الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

لبنان بين الحكواتية والمؤرخين

حسين عبدالحسين

كان معلمنا الراحل المؤرخ كمال الصليبي يبتسم في كل مرة نسأله فيها رأيه حول أعمال فؤاد أفرام البستاني، كاتب تاريخ لبنان بصيغته الرسمية، وصاحب الأفكار المؤسسة للقومية اللبنانية، التي يتبناها اليمين اللبناني ذو الغالبية المسيحية.

كان الصليبي يكتفي بالقول إن البستاني لم يدرس التاريخ، بل درس وعلّم الأدب العربي، ومع ذلك، فإن البستاني اكتسب شهرته بسبب نظرياته عن التاريخ العربي واللبناني.

وبحسب رواية "اليمين المسيحي"، لبنان دولة فينيقية سحيقة، ورد اسمه وشخصيات منه في التوراة، وهو ما يجعله حضارة سابقة وأكثر عراقة من حضارة العرب المسلمين، التي اجتاحت لبنان في القرن الميلادي السابع، وفرضت تعريبه وأسلمته وفصله عن محيطه المتوسطي الأوروبي.

وبنى اليمين المسيحي نظرياته على نصوص، بعضها مثير للضحك، مثلما ورد في القرن السابع عشر في كتاب البطريرك الماروني أسطفان الدويهي، من أن شفيع الطائفة القديس مارون، الذي عاش في القرن الميلادي الرابع، كان ابن اخت مؤسس فرنسا وألمانيا الملك شارلمان، الذي مات في القرن التاسع.

واعتبر "اليمين المسيحي" أنه على الرغم من تسلط المسلمين على الأقليات في شرق المتوسط، فان غير المسلمين من المسيحيين والدروز ناضلوا لإقامة إمارة مستقلة عن السلطنة العثمانية في جبل لبنان، قادها المعنيون الدروز وتلاهم الشهابيون المسيحيون. واعتبر "اليمين المسيحي" أن تلك الإمارة شكلت نواة "متصرفية جبل لبنان"، أساس قيام لبنان بشكله الحالي، أي أن لبنان لم يكن صنيعة الاستعمار الأوروبي بل سبقه.

ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ربط "اليمين المسيحي" في لبنان نفسه بالغرب، أي أميركا وأوروبا، وراح أبطاله من أمثال بشير الجميل يشيدون باقتصاد السوق والحضارة الغربية، ويسخرون من "حضارة الجمال"، أي العربية، ويرتبطون بإسرائيل للتخلص من حكم الفلسطينيين للبنان.

وعلى نقيض "اليمين المسيحي" وصف "اليسار المسلم" الفينيقيين بالأسطورة، واعتبر أن الإماراتين المعنية والشهابية خيال، وأن حكامهما كانوا جباة ضرائب عملوا بإمرة السلطنة العثمانية، وأن دولة لبنان أسسها الفرنسيون كجزء من المشروع الاستعماري الأوروبي لتقسيم المنطقة وإضعافها وإخضاعها.

وعلى عكس "اليمين المسيحي" الرأسمالي، تبنى "اليسار المسلم" النظريات الاقتصادية الاشتراكية، خصوصا أسطورة "الاكتفاء الذاتي". واتهم أهل اليسار اليمين بالاحتكار، والإثراء غير المشروع، والفساد في الحكم، واستغلال موارد الدولة، وإفقار اللبنانيين.

ومن مدرسة "اليسار المسلم" في التاريخ والاقتصاد يبرز اليوم شارل حايك، الذي تحول إلى ظاهرة بين اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي، مستفيدا من الأمية الثقافية المدقعة التي غرق فيها غالبية اللبنانيين، فقدم لهم روايات عن التاريخ مغايرة لتاريخ البستاني الذي درسه اللبنانيون في مناهجهم المدرسية، وزيّن حايك رواياته بالكثير من التأريخ الاجتماعي غير السياسي، المبني غالبا على ما دونه معاصرو أحداث الماضي.

