعا وممولا بالاستدانة، يبدو أنها كلها عوامل دفعت البلاد إلى حافة الانهيار. وهو الانهيار الذي يبدو أن بوادره بدأت تلوح مع تهاوي الليرة التركية وخسارتها أكثر من 40 في المئة من قيمتها منذ مطلع هذا العام. وما زاد الطين بلة تفشي الريعية والمحسوبية والمحاباة والفساد، وإنفاق الحكومة أموالها على قطاعات مفيدة سياسيا، وغير منتجة اقتصاديا.

هكذا، يبدو أن الفقاعة التركية قاربت الانفجار، وبات أن ما خاله العالم انتقال تركيا من مصاف الدول الراكدة اقتصاديا إلى واحدة من أكبر 20 اقتصادا في العالم، كان أقرب لمجرد وهم ممول بالدين ومعززا بالدعاية.

مطلع القرن الماضي، عانت السلطنة العثمانية من فساد مالي واسع واضطرابات سياسية داخلية، فثبتت على نفسها لقب "الرجل المريض". لكن بدل أن يبحث السلطان المفلس عن حلول جذرية متمثلة بإصلاحات سياسية واقتصادية، علق السلطان عبد الحميد الدستور، ونسف الحريات، واستدان لبناء مرافق عامة وتمويل نهضة اقتصادية. لكن الأساس الاقتصادي العثماني بقي ضعيفا، على الرغم من نموه المدفوع سياسيا. ويقول المؤرخ يوجين روغان إن السلطنة العثمانية لم تكن تخيفها جيوش الأوروبيين، بل مصارفهم، التي كانت أدانت اسطنبول الكثير.

مع اقتراب موعد الانفجار الاقتصادي، وبدلا من العودة إلى الإصلاح، راحت السلطنة العثمانية تشعل الشعور القومي والإسلامي، وخالت أنه يمكنها الخروج من أزمتها بانقلابها على شراكة تجارية مع بريطانيا كان عمرها أكثر من ثلاثة قرون، ودخلت اسطنبول في تحالف مع برلين ضد التحالف الغربي.

وبدلا من أن تخفي الحرب الكونية الأولى عورات السلطان، كشفتها، ومضى مقاتلو الجيش التركي حفاة جائعين إلى معاركهم، حسب المؤرخة ليلي فواز. وعلقت اسطنبول المشانق للمعارضين السياسيين من بيروت إلى يريفان. لكن استعراض القوة عالميا عجل من انهيار السلطنة داخليا، بدلا من أن يؤجله، وبانت الأمور على حقيقتها: السلطان مفلس، ولا بديل لديه غير الإصلاح الحقيقي، الاقتصادي والسياسي. وهو إصلاح لم يأت، فانهارت السلطنة.

اقرأ للكاتب أيضا: قصتي مع اسمي الشيعي

اليوم، بعد قرن على انهيار السلطنة على المسرح العالمي، تعود تركيا إلى محاولة تشتيت الأنظار عن داخلها الضعيف بتظاهرها وكأنها قوية وماكرة دوليا. تغازل روسيا لاعتقادها أنها تثير غيرة أميركا. تشعل شعور معاداة الإمبريالية والغرب وأميركا. تصرخ. تهدد. تثير الشعور الإسلامي بقولها إن "الله معنا".

لكن الحقيقة تبقى أنه في تركيا اليوم، كما في تركيا قبل مئة عام، لا مفر من الإصلاحات الحقيقية الجذرية: إطلاق الحريات السياسية، دعم استقلال القضاء ونزاهته، التمسك بالديموقراطية بما في ذلك تداول السلطة، ومحاربة الفساد والمحاباة. كل ما عدا ذلك لن يغير في مجرى الأحداث التركية، ولن يسمح للأتراك بتفادي الانهيار، فالمشكلة المزمنة لا تزال نفسها على مدى قرن: السلطان مفلس.

