جريدة الراي
دأبت الأوساط المعنية بالشأن الإيراني في العاصمة الأميركية، على محاولة فهم مغزى مواصلة قاذفات «بي 52» الأميركية فوق الخليج، في ثالث طلعة لها في أقل من شهر وفي أولى طلعاتها في عهد الرئيس جو بايدن.
في زمن الرئيس السابق دونالد ترامب، كان بعض المراقبين يفسرون الطلعات الأميركية على أنها تهديدات لإيران، تصل حد التهور أحياناً، من قبل رئيس يغرق في أزماته السياسية والشعبية. لكن مع بايدن، اتخذت الطلعات التهديدية تفسيرات مغايرة، إذ إن الرئيس الأميركي مازال في بداية عهده، ولا يعاني من أزمات سياسية أو شعبية، ولا هو بحاجة للتلويح بحروب خارجية لتحسين صورته وشعبيته.
الإجابة الأكثر إقناعاً في الأوساط الأميركية، أن المؤسسة العسكرية والوكالات الاستخباراتية والأمنية تعمل باستقلالية عن السلطة السياسية، وتواصل استعداداتها، من دون الطلب إليها، بهدف ابقاء الخيارات العسكرية التي قد يحتاجها الرئيس متوافرة، أو على ما دأب الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في ترداده في الموضوع النووي الإيراني أن «كل الخيارات الأميركية على الطاولة».
ويضرب العارفون بشؤون واشنطن مثال قيام الولايات المتحدة باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ويقولون إن أميركا تراقب وتتعقب عدداً من الشخصيات المعادية، الإيرانية وغير الإيرانية، بشكل متواصل، ولكنها لم تقم بتصفية سليماني إلا يوم قدمت الخيار لدونالد ترامب، وقام الرئيس السابق بطلب تنفيذ هذا الخيار.
في الأوساط العسكرية والأمنية، تشكل حيازة إيران سلاحاً نووياً «خطراً داهماً» على الأمن القومي داخل الولايات المتحدة، كما حول العالم، وهو ما يجبر القيادة الأمنية على مراقبة البرنامج الإيراني على مدار الساعة، ومواصلة تحديث الخطط الممكنة لنسف البرنامج بأكمله إن تبين أن طهران تقترب من إنتاج أو تجربة سلاح.
السلطة الأمنية الأميركية لا تقرر تنفيذ عملية النسف، لكن وظيفتها تقديم المعلومات للسلطة السياسية، وتنفيذ أوامر هذه السلطة - أي الرئيس - إن صدرت الأوامر بذلك.
يشير متابعو الشأن الأميركي الى حادثة مشابهة في الماضي القريب... بعد أن قام تنظيم «داعش» بالسيطرة على الموصل العراقية في صيف 2014، وبعد أن بدا أنه كان في طريقه لاجتياح بغداد وأربيل، أبلغ الرئيس السابق باراك أوباما فريقه أن دور الولايات المتحدة سيقتصر على تقديم الدعم اللازم للسماح لحكومتي العراق وكردستان الحليفتين، بالتصدي للتنظيم والقضاء عليه.
لكن رئيس الأركان وقتذاك، الجنرال مارتن ديمبسي، تعقب اماكن تواجد أوباما، الذي كان يلقي كلمة أمام قمة زعماء الدول الأفريقية في مبنى وزارة الخارجية في واشنطن. انتظر ديمبسي في المرآب تحت الأرض، وعندما أطل أوباما، حياه وتسلل الى الليموزين الرئاسية. في المسافة القصيرة التي تفصل الوزارة عن البيت الأبيض، والتي لا تتعدى دقائق قليلة، أقنع ديمبسي أوباما أن الوضع في العراق كان خطيرا، وأن على الجيش الأميركي التدخل الفوري، اولا عن طريق المقاتلات.
لم يكد ديمبسي يترجل من السيارة الرئاسية لدى وصولها البيت الأبيض، ويخرج من الباب الخلفي خفية عن أعين الصحافيين، حتى شنت مقاتلات «أف - 16» الأميركية المنتشرة في الخليج أولى ضرباتها ضد مواقع «داعش»، وبدأت عملية دعم جوي مكثف لمقاتلي القوات الحكومية العراقية و«البيشمركة» الكردية لوقف زحف التنظيم ودفعه للتراجع.
بعد بدء الحملة الجوية ضد «داعش»، باشر الرئيس الأميركي وفريقه بحملة ديبلوماسية لتشكيل تحالف دولي انخرط في حرب أدت الى تحرير كل الأراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم الإرهابي، وكادت أن تقضي على التنظيم بأكمله في العراق وسورية، وأرسلت قادته وكوادره الى التخفي.
مثل في العراق، تراقب القيادة الوسطى الأميركية، إيران. الذي يقلق هذه القيادة اليوم مازال في مصاف الأسرار العسكرية، لكن القيادة عمدت الى استعراضات قوة هادفة لثني الإيرانيين عن المضي بما يسعون إليه. اما في حال واصل الإيرانيون ما يسعون إليه، فالأرجح أن القيادة العسكرية ستعرض القضية على بايدن وتقنعه بضرورة التحرك، وسينتقل فريق الرئيس من الديبلوماسية الباردة التي يقوم بها الى ديبلوماسية ساخنة لتوفير غطاء سياسي لأي انخراط عسكري ضد الإيرانيين.
الخلاصة، يقول العارفون في العاصمة الأميركية، إن هناك خطوطا حمراء غير معلنة في إيران تفرضها المؤسسة العسكرية الأميركية، بالتعاون مع نظيراتها في الدول الحليفة، حول العالم، وتقوم بارسال رسائل تحذيرية حتى لا يتجاوز الإيرانيون هذه الخطوط.
هذا يعني أن حصول طهران على سلاح نووي «خط أحمر»، أو هذا على الأقل ما أعلنه الأسبوع الماضي رئيس الأركان الاسرائيلي أفيف كوخافي في أحد مراكز الأبحاث الاسرائيلية. وقال إن لدى اسرائيل خططا جاهزة، وهي تعمل على تحديثها باستمرار لتقديم خطط اضافية وجديدة لتوجيه ضربة لطهران لمنعها من حيازة سلاح نووي، في حال قررت المضي في ذلك.
ومن يعرف واشنطن، يعرف أنها لن تسمح لإسرائيل بتوجيه ضربة لإيران، بسبب حساسية الموضوع دولياً. واشنطن نفسها هي التي ستوجه ضربة في حال تبين أن طهران ماضية في صناعة سلاح نووي، وهي ضربة لن تكون على الأرجح بهدف إسقاط النظام، بل القضاء على امكاناته النووية، حتى من دون التعرض لإمكاناته العسكرية أو الالتحام معه عسكرياً، وهذه هي القدرة التي تملكها قاذفات «بي 52» دون غيرها من أي من المقاتلات الأميركية أو الإسرائيلية: ضرب أهداف داخل إيران من دون تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية، غير القادرة على اعتراض القاذفات.
قد تكون هذه الحسابات هي التي أشعرت أوباما بأن ما يمنع إيران من حيازة سلاح نووي، هي القوة العسكرية، في الخفاء، وأن أي اتفاقية في العلن لا بأس بها، وهو الموقف الذي يبدو أن ادارة بايدن تبني عليه: عودة للاتفاقية النووية، لكن المواجهة في كل المواضيع الأخرى - بما فيها تحرك سري نووي إيران ورد عسكري معاكس - تبقى قائمة.