ولم يحد الحايك، المسيحي المولد، عن التقليد اليساري السائد، فهو لا يعادي الأوروبيين ويصادق العثمانيين فحسب، بل هو يكره اقتصاد السوق ويكيل المديح للاكتفاء الذاتي، الذي يشير الى ممارسته في بلدة بيصور ذات الغالبية الدرزية في جبل لبنان الجنوبي، حسبما ورد في مقابلة لحايك عبر "برنامج سردة"، الشهر الفائت.

في لبنان، تتناقض روايتا التاريخ والاقتصاد بين "اليمين المسيحي" و"اليسار المسلم" لأسباب سياسية آنية أكثر منها بناء على دراسات أكاديمية حصيفة. ويتبنى اللبنانيون روايات تاريخية منقوصة، أولا بسبب آرائهم المسبقة وانحيازهم الموروث مجتمعيا، الذي يدفعهم في اتجاه رواية دون أخرى، وثانيا بسبب الكاريزما التي يتمتع بها الحكواتيون من أمثال البستاني، الذي لم يدرس التاريخ ولا يعرف القوانين التي تحكم كتابته أو تقديم الفرضيات الممكنة لكيفية حدوثه.

ومثل البستاني، يتمتع حايك بكاريزما ودماثة أخلاقية حسب من يعرفونه. وكذلك على غرار البستاني، تعاني الرواية التي يقدمها حايك من ثغرات واضحة في المنهجية، وتاليا في جودة الرواية نفسها.

مثلا، حتى يُقنع اللبنانيين باقتصاد "الاكتفاء الذاتي" بدلا من اقتصاد الخدمات، الذي تتبناه الإمارات المزدهرة والذي صممه الراحل رفيق الحريري وقبله "اليمين المسيحي" في لبنان، يستخدم حايك التاريخ بقوله إن لبنان يعتاش تقليديا على الزراعة، قبل أن يدمّر بعض الطمّاعين الاقتصاد الطبيعي باقتصاد إنتاج الحرير أواخر القرن التاسع عشر، فانهارت البلاد مطلع القرن العشرين.

ومن نافل القول إن لا الفينيقيين ولا أي من الأجيال اللبنانية المتعاقبة امتهنت الزراعة خارج الحاجة المحلية الضيقة، فعلى عكس حضارتي وادي النيل والرافدين الزراعيتين، تكاد تنعدم المساحة الزراعية في لبنان الجبلي.

إلا أن جبال اللبنانيين قدمت لهم أشجارا سمح طولها بإقامة سفن كبيرة، على عكس أشجار وادي النيل القصيرة التي لم تسمح ببناء أكثر من زوارق نقل. ثم أن ثروة الأشجار في سلسلتي لبنان الجبليتين قدمت للبنانيين حطبا للتعدين، وهو ما سمح للفينيقيين ببناء أقدم الأساطيل والاستيطان في حوض المتوسط وبعض سواحل الأطلسي الشرقية، مثل مدينة لشبونة عاصمة البرتغال، التي أسسها الفينيقيون وأسموها أخبونة، أي مختبئة. لم تكن نجاحات الفينيقيين بسبب اكتفائهم الذاتي، بل بسبب تجارتهم الدولية.

وموقع لبنان على طرق التجارة الدولية هو الذي دفع إمارة المعنيين اللبنانية الى الصدارة، إذ في سعيها للالتفاف على الطريق إلى الهند، الذي كانت تمسك به السلطنة وتقدمه حصرا لبريطانيا، حاولت الإمارات التجارية الإيطالية التحالف مع اللبنانيين لاستخدام مرافئهم لفتح طريق منافس للعثمانيين والبريطانيين إلى الهند، وهو مشروع لم ينجح، وانما قدم للبنانيين فرصة ممارسة بعض الحكم الذاتي، وبناء عائلات إقطاعية لا وجود لها في الولايات العثمانية الاخرى، مثل عكا أو القدس أو دمشق.

الحضارة الفينيقية عاشت قرابة ألفية ونصف، أي أكثر من عمر الإسلام اليوم، ولم تكن قصة قرية عابرة أو حكاية محلية. ولم يكن الفينيقيون دولة لبنانية واحدة، بل دويلات متنافسة انبثقت منهم إمبراطورية عاصمتها قرطاج في تونس. ولم يكن أمراء جبل لبنان حكاما مستقلين بالكامل عن السلطنة، ولكنهم في نفس الوقت لم يكونوا رعايا عثمانيين عاديين. الرواية الأصح هي مزيج من روايتي البستاني وحايك.