السبت، 18 أغسطس 2018

هل انتهى التحالف الأميركي - التركي؟

حسين عبدالحسين

تمثل السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب نقيض سياسة سلفه باراك أوباما، خصوصاً في الشرق الأوسط: ترامب يُصادق إسرائيل وعلاقات إدارته وثيقة بالسعودية، ويُعادي إيران، فيما كانت علاقة أوباما قوية بايران، ومتأرجحة بكل من إسرائيل والسعودية. وحدها تركيا وحَّدت التناقضات الأميركية، فكانت علاقة أنقرة بواشنطن مهزوزة في زمن أوباما، وازداد توتر هذه العلاقة في ولاية ترامب.
بشكل عام، يمكن القول إن كَيْل الأميركيين، من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، قد طفح من الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته. 
أردوغان لا ينفك يردّد أن تركيا هي حليف رئيسي للولايات المتحدة، على الأقل بسبب عضويتهما في «حلف شمال الأطلسي»، لكن أنقرة تكاد تتصرف عكس ذلك، في كل مناسبة، كما يتضح من استعراض تاريخ العقدين الماضيين من العلاقة بين البلدين. 
يقول الخبراء الأميركيون إن واشنطن تقبل الاختلاف مع الحلفاء، مثل افتراق أميركا مع فرنسا والسعودية، مثلاً، إبان حرب العراق في 2003، ومثلهما فعلت تركيا، التي أقفلت قاعدة إنجرليك الجوية، في جنوب شرقي البلاد، بوجه القوات الأميركية التي كانت تستعد لغزو العراق.
لكن أن تقف تركيا، عند كل مفترق طرق، ضد أميركا ومصالحها، هو أمر يتعدّى الخلاف حول موضوع محدد أو نقطة عابرة. في 2009 و2010، وقفت تركيا بقوة ضد التحالف الديبلوماسي الذي كانت إدارة أوباما تسعى لتشكيله لفرض عقوبات اقتصادية على ايران، بسبب برنامج الأخيرة النووي. يومها، كانت تركيا عضواً غير دائم في مجلس الأمن، وعلى الرغم من محاولات المبعوثة الاميركية، في حينه، سوزان رايس، إقناع «الحليفة» أنقرة بمساندة واشنطن، إلا أن الأتراك وقفوا ضد أميركا، وإلى جانب إيران، بشكل تام.
وبعد أن فرضت أميركا، ومجموعة «خمسة زائد واحد» الدولية، عقوبات أممية قاسية على ايران، عبر قرارات صدرت عن مجلس الأمن، لعبت دائرة محيطة بأردوغان دوراً رئيسياً في تقويض العقوبات، إلى حد دفع بالسلطات الأميركية إلى اعتقال ومحاكمة رجل الأعمال الإيراني - التركي رضا ضراب. وفي وقت لاحق، أفرجت محكمة أميركية عن ضراب ووضعته تحت إقامة جبرية شرط تعاونه في التحقيقات التي تجريها واشنطن في تورط مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين في تقاضي أموال لوبي من أنقرة بلا التصريح عنها.
حاول أردوغان رمي ثقله لحمل واشنطن على الإفراج عن ضراب، لكن إدارتيْ أوباما وترامب ردتا بأن الأمر في عهدة القضاء، وأن لا قدرة لها على الإفراج عنه. وبعد انقلاب 2016 العسكري الفاشل ضد أردوغان، أضاف الرئيس التركي اسم الداعية الاسلامي المقيم في ولاية بنسلفانيا فتح الله غولن إلى لائحة من يطالب واشنطن بتسليمهم إلى بلاده، وكان الرد الأميركي نفسه: لا صلاحية للبيت الأبيض في التدخل بعمل القضاء.
ويبدو أن أردوغان اعتقد أنه يمكنه إقناع أميركا بإجراء مبادلة على غرار التي أجرتها إيران بإطلاقها الصحافي الإيراني - الأميركي جيسون راضيان مقابل سجناء إيرانيين في أميركا. هكذا اعتقلت تركيا عدداً من الأميركيين، يصل عددهم إلى 15، من بينهم عالم في وكالة «ناسا» للفضاء، فضلاً عن القس المسيحي اندرو برونسون، ومعهم ثلاثة أتراك من العاملين في السفارة الاميركية بأنقرة. 
لكن أميركا لم تتبادل معتقلين مع أنقرة، بل إن اعتقال تركيا، التي يحكمها حزب محسوب على تنظيم «الإخوان المسلمين»، رجل دين مسيحي، قدّم فرصة ذهبية لترامب لاستعراض شعبويته أمام قاعدته اليمينية المتطرفة، بإعلانه حرباً سياسية - اقتصادية على أنقرة.
وقد يكون أردوغان وجد في حرب سياسية مع أميركا فرصة سانحة له لإقناع الأتراك بأن مصائبهم الاقتصادية سببها قوى خارجية ومؤامرات، خصوصاً واشنطن، لا الأخطاء في السياسة الاقتصادية التي ارتكبها فريقه، وهي الأخطاء التي تشير إليها غالبية الخبراء الاقتصاديين. 
ويبدو أنه هذه المرة، لن تنحصر المواجهة بين أردوغان وأميركا في الإعلام، بل إن تصرفات الرئيس التركي خلقت جبهة واسعة ضده في واشنطن، وهي جبهة من الجمهوريين والديموقراطيين. هكذا، يوم كتب ترامب أنه حان وقت «تحجيم» تركيا، لم يعارضه الديموقراطيون، على عادتهم، بل وافقوه، وراحوا يبثون مظالمهم ضد تركيا، ويدعون للتخلي عنها كحليفة.
وكتب في هذا السياق الخبير في «مجلس العلاقات الخارجية» ستيفن كوك، وهو أقرب إلى الديموقراطيين، مقالة اعتبر فيها أن التحالف مع تركيا «أصبح من الماضي»، وأن التحالف ينتمي للحرب الباردة، وانه منذ نهاية هذه الحرب، وقفت تركيا ضد كل سياسات أميركا، وكان آخرها إغلاقها «إنجرليك» في وجه التحالف ضد «داعش»، حتى مرور سنة على بدء الحرب ضد هذا التنظيم في سورية والعراق.
المواجهة الحالية ليست بسبب شخصية رئيسيْ البلدين، وفقاً لكوك، الذي اعتبر أن سببها «عالم متغيّر لم تعد فيه واشنطن وأنقرة تشتركان في مواجهة الخطر نفسه». وأضاف كوك ان «أهمية تركيا تتراجع بالنسبة لواشنطن منذ فترة»، وأنه حتى أهمية «إنجرليك» تراجعت بسبب انتهاء الحرب على «داعش»، وأنه بسبب تقارب أنقرة مع موسكو، من غير المرجح أن تكون القاعدة العسكرية مهمة في حال اندلاع مواجهة كبرى بين أميركا وروسيا. وختم متسائلاً: «ماذا أيضاً يمكننا التحالف بشأنه مع تركيا؟»، ثم أجاب: «ليس الكثير».
وعبْر الإعلام الأميركي، أطل عدد من الخبراء الاقتصاديين الأميركيين للتعليق على أنباء قيام تحالف تركي - روسي - إيراني ضد أميركا. وقال أحد الباحثين: «فليهنأوا بهذا التحالف الذي يبلغ مجموع اقتصاداته 3 تريليون ونصف التريليون، وهذا بالكاد يوزاي حجم اقتصاد ألمانيا، ولا يزعج أميركا التي يبلغ حجم اقتصادها، الأكبر في العالم، 21 تريليون دولار».

أردوغان: لن يتمكّنوا من سحْق تركيا

أنقرة - الأناضول - قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن «هناك من يهدّدنا بالاقتصاد والعقوبات وأسعار الصرف والفائدة والتضخم، ونحن نقول لهم إننا كشفنا مؤامرتكم ونتحداكم». وفي كلمة له خلال المؤتمر العام السادس لحزبه الحاكم «العدالة والتنمية» في أنقرة، أمس، أكد أردوغان أن بلاده لن تخضع للضغوط الخارجية، مشيراً إلى أن وسائل الضغط الاقتصادي على بلاده لن تجدي نفعاً. وقال: «يستخدم خصوم تركيا، وسائل الضغط الاقتصادي ضد أنقرة، ولكن بلادنا لا تنوي تغيير نهجها ومسارها... لم ولن يتمكنوا من سحق تركيا».
وأضاف: «لم ولن نرضخ لأولئك الذين أسسوا نظام رخاء لأنفسهم من خلال استغلال العالم»، مشدداً على أنه «إذا وُجد الإيمان في النفوس تتوافر القدرة». وفي إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة من دون تسميتها، أكد أردوغان أن «تركيا لم ولن ترضخ لأولئك الذين يتظاهرون بأنهم شركاء استراتيجيون لها ويحاولون جعلها هدفاً استراتيجياً»، مضيفاً «لا نرى أي قوى فانية في هذا العالم قادرة على الوقوف أمام شجاعة وفطنة هذا الشعب الذي يسير نحو تحقيق أهدافه واضعاً الموت نصب عينيه».

الجمعة، 17 أغسطس 2018

قوة الاقتصاد الأميركي تمكّن واشنطن من الانقضاض على طهران

واشنطن: حسين عبد الحسين

قد لا يتذكر العالم أن القرار الأميركي بالحوار مع إيران لم يتخذه الرئيس السابق باراك أوباما، بل كان خيار سلفه جورج بوش، الذي كان – في سنتي ولايته الأخيرة – يغرق في عدد من الوحول التي جعلت الولايات المتحدة تبدو وكأنها الدولة الأضعف في العالم: من بركة الدماء الأميركية في الفلوجة، إلى «الركود الكبير» في نيويورك، إلى النمو الاقتصادي الخارق الذي كانت تحققه الصين. كلها دفعت بوش للتخلي، بصمت، عن شرط وقف إيران تخصيب اليورانيوم والانخراط في الحوار الذي كانت بدأته عواصم أوروبا الثلاث حليفة أميركا – أي لندن وباريس وبرلين – مع طهران.في نفس الفترة، أي في النصف الثاني من العقد الماضي، سجّل السعر العالمي للنفط أرقاما قياسية، فحققت إيران نموا اقتصاديا بواقع 270 في المائة، بين العامين 2005 و2011. ليبلغ اقتصادها ذروته ويبلغ حجمه592 مليار دولار. وكما إيران، كذلك روسيا، التي حقق اقتصادها، المدفوع بعائدات النفط، نموا باهرا، ليصل إلى 2تريليوني دولار في العام 2014. قبل أن يبدأ مسيرة انحداره القاسية، ويخسر نصف قيمته، ليصل إلى أكثر من تريليون دولار بقليل مع حلول العام 2016.
ومع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، تابع الأخير سياسة الحوار مع إيران، نوويا، التي كانت إدارة بوش بدأتها من قبله. وأضاف أوباما إلى الحوار مع الإيرانيين انحيازا كبيرا تجاه نظامهم، عززه اعتقاد الرئيس السابق أنه يمكن لواشنطن إعادة تحالفها مع طهران إلى العهد السابق لثورة 1979 الإيرانية. لكن أوباما كان مخطئا، فأفاد الإيرانيون من أموالهم التي تم الإفراج عن تجميدها، ولكنهم بدلا من استثمارها في اقتصادهم، راحوا ينفقونها على مغامراتهم الإقليمية في تمويلهم الميليشيات الموالية لهم، من طرطوس السورية شمالا إلى باب المندب اليمني جنوبا، في محاولة إقامة «الخليج الفارسي الأكبر»، الذي تحدث عنه وزير خارجيتهم جواد ظريف في مقالة له في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، قبل أعوام.
ومع استجداء أوباما للصداقة الإيرانية، وظهور أميركا بمظهر الضعيف، خالت إيران نفسها قوة عظمى، وراحت تتحرش بالملاحة في الخليج، وتعتقل بحارة أميركيين، وتجري تجارب على الصواريخ الباليستية، إلى أن وصل الرئيس دونالد ترمب إلى الرئاسة الأميركية. وقتها، أدرك ظريف، وهو من أبرع القارئين للمشهد السياسي الأميركي، أن وقت المزاح الأميركي قد انتهى، وأن ترمب يتحين تحرشا إيرانيا في الخليج ليأخذه ذريعة ويرسل إلى الجو القاذفات الاستراتيجية الأميركية المرعبة لتدك «الحرس الثوري الإيراني» ومواقعه، والبنية التحتية للبلاد، ومواقع النفط، والمنشآت الحيوية. هكذا، استكانت إيران، وانتهت فجأة تجاربها الصاروخية ومشاغباتها الخليجية، ولكنها استمرت في تمويل ميليشياتها الممتدة من اليمن، إلى العراق، فسوريا ولبنان.
نجح ظريف حتى الآن في تفادي الغضب العسكري الإيراني. لكن لذكاء الدبلوماسية الإيرانية حدود، إذ يمكنها تفادي مواجهة عسكرية مسلحة مباشرة مع الأميركيين، ولكن واشنطن 2018 أقوى بكثير اقتصاديا من واشنطن 2008، بالضبط كما هي طهران 2018 أضعف بكثير اقتصاديا من طهران 2008.
وبسبب الضعف الاقتصادي في دول مثل روسيا وإيران وتركيا، وبسبب قوة الاقتصاد الأميركي الذي دفع الاحتياطي الأميركي إلى رفع الفائدة على الودائع والسندات، راحت رؤوس الأموال تهرب من الدول النامية واقتصاداتها المتهاوية إلى واشنطن المتينة وفوائدها الآخذة في الارتفاع، وهو ما زاد الطين بلة بالنسبة لاقتصادات هذه الدول، إذ إن هروب رؤوس الأموال يؤدي لانهيار النقد الوطني، وهو ما يفاقم من الأزمة الاقتصادية.
في هذا السياق، انهار الريال الإيراني أمام الدولار من 43 ألفا للدولار الواحد نهاية العام الماضي إلى نحو 110 آلاف الأسبوع الماضي، في عملية انهيار اقتصادي يبدو أن لا قعر لها، وهي عملية دفعت آلاف الإيرانيين للتظاهر في الشارع في مشهد أعاد للأذهان المظاهرات المتواصلة في العامين 1977 و1978، وهي المظاهرات التي أدت للإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979.
قد يكون الرئيس ترمب محظوظا في فرضه عقوبات أحادية قد تثبت أنها أقوى وأكثر فاعلية من العقوبات الأممية، وقد يكون ترمب واعيا ومدركا أن الولايات المتحدة في موقع ممتاز لمواجهة إيران اقتصاديا، حتى لو فعل ذلك في غياب الإجماع بين العواصم الكبرى، وإن اقتضى الأمر فرضا لعقوبات أميركية أحادية على طهران.
ولأن الاقتصاد الأميركي يصادف أن يكون في أحسن حالاته، في وقت تعاني الاقتصادات العالمية الأخرى، تصبح واشنطن في موقع ممتاز لفرض مطالبها القاضية بتجميد البرنامج النووي الإيراني، وهو ما باشرت الولايات المتحدة في فعله على دفعتين، دخلت الدفعة الأولى منها حيز التنفيذ هذا الشهر، ومن المقرر أن تدخل الدفعة الثانية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني). كذلك تطالب واشنطن طهران بالعدول عن سلوكها العدواني في الإقليم ومشاغباتها ضد دول جوارها.
في ردود الفعل على العقوبات الأميركية، حاولت أوروبا الإيحاء وكأنها تعارض انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع إيران، وحاول الاتحاد الأوروبي إقناع الشركات الأوروبية بعدم الاذعان للعقوبات الأميركية، والبقاء في السوق الإيرانية، مع وعود أوروبية بدعم هذه الشركات. لكن الشركات الأوروبية تعي أن الاقتصاد الأميركي هو الأقوى في العالم اليوم، وأن لا مصلحة تجارية لها في اختيار إيران على أميركا، وعند ذاك راحت شركات أوروبا تنسحب الواحدة تلو الأخرى من إيران، من توتال الفرنسية إلى دايملر الألمانية.
وحدها الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، أصرّت على أن العقوبات الأميركية لا تعنيها، وقالت إنها ستواصل استيراد النفط الإيراني. لكن تصريحات الصين قد تكون من باب المناورة السياسية والتبجح فحسب، إذ إنها على الرغم من ضخامة اقتصادها، لا تزال الصين بعيدة عن تحويل عملتها إلى عملة دولية، ولا تزال بحاجة إلى الدولار كعملة عالمية.
وكانت الصين عانت من موجة هروب رؤوس أموال من مصارفها، نهاية العام 2016. وهي موجة هزّت الاقتصاد الصيني، وأسواق المال واستقرار اليوان، وأثبتت أن بكين لا تزال عاجزة عن الوقوف على قدميها بمعزل عن السوق العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.
وفي حادثة ثانية أظهرت ضعف الصين أمام أميركا، عانت شركة «زي تي إي» الصينية للاتصالات من الإفلاس، بسبب قيام الكونغرس بفرض عقوبات عليها لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي، وهو ما يعني أنه إن كانت واشنطن قادرة على فرض الانهيار على شركة صينية بمعاقبتها، فهي قادرة على إلحاق الأذى بأي شركة أو هيئة صينية أخرى تختار السوق الإيرانية على نظيرتها الأميركية.
أما روسيا وتركيا، وهما القوتان المتوسطيتان اللتان كانتا تهبان بين الحين والآخر لإنقاذ إيران من انهياراتها الاقتصادية المتكررة، فهما تعانيان من ضعف مشابه للضعف الإيراني، وإن أقل وطأة، مع انهيار في قيمة العملة أمام الدولار، وتباطؤ في نمو الناتج المحلي، وارتفاع في البطالة.
كل العوامل الاقتصادية العالمية تشير إلى أن أميركا في الوقت الحالي تقف في موقع مميز لفرض إرادتها الاقتصادية على حكومة إيران، ومحاولة إضعاف النظام الإيراني وفرض تغيير سلوكه في الإقليم، وربما الذهاب إلى حد السعي لانهياره بالكامل.
أما إيران، فخياراتها تتراوح بين التعاون الكامل مع أميركا، وهو ما من شأنه أن يقوّض أسس النظام الإيراني وهو خيار مستبعد في طهران، أو تختار إيران المواجهة بالصمود وانتظار أن تتغير إدارة ترمب وربما تتغير معها الظروف الاقتصادية العالمية لتعيد الأمور إلى ما كانت عليه في العام 2008: قوى عالمية تتمتع ببحبوحة اقتصادية وأميركا تترنح.
لكن المراهنة على التغيير في الاقتصاد العالمي قد يطول، وقد لا يحتمل الإيرانيون هذه المدة من الوقت، وهو الأمر الذي يبدو أن بوادره بدأت تلوح مع التزايد في وتيرة المظاهرات الإيرانية المعارضة للنظام، والمطالبة حتى بإسقاطه.
لم يقرأ شاه إيران السياسة الدولية ووضع الاقتصاد العالمي والإيراني جيدا في منتصف السبعينات، فأدت قراءته الخاطئة لانهياره، فهل يتكرر المشهد مع نظام الملالي؟ أم أنهم سينجحون في الصمود وانتظار زوال المحنة والمراهنة على المجهول؟