وعدا عن أن سكان جبال لبنان وساحله اعتاشوا على التجارة منذ فجر التاريخ، ومن الخدمات (مثل في بنائهم قوة بحرية للعراقيين لإلحاق الهزيمة بالإيرانيين)، ومن الارتزاق لإمبراطورية أو غريمتها، لم يعد في العالم اليوم دولة اقتصادها يكتفي ذاتيا. حتى الصين، مصنع العالم، بحاجة لاستيراد ضخم لتغطية حاجتها لعدد كبير من المواد الأولية والصناعات الأجنبية.

ثم أن روايات حايك تعاني من انحياز واضح للعثمانيين، فهو يسعى لتقليص مسؤوليتهم عن حدوث مجاعة في لبنان في الحرب العالمية الأولى، ويحاول عوضا عن ذلك إلقاء اللائمة على "النخبة" اللبنانية والمحتكرين، وعلى الأوروبيين لمحاصرتهم ساحل شرق المتوسط. لكن العثمانيين أنهوا حكم لبنان الذاتي إبان الحرب، وهو ما يعني أن مكافحة المحتكرين كانت مسؤولية السلطنة. ومن يعرف الفساد المستشري في السلطنة يعلم أن المحتكرين اللبنانيين كانوا شركاء الحكام العثمانيين، من ولاة وعسكر وموظفين حكوميين.

والحرب العالمية الأولى كان أبرز أسبابها السباق التجاري بين طريقي التجارة إلى الهند، بين خط قطار برلين بغداد الألماني العثماني وقناة السويس البريطانية.

ويقول الصليبي إن بريطانيا رعت انفصال الكويت عن ولاية البصرة العثمانية لحرمان القطار مرفأه إلى الهند، وهذا كان أحد أسباب اندلاع الحرب، التي جرّ العثمانيون المشرقيون اليها، ومضوا يجندونهم للقتال في حرب ليست حربهم.

كما استولى العثمانيون على محاصيل القمح لإطعام جيوشهم الحافية بسبب فساد ضباطها. كل هذا، ويقول حايك إن المشكلة الأكبر خلف مجاعة لبنان كانت محلية، مثل أزمة لبنان اليوم، التي يراها حايك محلية، ولا يرى أن كل دولة وصلها نفوذ إيران الإسلامية وميليشياتها تعاني من الشقاء نفسه، فيما الدول المتحالفة مع الغرب تعيش في وضع أفضل ودون اكتفاء ذاتي.

وفي ربط الماضي بالحاضر، أي محتكري الحرب الأولى مع المصرفيين الفاسدين ومحتكري البضائع في لبنان اليوم مشكلة منهجية كذلك، إذ هي تعيد التاريخ إلى وظيفة كانت مطلوبة منه في زمن ما قبل الحداثة، وهي اعتبار أن دوره هو تقديم العِبَر للتعلم من الأخطاء، وهذه مشكلة لا مجال للتوسع في نقدها هنا.

على أن المشكلة الأكبر تكمن في أن عددا كبيرا من اللبنانيين يأخذون الروايات التاريخية الخاطئة ويتبنونها كحقائق تخدم ما تتمناه أنفسهم، فيما الروايات التي تراعي المنهجية التاريخية تبقى وحيدة مع غبارها على رفوف المكاتب، وتبقى دوائر التاريخ في الجامعات اللبنانية والعربية خاوية، فيما ثرثرة اللبنانيين والعرب عبر وسائل التواصل الاجتماعي حافلة.

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021

تدهور شعبية إيران بين العرب

حسين عبدالحسين

أثبتت نتائج الانتخابات العراقية ما كان يعرفه كثيرون عن تدهور شعبية نظام ايران الاسلامية بين صفوف العرب، خصوصا الشيعة منهم. في ”مجلس النواب“ العراقي كان للميليشيات الشيعية الموالية لمرشد جمهورية ايران علي خامنئي كتلة تتألف من 48 عضوا. في انتخابات العاشر من الجاري، تقلّص عدد أعضاء هذه الكتلة الى 15 فقط، ولحفظ ماء الوجه، أضافت هذه الكتلة الى صفوفها الفائزين من لائحة بابليون، وهم من الأقليات، ليصبح تعداد أعضائها 20 نائبا، من أصل 329 نائبا في البرلمان العراقي، وهو رقم ضئيل. 