قواعد أميركا في الكويت وقطر بدل... «إنجرليك» التركية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

علمت «الراي» من مصادر أميركية رفيعة المستوى أن وزارة الدفاع «البنتاغون» لا تُمانِع التخلي عن قاعدة «إنجرليك» الجوية، جنوب شرقي تركيا، وأنها أكملت استعداداتها للخروج من القاعدة في حال طلبت أنقرة ذلك، على خلفية التوتر المتصاعد بين البلدين.
وأوضحت المصادر أن «الولايات المتحدة ستكتفي باستخدام قواعدها في الكويت وقطر لعمل قواتها الجوية في نطاق عمليات القوة الوسطى، كما يمكن للقوات الأميركية استدعاء الأسطول السادس المرابط في إيطاليا والبحر الأبيض المتوسط، والذي يعمل تحت إمرة القيادة الأوروبية، لتعزيز عدد مقاتلاتها، في حال دعت الحاجة». 
وأشارت إلى أنه «منذ القضاء شبه التام على تنظيم (داعش) في شمال غربي العراق وشمال شرقي سورية، قبل نحو سنة، انحسرت مشاركة المقاتلات الأميركية لمساندة مقاتلين في معارك على الأرض، وهو ما قلّص عدد طلعات المقاتلات المرابطة في قاعدة إنجرليك». 
وتركيا لم تفتح «إنجرليك» للأميركيين منذ بدء الحرب الدولية ضد «داعش» في صيف 2014، وهو ما أجبر المقاتلات الأميركية على الإقلاع من الكويت في مهام مساندة القوات الأرضية أثناء اندلاع المعارك بين قوات التحالف ومقاتلي التنظيم. لكن الوقت الذي يتطلبه وصول المقاتلات من الكويت يُقلّص من فاعلية القوات الأميركية، أو يضطر هذه المقاتلات إلى التحليق فوق مناطق المعارك لفترات طويلة حتى تكون مستعدة للتدخل فوراً عند الحاجة، علماً أن تحليق المقاتلات الأميركية في السماء العراقية والسورية عملية مكلفة مالياً، ومُنهِكة للطيارين.
وبعد مطالبات أميركية متكررة، فتحت تركيا أبواب «إنجرليك» أمام مقاتلات التحالف ضد «داعش»، وهو ما قلّص الوقت المطلوب لوصول المقاتلات إلى ساحة المعارك لتقديم الإسناد المطلوب إلى دقائق معدودة. 
وكانت المقاتلات الأميركية شاركت في عملية التصدي لهجوم شنته القوات المتحالفة مع الرئيس السوري بشار الأسد، وقتلت هذه المقاتلات قرابة 750 من المرتزقة الروس المشاركين في العملية، التي كانت تهدف لاختراق السيطرة الأميركية على شرق الفرات. 
من الناحية العسكرية، لاتزال «إنجرليك» ذات فائدة كبيرة للقوات الأميركية المنتشرة شرق الفرات في مناطق سورية وعراقية، وربما تعتقد أنقرة أنه في انتزاع هذه القاعدة من واشنطن، يُمكن إضعاف القوات الأميركية التي تقدم حماية للميليشيات الكردية السورية، التي تسعى تركيا إلى إضعافها، وربما القضاء عليها بالكامل.
لكن القيادة العسكرية الأميركية تعتقد أنها، على فائدتها الكبيرة، لا يمكن أن تتحول «إنجرليك» مادة لابتزاز واشنطن، وأنه يمكن للقوات الأميركية الاستعاضة عن هذه القاعدة الجوية باستخدام قواعدها الموجودة في الخليج.
وفي هذا السياق، أوضحت المصادر الأميركية أن الترتيب المذكور ينطبق على «الصراعات الباردة»، على شكل الحفاظ على الأراضي التي تنتشر فيها قوات أميركية في العراق وسورية «لمنع عودة داعش». لكن في حال تحول أي من هذه «الصراعات الباردة» إلى «صراع ساخن»، يمكن عندها إقحام حاملات الطائرات الأميركية، واستخدام عدد من القواعد الأخرى المتاحة لها في عموم المنطقة، للانخراط في أي مواجهة عسكرية.
يأتي ذلك فيما تُعاني العلاقات الأميركية - التركية من تدهور غير مسبوق على خلفية رفض واشنطن تسليم الداعية الإسلامي التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، ومعارضة أنقرة الإفراج عن القس الأميركي أندرو برونسون الذي تدّعي أنه كان يعمل لمصلحة «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إي). 
وساهم في تعميق الأزمة بين البلدين قيام واشنطن بفرض عقوبات على وزيريْن تركيَيْن، على خلفية تمسك أنقرة بسجن القس الاميركي، وإعلان الرئيس دونالد ترامب مضاعفة الرسوم الجمركية التي تفرضها واشنطن على وارداتها من المعادن من تركيا.
واستغل أردوغان العقوبات الأميركية وزيادة الرسوم الجمركية لتصوير الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها بلاده على أنها نتيجة «حرب أميركية» ضد تركيا. ومع تدهور العلاقة، لاح في الأفق حديث عن إمكانية مطالبة أنقرة واشنطن بوقف الأخيرة استخدامها لقاعدة إنجرليك.

«الإخوان» من منظور أميركي: جماعة فاشلة في الحكم لا فرقَ بينها وبين التنظيمات الأكثر تطرفاً

حسين عبدالحسين

«إذا كان الإخوان أضعف فإنهم لا يفيدون مصالح الولايات المتحدة في مصر، وأي قوة سياسية قد يخسرها الإخوان ستنتقل على الأرجح إلى الإسلاميين المتطرفين، الأقل تقبّلاً للولايات المتحدة، والثقافة الغربية، والعلاقات المصرية - الاسرائيلية». بهذه النتيجة تخلص دراسة سرية أجرتها «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية (سي آي إي) في سنة 1986، وتم الافراج عن معظم أجزائها في 2011 لمرور 25 سنة على صدورها، قبل أن تُنشر كاملة قبل أيام. 
وتعلّق المصادر الأميركية على الدراسة بالقول إن أجزاء واسعة منها لا تزال تنطبق على «تنظيم الاخوان المسلمين» في مصر والدول العربية، وإن أجزاء أخرى لم تعد صالحة بسبب التجارب السياسية والأحداث على مدى العقود الثلاثة الماضية.
وتقول المصادر إنه يوم أجريت تلك الدراسة، لم تكن لدى «تنظيم الإخوان» تجارب تذكر في الحكم، حتى التجربة الإيرانية كانت لا تزال فتية وإيران مشغولة في حربها مع العراق، «لكن اليوم، صار أمام المسلمين تجارب حكم إسلامي متعددة، بعضها متطرف والآخر أكثر اعتدالاً».
وتضيف: «من دولة طالبان وبن لادن الاسلامية المتطرفة في أفغانستان، إلى جمهورية إيران الإسلامية الديكتاتورية، فالتجربة التركية المهزوزة، وكارثة حكم حماس في غزة، والفترة القصيرة التي قضاها الإخوان في حكم مصر، كلها تجارب كارثية، لم تقدم للمسلمين أي حلول لمشاكلهم، بل زادت في تعقيدها، وعمّقت من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية».
وتعتبر المصادر الأميركية أنه يمكن استخلاص بعض الملاحظات حول حكم الإسلاميين وتجاربهم المختلفة على مدى العقود الثلاثة الماضية، أولها أنهم ليسوا أكثر نزاهة من الحكومات القائمة. ويضرب المسؤولون الاميركيون المثال بحكومة «حماس» في غزة، ويقولون إنها أثبتت أنها ليست من العقائدية بشيء، وأنها لا تمانع الاستغلال السياسي والتقلب بسرعة حسب مصالحها.
ويضيفون ان «حماس» أيّدت معارضي الرئيس السوري بشار الأسد بعد اندلاع الثورة السورية في 2011، ثم ما لبثت قيادة الحركة أن تراجعت عن موقفها وانقلبت عليه، وأعادت علاقاتها مع الأسد وإيران. 
وكما في غزة، كذلك في مصر، لم يلتزم «الإخوان» بالعقائدية، بل سارعوا للتواصل مع واشنطن أثناء تبوأهم الحكم في مصر، ولعبوا دوراً أساسياً في الوساطة بين إسرائيل و«حماس» أثناء اندلاع الحرب في غزة. كما حاولت حكومة «الإخوان» وفريق الرئيس المعزول محمد مرسي إقامة علاقة مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما من دون الجيش المصري، والأخير هو عماد العلاقة الأميركية - المصرية على مدى العقود الماضية. وقبل أن يتم لقاء القمة الذي جرى الإعلان عنه بين أوباما ومرسي، تراجعت واشنطن، وبعدها سقط مرسي ومعه حكم «الإخوان».
و«الواقعية السياسية» البعيدة عن العقائدية واضحة في سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. 
وفي هذا السياق، تقول المصادر الاميركية انه على الرغم من «إسلامية» أردوغان وإصداره تصريحات متواصلة ضد إسرائيل، إلا أن أنقرة حافظت على علاقات جيدة بالإسرائيليين، بما في ذلك تبادل استخباراتي رفيع المستوى، وشراء طائرات إسرائيلية من دون طيار.
في الحُكم، لم يقدم «الإخوان» أداء أفضل من الحكومات غير الاسلامية، فعيّنوا أقاربهم في الحكم، وأثروا إثراء غير مشروع، فيما تدهورت موازنة الحكومات التي أداروها، ووظفوا خطاباً شبيهاً بخطاب غير الإسلاميين، لناحية محاولة إلقاء اللوم على قوى خارجية مزعومة لتبرير فشلهم، حسب المصادر الأميركية.
هل لا تزال الولايات المتحدة ترى أن «الإخوان» أفضل لمصالحها من الفصائل الإسلامية الأكثر تطرفاً؟ تجيب المصادر الأميركية أن الادارات الأميركية المتعاقبة على مدى العقدين الماضيين، لم تعد ترى إيجابيات تُذكر في مقارنة «الإخوان» بالفصائل الأكثر تطرفاً.
وتشير إلى جزء من دراسة سنة 1986 ورد فيها أن من تأثير «الإخوان» على مصر هي الأسلمة التي شهدتها البلاد. وتفيد دراسة «سي آي إي» أن علامات «انحراف» مصر تجاه «الإسلام المحافظ» يمكن ملاحظتها في قيام طالبات في «الجامعة الأميركية في القاهرة» بارتداء الحجاب، وإطلاق الطلاب لحاهم، وارتدائهم «الجلابية» كرمز للتدين. وتضيف ان الزي بشكل عام أصبح «محافظاً» أكثر بين أفراد الطبقة المتوسطة والعليا، وأن عدداً لا بأس به من الصفوف في الجامعة تم فصلها بين الجنسين. 
وتلفت الدراسة أيضاً إلى أن عدداً من المؤسسات التعليمية والشركات والمكاتب باتت تتوقف عن العمل وقت الأذان، فيما انخفضت نسبة احتساء الكحول علناً، وألغت الحكومة بث مسلسل «دالاس» الاميركي، رغم شعبيته، أثناء شهر رمضان، على اعتبار أن المسلسل مسيء للمبادئ الاسلامية.
اتجاه مصر ودول عربية وإسلامية نحو الأسلمة ليس مشكلة في ذاته، ولكنه «يجعل الأرض أكثر خصوبة للتنظيمات الاسلامية المتطرفة لتجنيد مقاتلين ومؤيدين لها بين السكان»، وفقاً للمصادر الاميركية، وهو السبب الذي دفع الإدارات الأميركية المتعاقبة، بالتنسيق مع حكومات بعض الدول العربية والإسلامية، إلى إعادة تنقيح بعض البرامج التعليمية والإذاعية، وإلى دفع الخطاب الاسلامي نحو الاعتدال السابق لانتشار خطاب «تنظيم الاخوان المسلمين» والتنظيمات المنشقة عنه، أو الإسلامية المتطرفة المنافسة له.
تقول المصادر الاميركية إن هجمات 11 سبتمبر 2001 غيّرت كثيراً في الرؤية الاميركية تجاه التنظيمات الاسلامية حول العالم وكيفية التعامل معها، فعلى عكس سنة 1986، لم يعد «الإخوان» تنظيماً محلياً في مصر، بل صار منظومة حكم بأشكال مختلفة في دول متعددة، وراح بعضها يهدد وجود بعض الدول الإسلامية نفسها، وأحيانا يتمدد هذا الخطر ليطول مصالح الولايات المتحدة، حول العالم وفي القارة الاميركية نفسها. 
وتختم المصادر: «لكن كغيره من أنظمة الحكم، تتراجع هالة التنظيم كلّما تقدم الزمن، ولا يعود الحكم الاسلامي طموحاً مثالياً وجميلاً، بل يُصبح تجربة واقعية ومريرة».

الاقتصاد اللبناني يستمر في التهاوي إذا لم يشعر اللبنانيون بالقلق تجاه الأزمة الاقتصادية الراهنة

حسين عبدالحسين

قال نائب رئيس البنك الدولي “فريد بلحاج”، “إن الاقتصاد اللبناني يعاني من “الهشاشة”، وهو البيان الذي زعزع أي ثقة لدى اللبنانيون في اقتصادهم. (ولاحقًا سيتم مناقشة هذا الأمر بالتفصيل). وأشار “بلحاج” إلى أنه، وبالرغم من كل هذا، فلا خوف على الاقتصاد اللبناني، وأضاف بأن لبنان كانت تسر ضد التيار، وأنه “سيأتي اليوم الذي تدرك فيه لبنان ان المقصود بذلك هو الدًين، أو بالأحرى، الدين الذي لا يمكن السيطرة عليه. ورغم المناشدات الأخيرة التي أطلقها البنك الدولي، فمن الواضح أن اللبنانيين لا يمتلكون الرغبة في إصلاح اقتصادهم دون الاعتماد على الأموال المقترضة.