وكما في العراق، كذلك في الأراضي الفلسطينية، أظهرت استطلاعات الرأي السابقة للانتخابات، التي تم الغاؤها، أن حركة حماس الفلسطينية المتحالفة مع نظام ايران تتمتع بشعبية لا تتعدى ثلث عدد الناخبين، وهي شعبية توازي ما تحوزه حركة فتح. في الماضي، كانت حماس تتمتع بغالبية النصف، كما في آخر انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في 2006. 

وشعبية حماس تراجعت على الرغم من أطنان المال القطري الذي تنفقه على شبكتها الريعية، وعلى الرغم من الفساد الذي ينخر قيادة فتح والذي أدى الى تدهور شعبيتها. مع ذلك، تتساوى شعبية فتح — ”الفاسدة“ والمرتبطة باتفاقيات سلام وأمن مع اسرائيل — مع شعبية حماس واسلامها السياسي الذي يفترض أنه يكافح ضد الفساد ويسعى لتدمير دولة اسرائيل. 

في لبنان، يصعب معرفة حجم الشعبية التي يتمتع بها ”حزب الله“، التابع لنظام ايران، بين شيعة لبنان. من المؤكد أن شعبية الحزب المذكور في الحضيض لدى غالبية مسيحيي لبنان ودروزه والسنة اللبنانيين. حتى الماضي القريب، كان ”حزب الله“ يتمتع بشعبية مطلقة بين الشيعة، ولكن في الآونة الأخيرة، بدا أن هذه الشعبية اهتزت وأدت الى ذعر لدى قيادة الحزب. 

ويمكن التكهن أن عملية اغتيال الشيعي المعارض للحزب لقمان سليم هي جزء من خوف ”حزب الله“ من ضعف شعبيته وصعود المعارضين. لقد كان مقتل سليم أول اغتيال يطال شيعي في لبنان منذ الثمانينات، وهو اغتيال يشي بأن من يقفون ورائه صاروا يخشون من أي علامات تململ داخل الطائفة الشيعية، لأن شخصيات مثل سليم كان يمكنها قيادة انشقاق عريض ضد ”حزب الله“ بسبب تراجع شعبية الأخير، على خلفية الأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي تسببت بها سيطرة الحزب الموالي لايران على قرار الجمهورية اللبنانية. 

أما أسباب تدهور شعبية ايران والميليشيات الموالية لها في العراق والأراضي الفلسطينية، والأرجح لبنان، فيعود الى سلسلة من التصرفات التي يمارسها النظام الايراني ومثله ميليشياته العربية، وفي طليعتها العجرفة، فهذه التنظيمات تتحدث دائما وكأنها تتمتع بوصاية الهية، وكان رأيها هو الصائب بشكل دائم، ولا يحتمل المسائلة ولا المشورة ولا التغيير، تحت طائلة تخوين أي من يعارضها، وهو تخوين يصل أحيانا الى حد العنف والاغتيال، خصوصا في العراق، حيث قامت الميليشيات الموالية لايران باغتيال عدد كبير من الناشطين والمثقفين ممن كانوا يتمتعون بشعبية كبيرة. 

بعد العجرفة يأتي النفاق الذي تعاني منه الميلشيات العربية الموالية لايران. مثلا، تواصل كل من حماس وحزب الله والميليشيات العراقية هجومها الاعلامي على الامارات العربية المتحدة والبحرين بسبب قيام أبوظبي والمنامة بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل والعمل على تطبيع العلاقات معها. 

في الوقت نفسه، يكيل حزب الله وحماس المديح على ملك الأردن عبدالله الثاني، الذي كان أول زعيم عربي يلتقيه رئيس حكومة اسرائيل نفتالي بينيت، لأن عاهل الأردن قرر تطبيع العلاقات مع الرئيس السوري بشار الأسد. ومثل مع الأردن، أغدقت حماس المديح على مصر، أول الدول العربية التي أقامت سلاما مع اسرائيل والتي استقبل رئيسها عبدالفتاح السيسي بينيت في قمة في شرم الشيخ. مصر هي شريان الحياة الوحيد لقطاع غزة، لذا، تتجاهل حماس علاقة مصر الممتازة باسرائيل، لكنها تهاجم الامارات بشكل متواصل وتتهمها بطعن الفلسطينيين في الظهر بتوقيعها سلاما مع اسرائيل. 

والنفاق نفسه في العراق حيث تمتعت الميلشيات العراقية الموالية لايران بدعم أميركي وغطاء جوي أثناء مشاركتها في حرب القضاء على داعش. في الوقت نفسه، تكرر هذه الميليشيات أكاذيب مفادها أن داعش صناعة أميركية وأن الميلشيات هي التي هزمته وحدها. 

الشيعة العرب ليسوا أغبياء، ويعرفون أن نظام ايران لا يهمه القدس ولا فلسطين ولا الأمتين العربية والإسلامية، بل أن جلّ ما يهم طغاة ايران هو بسط نفوذهم اقليميا لإرضاء غرورهم ولتشتيت انتباه الايرانيين عن فشل الملالي الذريع في الحكم وفي تأمين مستوى معيشة لائق للايرانيين من غير أقرباء أركان النظام والمحظيين. 

في مايو-أيار الماضي، أدلى وزير خارجية ايران أمير عبداللهيان، وكان ما يزال مساعدا لوزير الخارجية، بتصريحات الى صحيفة ”مهر“ الايرانية قال فيها أنه في صراع ايران ضد اسرائيل، ”كان يمكن أن يكون النظام الصهيوني داخل حدودنا، لكن حلفاءنا اليوم هم داخل حدود النظام الصهيوني، وهذا الترتيب هو من أجل سلامة البلاد (إيران) والمنطقة“. 

ولأن الصحيفة الايرانية تدرك حساسية هذه التصريحات عند العرب، قامت بنشرها في نسختها الفارسية وحذفتها من نسختها العربية. 

لكن العرب يسمعون ويقرأون الايرانيين، ويعرفون أن صراع ايران مع اسرائيل ليس لتحسين وضع العرب أو الفلسطينيين، بل صراع على الصدارة والنفوذ في الاقليم، يستخدم فيه النظام الايراني العرب وقودا في نار حربه مع الاسرائيليين. 

انهارت صورة نظام ايران كنظام ثوري حريص على حقوق المستضعفين، خصوصا المسلمين بمن فيهم العرب منهم، وبان النظام الاسلامي على حقيقته: متعجرف، منافق، يديره فاسدون لا يترددون عن قتل خصومهم، ولا يردعهم ضمير ولا دين.

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2021

ذكرى السادات.. لا ذكرى "حرب أكتوبر"

حسين عبدالحسين

مرّت الذكرى الأربعين على قيام الإسلام السياسي باغتيال رئيس مصر أنور السادات دون أن يتوقف المصريون عندها كثيرا.

إعلام مصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي احتفلوا بالذكرى الثامنة والأربعين لـ "نصر أكتوبر"، أي حرب 1973 التي شنتها مصر وسوريا ضد إسرائيل، لكن المصريين لم يتذكروا السادات خارج إطار الحرب المذكورة، وعندما فعلوا ذلك، استفاضوا في وصف الانتصار المزعوم، ولم يتذكروا السادات صاحب أول اتفاقية سلام عربية مع دولة إسرائيل.

على أن "نصر أكتوبر" لم يكن نصرا بأي معيار، بل كان هزيمة محققة لمصر وسوريا أمام إسرائيل. صحيح أن الأيام الأولى للحرب شهدت انتصارات مصرية باهرة، خصوصا اختراق خط بارليف الإسرائيلي المحصّن وعبور قناة السويس، إلا أن الحرب انتهت بتوقيع جيش السادات على اتفاقية وقف إطلاق نار في "الخيمة 101"، وهي خيمة نصبت حيث توقفت الدبابات الإسرائيلية عن التقدم داخل الأراضي المصرية، بعد استعادتها كل ما حرره المصريون وتوغلها باتجاه القاهرة.