وتبدأ تلك القصة في فترة ما في منتصف القرن الماضي، غير أن تكرار الأزمة اللبنانية الدائمة في الآونة الأخيرة كان بسبب محاولة البنك الدولي تدعيم الاقتصاد بإصدار تعليماته إلى البنوك [عقب اندلاع الحرب السورية في العام 2011، والتباطؤ الاقتصادي الحاد] بتقديم قروض بأـسعار فائدة منخفضة لكل من يشتري منزل لأول مرة. وكما هو متوقع، أدى هذا الأمر إلى تضخم في أسعار العقارات. ومن ثم، وبضغط من البنك الدولي، أنهت بيروت سياسة الفائدة المنخفضة، مما أدى الأسبوع الماضي إلى زيادة التضخم. ويشهد سوق العقارات حاليًا – والاقتصاد بوجه عام – حالة من الركود، ومع الانخفاض الشديد على الطلب، أوقف المقاولون خطط الأعمال الخاصة بهم، وانخفضت طلبات الحصول على تصاريح البناء الجديدة بنسبة “18%” في النصف الأول من العام 2018 وفقًا لدائرة الأبحاث الاقتصادية في بنك “بيبلوس”.

ومع تهاوى قطاع العقارات، لم يبقى أمام الاقتصاد اللبناني سوى مصدرين أساسيين من مصادر الدخل وهما التحويلات المالية والسياحة، ورغم أنهما قطاعان يساهمان في إجمالي الدخل المحلي إلا أن أداؤهما كان أيضًا أقل من المتوقع.

وأشار بنك “بيبلوس” إلى أن تدفقات التحويلات المالية انخفضت بنسبة “7%” في العام 2017 مسجلة “7,1” مليار دولار أمريكي أي ما يعادل “13%” من إجمالي الناتج المحلي، وفي العام 2014، شكلت التحويلات المالية “27%” من إجمالي الناتج المحلي في لبنان.

وفي تلك الأثناء، ورغم كل هذا، نمى القطاع السياحي بنسبة “10%” في العام 2017، وهي نسبة لم تتجاوز معدلات النمو في السنوات السابقة التي شهدتها البلاد مثل الفترة التي شهدت ذروة أعداد السائحين في العام 2005.

أضف إلى ذلك، أصبح القطاع السياحي يعتمد الآن على قاعدة أصغر من السائحين، حيث أدى تدهور البنية التحتية والتلوث البيئي في لبنان إلى استياء الزائرون الأجانب، وفي هذا إشارة إلى أن السائحين القادمين الى لبنان كانوا في الغالب من العمالة الوافدة الى لبنان، وبمعنى آخر، لم تجني الدولة أرباح طائلة من صرف العملات الأجنبية.

الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

قصة الحجر الأسود

بقلم حسين عبد الحسين

يقف في الأسبوعين المقبلين مليونا زائر أمام الحجر الأسود، في الركن الجنوبي الشرقي للكعبة، في مدينة مكة السعودية، للبدء بالطواف كجزء من شعائر الحج السنوية، وسيحاولون تقبيل الحجر للتبرك به، أو توجيه التحية له عن بعد، إن لم يتسن لهم الاقتراب منه.

وأن يقوم الدين الداعي للتخلي عن عبادة الأصنام والحجارة إلى إجلال حجر هو أمر مربك. ويزيد في الإرباك التبريرات الإسلامية غير المقنعة، المستقاة في غالبها من أحاديث منسوبة إلى من هم أصحاب سند ضعيف.

يمكن تلخيص التفسير الإسلامي بالقول إن الرسول وصف الحجر بأنه من حجارة الجنة، وتم إرساله إلى إبراهيم، الذي ثبته في مكانه. وفي بعض الأقوال إنه سيكون للحجر عيون وفم يوم القيامة، وإنه سيشهد شفاعة لمن قبله. وفي الأحاديث أيضا أن الحجر نزل من الجنة أبيض، لكن خطايا الناس سودته.

كما ينقل التقليد الإسلامي أن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (634 ـ 644 ميلادية) توجه للحجر بالقول: "إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر، وإنك لا تضر ولا تنفع. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك". مع حديث عمر، يصبح إجلال الحجر الأسود بمثابة تقليد متوارث عن الرسول، وهو تقليد تبناه أقرب الصحابة، مثل عمر، من دون أن يفهموا سببه.

اقرأ للكاتب أيضا: قصتي مع اسمي الشيعي

لكن الحجر الأسود، الذي قد يبدو أحجية منحدرة من زمن عرب قبل الإسلام (الحج تقليد سابق للإسلام)، ليس من الأحجية بشيء، بل إنه يمكن كتابة تاريخه بالاستناد إلى عدد من المصادر المشرقية والرومانية السابقة للمسيحية والإسلام.

أقدم المصادر منسوب إلى الفينيقي فيلو، من جبيل اللبنانية، والذي كتب بالإغريقية في القرن الميلادي الأول، نقلا عن أعمال فينيقية أقدم كتبها سكون عطا. في وصفه لبدء الخليقة، نقل فيلو رواية فينيقية مفادها أنه في البدء كانت العناصر الأساسية الأربعة ـ الريح والماء والتراب والنار ـ وأن الريح اشتهت الماء ودفعتها، فامتزجت بالتراب وأنتجت وحلا، فطالته النار، فكان حجرا يسبح في الفضاء، ويرى ويسمع، فراكم حكمة، وصار اسمه الإله صافون، أي صوفيا بالإغريقية، آلهة الحكمة.

واللافت أن من معاني صفات أو صفاء أو صفا (مشتقات صافون) بالعربية هي الحجر، وقد تكون كلمة صوفية، مذهب المتصوفين، منحدرة من اسم هذا الإله الأول. وفي تقاليد الصوفيين أن الطالب يرتدي رداء أبيض، وفوقه عباءة سوداء، وهو ما يشبه الحجر الأسود المكي. حتى "عباءة الرسول"، المعروفة بـ"البردة" والتي يفترض أنها محفوظة في تركيا، هي سوداء من الخارج وبيضاء من الداخل.

والأسود هو لون الخلود، فيما الأبيض هو لون دورة الحياة المبنية على الموت والقيامة من الموت.

في عقل الأقدمين، بدأت الحياة الأولى بحجر أسود، وهو حجر الأساس لكل الخليقة، وهو الذي اتجه إليه المؤمنون في عبادتهم. من طوائف الحجر الأسود من تركت خلفها بعض الآثار، مثل صورة معبد "ايلا غبالوس" المنقوشة على نقد يورانيوس انطونيوس، وهو معبد كان في مدينة حمص السورية، ولم يبق منه أثر. والإله غبالوس كان يتمتع بشعبية حتى أسبغ اسمه على أحد أباطرة الرومان بعد موته، وهو الإمبراطور ماركوس أوريلوس (218 ـ 222 ميلادية). ويعتقد المؤرخ فيرغوس ميلار أن اسم "ايلا غبالوس" يعني "إله الجبل"، وهو ما لا يبدو صحيحا، والأغلب أن الأحرف "غ ب ل" تتطابق مع كلمة "قبال" أو "قبلة"، أي المركز الذي يتوجه إليه المؤمنون في صلواتهم وعباداتهم.

مذهب الحجر الأسود هذا يبدو أنه كان منتشرا في مناطق واسعة تمتد من تركيا، إلى سورية ولبنان والأردن، والأرجح في الحجاز حتى مكة. ويلفت ميلار إلى أنه تم العثور على نقوشات مكتوب عليها اسم الإله غبالوس في ضواحي تدمر. وفي السياق نفسه، يمكن الإشارة إلى أن بعض البلدات السورية التي لا تزال تحمل اسم هذا الإله، مثل الحجر الأسود، ضاحية دمشق، ويمكن أن بعض البلدات الأخرى حملت أسماء مشتقة من "قبلة"، مثل جبلة السورية وجبيل اللبنانية.

أما الحجارة السوداء، كحجارة نيزكية متساقطة من السماء، فلم يتبق منها في أماكن العبادة إلا في مكة، وفي اسطنبول التركية. وحسب بعض الروايات، فإن الحجر الأسود المكي يتألف من ثماني قطع، فيما ست قطع من الحجر الأسود نفسه موجودة في تركيا.

والرقم ثمانية هو رمز الحياة بعد القيامة، مثل في الأضلاع الثمانية لمبنيي قبة الصخرة وكنيسة الصعود في القدس. أما الرقم ستة، فهو يرمز إلى كل من يحمل صفة "رسول"، وهو رمز مستوحى من الدورة الكاملة لكوكب المشتري، الذي يسير بين نجمتي الصباح والمساء وكأنه رسول بينهما.

اقرأ للكاتب أيضا: 'داعش' الأسد

القطع في تركيا موجودة في مسجد محمد صوكولو، وهو شخصية خيالية في الغالب يفترض أنه كان زوج إحدى حفيدات السلطان سليمان الأول (1520 ـ 1566 ميلادية)، الذي تم نقل واحدة من الحجرات الست إلى مقام قبره، وأخرى إلى الجامع الأزرق.

هكذا استخدم الأتراك الأحجار السود بمثابة طواطم مانحة للشرعية الدينية للحكم، فيما الأرجح أن هذه الحجارة، وغيرها نيزكية سوداء كثيرة، كانت منتشرة في عدد من المعابد منذ زمن سحيق كرمز للإله الأول، قبل أن تتم إعادة تعريف تاريخها، وتحويلها من رمز لدين الإله صافون أو صوفيا، الحجر الأساس للخليقة، إلى حجر من الجنة، وهو حجر لا سبب واضح للتبرك به، غير التقليد بلا تشكيك، على ما فعل الخليفة عمر.

السبت، 11 أغسطس 2018

هل تُعوِّل واشنطن على تكرار «إيران 1979» في 2019؟

واشنطن - من حسين عبدالحسين

وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف هو واحد من المسؤولين القلائل حول العالم ممن يفهمون المشهد السياسي الأميركي المعقد، وممن يعرفون كيف تتم صناعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. حنكة ظريف هذه بدت آثارها واضحة في الهدوء الإيراني غير المسبوق في الاقليم، وتفادي طهران الاستفزازات بوقفها تجاربها الصاروخية، وإنهاء تحرشها بالسفن الأميركية وبحارتها في الخليج.
وظريف يعلم أن واشنطن تبحث عن عُذر - على شكل تحرش ما في الخليج - لتبرير شنها ضربة جوية قاسية تؤدي إلى تدمير البنية التحتية للقوات الأمنية للنظام الإيراني، وربما تدمير المنشآت الحيوية مثل محطات إنتاج الكهرباء، وقطاع النفط، والجسور. لذا، يبدو أن إيران استكانت.
على أن حنكة ظريف، التي نجحت حتى الآن في تفادي مواجهة إيرانية - أميركية عسكرية، لا تكفي لإبعاد شبح الانهيار الاقتصادي الذي يطارد الجمهورية الإسلامية ، وربما يتهدد بقاء النظام الايراني برمته.
وعلى غرار الدول المعادية للولايات المتحدة حول العالم، يبدو أن إيران تعتقد أنه يمكنها استيعاب العقوبات الاقتصادية الأميركية باعتمادها على القوى الاقتصادية البديلة، خصوصاً الاتحاد الأوروبي والصين، وإلى حد ما تركيا وبعض دول جوار إيران في الاقليم.
ويوم أرادت الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية على إيران لاجبارها على وقف برنامجها النووي، مع نهاية ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الابن وبداية ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، كانت أسعار النفط العالمية تسجل أرقاماً قياسية، وكانت عائدات الدول النفطية - وفي طليعتها إيران وروسيا - تكفي لمواجهة أي عقوبات أميركية أحادية، خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية كانت تعيشها واشنطن وتضطرها إلى خفض الفائدة وزيادة تبادلاتها التجارية حول العالم.
لكن الصورة الاقتصادية العالمية انقلبت بين 2008 واليوم. إيران وروسيا تعانيان من انخفاض أسعار النفط وعجز في موازنتيهما وانهيار في قيمة عملتيهما الوطنيتين، والاتحاد الأوروبي يعاني من نسب نمو اقتصادي منخفضة. أما الصين، فهي بدورها تعاني من تراجع في النمو، فضلاً عن اهتزاز في عملتها الوطنية بسبب هرب رؤوس الاموال. ومثل الصين، تعاني تركيا من تراجع في قيمة عملتها وتضخم في الاقتصاد.
وعلى عادة الدورات الاقتصادية العالمية، يعيش الاقتصادي الأميركي فترة من البحبوحة والنمو، ما يزيد في أزمة اقتصادات عدد كبير من الدول حول العالم، فرؤوس الأموال تغادر أميركا أثناء الأزمات التي تضطر «الاحتياطي الفيديرالي» إلى خفض الفائدة. وتبحث رؤوس الأموال هذه عن الربح في دول العالم مثل تركيا. أما عندما يعود الاقتصاد الأميركي الى عافيته، يعود «الاحتياطي الفيديرالي» إلى رفع الفائدة للجم التضخم، فتبدأ رؤوس الأموال بمغادرة تركيا والصين وغيرها والاتجاه إلى الولايات المتحدة، فتنعش أميركا وتعاني بعض الحكومات حول العالم. 
قوة الاقتصاد الأميركي اليوم تسمح لواشنطن بالتصرف بشكل أحادي، وهي السياسة التي تنتهجها إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد إيران، وهو ما أدى إلى زعزعة الاقتصاد الإيراني مع دخول الدفعة الأولى من العقوبات حيز التنفيذ الثلاثاء الماضي، في انتظار الدفعة الثانية المقررة في نوفمبر المقبل.
الشركات الأوروبية الكبيرة، مثل «توتال» الفرنسية و«دايملر» الألمانية، أعلنت انسحابها من السوق الإيرانية، فيما لا مقدرة للشركات البديلة، الأوروبية أو الروسية أو الصينية، على ملء الفراغ الذي ستتركه هذه الشركات في السوق الايرانية. 
وحدها الصين أعلنت أنها لن تكترث للعقوبات الاميركية على إيران، وانها ستستمر في استيراد النفط من طهران. لكنها تصريحات قد لا تلتزمها بكين. وتشير مصادر اميركية الى الإفلاس الذي أصاب شركة الاتصالات الصينية العملاقة «زي تي اي» بسبب عقوبات كان فرضها الكونغرس، بداعي شؤون تتعلق بالأمن القومي. 
وتقول المصادر الأميركية إن الصين لا مناعة لديها أمام حجب الدولار الاميركي عنها، وإن شركاتها ستعاني في حال انخراطها في مواجهة مع العقوبات الاميركية. وتضيف: «يمكن لهذه الشركات الحفاظ على السوق الصينية وبعض الأسواق غير الاميركية، لكن هذا يعني سوقاً أصغر بكثير من السوق العالمية التي تعتبر الدولار نقدها المتداول عبر الحدود». 
المصادر الأميركية تُعرب عن ثقتها بأن العقوبات الأحادية على ايران ستأتي ثمارها، وتشير الى أن التظاهرات التي تحولت إلى مشهد متواصل في إيران تؤكد فاعلية الاجراءات الاميركية لـ«إجبار طهران على تغيير تصرفاتها». 
وتختم المصادر بالقول: «إننا ربما نشهد تكراراً لسنة 1977 أو 1978، وهي التظاهرات التي أدت كثافتها الى انهيار حكومة الشاه محمد رضا بهلوي في سنة 1979». فهل يتكرر في إيران سنة 2019 ما حدث قبل أربعين سنة، أي في 1979؟.