أما الاسم "101" فكان نسبة إلى المسافة التي كانت تفصل الإسرائيليين عن القاهرة، ولو لم يتوقف الإسرائيليون، لكانت أبواب القاهرة مفتوحة أمام اجتياحهم.

أما الجبهة السورية، فهي أبلت بلاء أسوا من المصرية، اذ تعثر جيش الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بعد أيام قليلة على بدء الاجتياح العربي على جبهتين، ولم يلبث الإسرائيليون أن قلبوا تراجعهم تقدما، وصارت دمشق تحت رحمة مدفعيتهم.

واتصل الأسد بالسادات مرارا، وأصرّ على تقدم المصريين في سيناء جنوبا لتخفيف الضغط الإسرائيلي على الجبهة السورية شمالا.

واتصل السادات بقيادة أركان الجيش المصري، وطلب منهم التقدم حسب طلب الأسد، لكن الضباط ترددوا في ذلك، لأن الخطة الهجومية المصرية كانت مصممة على قبول تفوق إسرائيل في الجو، وتاليا، بقاء القوات البرية محمية بمظلة صواريخ سام الروسية المضادة للطائرات، التي أبطلت قوة سلاح الجو الإسرائيلي وحيدته من المعركة.

لكن السادات أصر، وأصدر لجيشه أوامر سياسية بالتقدم لتلبية طلب الأسد، فتقدم الجيش المصري خارج المظلة الصاروخية الدفاعية، فتلقف سلاح الجو الاسرائيلي الفرصة، وصب حمم نيرانه على المصريين على الأرض، فضعضع صفوفهم، وصار اختراقه لهم ممكنا.

وقاد الجنرال، رئيس الحكومة فيما بعد، أرييل شارون محاصرة الجيش المصري الثالث في سيناء. وقاد العبور الإسرائيلي المعاكس لقناة السويس، ومضى ودباباته نحو القاهرة لو لم يوافق السادات على وقف إطلاق نار غير مشروط.

حرب 1973 هذه، التي يسميها العرب "حرب أكتوبر"، ويطلق عليها الإسرائيليون اسم "ملحمة يوم كيبور (الكفارة أوالغفران)"، شهدت انتصارات عربية في ساعاتها وأيامها الأولى، لكن نتيجتها كانت هزيمة ساحقة ماحقة للعرب أمام إسرائيل.

على أنهم على عادتهم، مثل في حرب "حزب الله" اللبناني ضد إسرائيل في 2006، وحروب حماس المتكررة مع إسرائيل في قطاع غزة الفلسطيني، يطلق العرب على هزائمهم تسمية نصر أو انتصار، ويقومون باجتزاء سياق الحرب واختيار لحظات تفوقوا فيها على إسرائيل، مثل عبور مصر القناة أو ضرب "حزب الله" سفينة حربية إسرائيلية، ويصورونها إعجازا، مع أن الحروب العربية الإسرائيلية انتهت دائما بخسائر عربية تكون أضعافا مضاعفة لخسائر إسرائيل، دون أي تغيير ينجم عن الحرب.

على أن ما تفوق فيه السادات على سلفه جمال عبدالناصر، صاحب هزيمة 1967 أمام إسرائيل، وعلى ميليشيات "المقاومة" مثل "حزب الله" وحماس، فكان في إدراكه أن الحرب وسيلة وليست غاية، وأنه إن لم تدرك الحرب أهدافها، فلا بد من قبول السلام.

أدرك السادات أن نتيجة هزائم العرب العسكرية هي الاعتراف بإسرائيل وتوقيع سلام معها، لا المكابرة والعيش في شقاء اقتصادي واجتماعي وعلمي سببه حالة "اللا حرب واللا سلم" التي يعيشها أمثال عبدالناصر و"حزب الله" وحماس.

السادات أدرك أن الحرب وسيلة تنتهي صلاحيتها بغض النظر عن نتيجتها، وأن أسوأ ما قد يحصل لأي شعب أو دولة أو مجتمع أن يعيش في حالة حرب مفتوحة، وتأهب دائم، وعسكرة لا آخر لها.