الثلاثاء، 7 أغسطس 2018

قصتي مع اسمي الشيعي

حسين عبد الحسين

كان جد أبي ابن بيئته البغدادية، فأطلق أسماء كانت رائجة في زمانه على أولاده الأربعة من زوجتين، الأكبر، وهو جدي، أسماه عبدالحسين، وأسمى أخيه عبدالصاحب. ومن زوجته الثانية، أنجب صبيين، أسمى الأول عبدالرسول والثاني عبدالجواد.

إضافة اسم عبد في مطلع الاسم تقليد مستقى من حديث منسوب إلى رسول المسلمين مفاده أن أفضل الأسماء ما حمّد وعبّد، فراحت غالبية العراقيين الشيعة تضيف اسمي محمد وعبد إلى أسماء أبنائها، فكان محمد علي (وهو اسم جد أبي) ومحمد حسين، أو عبد علي وعبد حسين.

شمل جد أبي ولديه من زواجه الثاني برعاية أكبر، وأنفق على تعليميهما. ولانخراطهما في النخبة الأكاديمية في زمن كانت حكومات الشرق الأوسط وشعوبه تتسابق نحو العلمانية، استبدل عبدالرسول اسمه بوصفي، وصار الدكتور وصفي محمد علي "خبير خبراء الطب العدلي" في العراق، وصاحب مؤلفات تحولت إلى مراجع ما تزال أساس المنهج التعليمي لهذا العلم. أما عبدالجواد، فأسقط عبد عن اسمه ومحمد عن اسم ابيه، فصار الدكتور جواد علي، مؤلف موسوعة "تاريخ العرب قبل الإسلام"، و"تاريخ الصلاة"، و"تاريخ الإمام الشيعي الثاني عشر"، وتحولت أعماله إلى مراجع تاريخية ما تزال أساسية حتى اليوم.

أما عبدالحسين، جدي، ابن الزوجة الأولى، فلم تشمله رعاية أبيه ولا سخائه، وهو بالكاد أنهى دراسته الابتدائية، قبل أن يتدرج في التجارة، ويصبح من أكبر تجار بغداد. لكن التجار، على عكس الأكاديميين، تأخروا في لحاقهم بالحداثة، فحافظ جدي على اسمه، بل حمل اسما تجاريا هو "الحجي (الحاج) عبدالحسين".

اقرأ للكاتب أيضا: 'داعش' الأسد

ولأن البعثيين حرصوا على إسقاط "اللقب"، أي اسم العائلة أو العشيرة، عن معظم الوثائق الشخصية الرسمية، فيما زعموا أنها محاولة لإلغاء العشائرية والمحاباة في الدولة، صار كل عراقي يحمل اسما ثلاثيا هو اسمه واسم أبيه وجده. ولأني كبير إخوتي، حملت اسم جدي حسب تقليد تسمية الابن باسم الجد، لكن أبي أسقط "عبد" عن اسمي، فصرت حسين عبدالحسين، وهو اسم ما أزال أحمله وأفتخر به.

على أن نشأتي كانت في رأس بيروت، وهو جزء من العاصمة اللبنانية يحتضن مدارس وكليات الإرساليات الأميركية، التي زرعت في محيطها وثقفت طلابها، وأنا منهم، مبادئ التنوير الأوروبي، خصوصا الحرية الفردية، والمساواة بغض النظر عن الدين أو العرق أو المذهب.

هكذا، حملت في بيئتي البيروتية اللادينية اسمي المنحدر من بيئة جدي البغدادية الشيعية، ففي رأس بيروت ـ التي لا تمانع التنوع، والتي لا تهتم لأصل المرء، بل تهتم لتفكيره وأقواله ومصداقيته ـ لم يؤثر اسمي فيما أعتقده أو أقوله.

لكن العالم العربي أوسع من رأس بيروت، وأكثر عصبية ومذهبية وغرائزية. ومع انخراطي في عالم التعليق السياسي وكتابة الرأي، غالبا ما شغل اسمي القراء أكثر من كتاباتي.

المسلمون السنة يعتقدون أن اسم عبدالحسين هو كفر، إذ لا يجوز أن يكون المرء عبدا إلا لله. ولأن كتاباتي أكثر مساندة للعرب ذوي الغالبية السنية منها لإيران ذات الغالبية الشيعية، أعجبت آرائي القراء السنة، لكن أزعجهم اسمي، فراح عدد كبير منهم يتواصل معي لحثي على التخلي عن اسم عبدالحسين. وأحيانا، يحصل أن لا يقرأ السنة مقالي، الذي قد يتوافق في الغالب ورأيهم عن مشكلة "الجمهورية الإسلامية" وميليشياتها، فيبادرون إلى الشتيمة فورا، ويعلقون بالقول إنهم لا يتوقعون الخير من "رافضي يحمل هذا الاسم".

والعكس عند الشيعة. يقرأون الاسم، فيفرحون أن واحدا منهم في عداد كتاب الرأي، حتى لو كان رأيي في الغالب على عكس ما يتمنون. أما الشيعة ممن يقرأون، فيشككون أني شخص حقيقي، ويصرون أني "ناصبي" أكتب تحت اسم مستعار.

في دنيا العرب، أعاني من الحكم المسبق لدى الغالبية ممن يقرأون اسمي فيستنتجون آرائي مسبقا من دون قراءتها. أما من يتكلفون عناء قراءة المقال من السنة، فهم غالبا ما يشيدون بكتاباتي بوصفي "شيعيا عربيا أصيلا" أو "شيعيا آدميا" أو "وطنيا". ومن يتكلف عناء القراءة من الشيعة، يسبغ عليّ أوصاف "خائن" و"صهيوني" وغيرها، وكأنه مستحيل على الفرد أن يستبط آراءه باستقلالية عن مذهبه.

اقرأ للكاتب أيضا: قضاء عربي ولا عدالة

لا نقاش في دنيا العرب ولا آراء، بل مواقف معلبة مسبقا يحملها أصحابها من محيطهم، ويخوضون معارك صراخ وشتيمة بموجبها مع الآخرين، في معركة قبلية هي من مخلفات "داحس والغبراء" وأساطير الثأر التي يزخر بها التراث العربي.

ربما يتجاهل العرب واحدا من أجمل أبيات الشعر المنسوب إلى ابن الوردي والقائل "لا تقل أصلي وفصلي إنما أصل الفتى ما قد حصل"، ويصرون على قبليتهم في النقاش والآراء بشكل يلغي الفرد والتفكير الفردي، ويكرس الجماعة ورأيها القبلي، أو على حد قول أحد المعلقين الشيعة على مقالة لي: "أعد لنا اسمنا واكتب ما تريد".