في وقوفه وحيدا، وإصراره على السلام الذي رأى فيه مصلحة مصر والعرب، أظهر السادات فهما استراتيجيا قلّ نظيره، وأظهر الرئيس المصري الراحل أنه لا يحكم شعبويا لإرضاء أقرانه أو مناصريه، بل يحكم كقائد يقود الناس في اتجاه مصالحهم ومصالح الدولة، حتى عندما لا يرى الناس ذلك.

وتفوّق الرؤية الاستراتيجية للسادات أثمرت اقتصاديا قبل اغتياله، اذ ارتفعت نسبة نمو الناتج المحلي المصري في السنوات التي تلت توقيعه اتفاقية كامب دافيد للسلام مع إسرائيل في عام 1979. وفي السنوات الثلاثة التي فصلت بين توقيع الاتفاقية واغتيال السادات، سجّل الاقتصاد المصري نموا اقتصاديا بمعدل 9 بالمئة سنويا، وهو من الأعلى في التاريخ المصري الحديث. وكان ذلك بسبب موجة التفاؤل التي عمت مصر واسرائيل، واعتقاد المستثمرين حول العالم أن السلام سيفتح أبوابا اقتصادية كانت موصدة، وهو ما حصل فعليا.

لكن الإسلام السياسي، القوة المدمرة للشعوب وللدول ولنفسها، التي تعيش في أساطير قروسطوية تخالها برامج حكم يمكن تطبيقها اليوم، كان لها رأي آخر في السادات، فاغتالته، وهو ما هزّ ثقة العالم بمصر، فهرب المستثمرون مع اندلاع حرب بين الدولة المصرية والإرهاب الذي يمارسه الاسلام السياسي، وتدهورت نسب نمو الاقتصاد المصري.

بعد 40 عاما على اغتياله، لا تزال مآثر السادات بادية، فالاقتصاد المصري اليوم هو الأقوى بين دول الطوق، أي التي تحيط بإسرائيل وانخرطت في حروب معها، ولو لم يقم السادات بخطوته الاستثنائية للسلام، وهو السلام الذي يبني عليه السيسي نهضة اقتصادية مماثلة، لكانت مصر اليوم على شكل "حزب الله" وحماس و"انتصاراتهما" المتواصلة، وعيشهما وشعوبهما في فقر وشقاء.

من يعارض تحسين أوضاع الفلسطينيين؟

حسين عبدالحسين

في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، وفي صحيفة "فلسطين" التابعة لحماس في غزة، كتب كاتبان واحد إسرائيلي والآخر فلسطيني، مقالين يكادان يتطابقان في المضمون، ويرفض كل منهما السياسة الإسرائيلية الجديدة تجاه الفلسطينيين، القاضية بـ "تقليص الصراع"، ورفع مستوى معيشة الفلسطينيين، وتحسين اقتصادهم.

ويتمسك الكاتبان، الإسرائيلي حاغاي العاد والفلسطيني سمير حمتو، ببقاء الأمور على ما هي عليه، لأن ذلك يعني مواصلة الصراع حتى التغلب على إسرائيل.

ومن الأفكار المشتركة بين المقالتين تصور كل من الكاتبين أن موقفهما هو "الجهة الصحيحة" من التاريخ، وأن التاريخ يسير حتميا بالاتجاه الذي يتخيلونه، وأن من يعارض ما يتخيله الكاتبان اليوم سيجد نفسه مخطئا وظالما مستقبلا، يوم لا يصح إلا الصحيح.

وتكمن المفارقة في أن العاد ينتمي إلى أقصى اليسار الإسرائيلي، فيما ينتمي حمتو إلى أقصى اليمين الفلسطيني، ويتشارك الاثنان فكرة أن الحل هو إما دولة واحدة من النهر إلى البحر، أو لا حل. على أن هذا الموقف هو الوحيد المشترك بين الاثنين، فالعاد، الناشط في الدفاع عن حقوق مثليي الجنس، قد يجد نفسه هاربا من وجه العدالة لو تحوّلت دولة إسرائيل إلى فلسطين، وذلك بسبب ميوله ومواقفه في المواضيع الاجتماعية والجنسية.

لكن ما سبب رفض أقصى اليسار الإسرائيلي والعالمي، وأقصى اليمين الفلسطيني والعربي، لحل مرحلي مؤقت للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في غياب إمكانية التوصل إلى حل دائم؟

الأرجح أن معارضي "تقليص الصراع" يعتقدون أن أنصاف الحلول تضيّع حقوق الفلسطينيين، وتقلّص في الوقت نفسه الضغط الدولي على إسرائيل للانصياع بشكل كامل إلى الحل كما يتصوره الكاتبان، ويقضي بأن تفكك إسرائيل نفسها وتسلّم مفاتيح الدولة إلى الفلسطينيين، أي على طراز ما حصل في جنوب أفريقيا مع نهاية نظام الفصل العنصري، أو ما حصل، الشهر الماضي، في أفغانستان، حيث تسلم الحكام المحليون، وأن من المتطرفين، الحكم بعد انسحاب الجيش الأميركي من البلاد بعد عقدين من تواجده فيها.

لكن إسرائيل ليست جنوب أفريقيا ولا أفغانستان، بل أن إسرائيل دولة تعترف بها الأمم المتحدة والقانون الدولي وأكثر من 160 دولة في العالم، وهي دولة فيها اليهود غالبية تبلغ قرابة 80 بالمئة. أما الضفة الغربية والقدس الشرقية، فهي موقع جدال، ويصنفها القانون الدولي بمثابة أراض فلسطينية خاضعة لاحتلال عسكري إسرائيلي.

إسرائيل، بدورها، تقول إنها مستعدة للانسحاب من أراضي الفلسطينيين في الضفة (لا احتلال إسرائيلي في قطاع غزة على الرغم من البهلوانيات القانونية والاجتهادات). على أن المشكلة تكمن في أنه لا يمكن لإسرائيل تسليم الأراضي التي تنسحب منها إلى دولة فلسطينية لا تضمن العيش بسلام مع الإسرائيليين، فلا السلطة الفلسطينية قادرة على ضبط الأراضي الفلسطينية في حال انسحاب إسرائيل منها، فيما حماس قادرة على ذلك، ولكنها لا تريد العيش بسلام مع إسرائيل.

ويزيد من معضلة إمكانية انسحاب إسرائيل لقيام دولة فلسطينية مشكلة أن الإسرائيليين، مثل الفلسطينيين، ينقسمون في آرائهم حول كيفية التعامل مع هذه الأراضي، مع ميل يميني للاحتفاظ بها، بل ضمّها، ومنح الفلسطينيين حكما ذاتيا يكون في حالة اتحاد كونفيدرالي مع إسرائيل، في وقت يعتقد يسار الوسط الإسرائيلي أن قيام دولة بموجب تسوية الدولتين هو الحلّ الأمثل الذي يخلّص إسرائيل من معضلة حكمهم فلسطينيي الضفة عسكريا، كما هو الوضع حاليا. أما أقصى اليسار الإسرائيلي، فيتبنى حلولا متطرفة، مثل تسمية إسرائيل بـ "أبارثايد"، والمطالبة بدولة ثنائية القومية من النهر إلى البحر.

الانقسامات، على الجهتين الإسرائيلية والفلسطينية، تعرقل حلول السلام وتطيل أمد الوضع القائم، وهو وضع يفرض بؤسا على الفلسطينيين ويلطخ صورة إسرائيل دوليا. لذا، استنبط بعض الإسرائيليين حلولا وسط هي التي يتبناها رئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينيت اليوم، وهي التي يعارضها الفلسطينيون بشبه الإجماع، ويعارضها الإسرائيليون من أمثال العاد.

لكن إلى أن تتغير الأوضاع، ويتغير الرأي العام من الجهتين، لا يعقل أن يبقى الفلسطينيون عالقون في بؤسهم، على غرار فلسطينيي لبنان، الذين أبقتهم العنصرية اللبنانية في مخيمات الشقاء، دون أي حقوق مدنية، على مدى 70 عاما، وواجهت أي دعوات بمنح هؤلاء الفلسطينيين حقوقا للعمل اتهامات ضد الداعين بأنهم يرغبون في توطين الفلسطينيين حتى ينسوا وينسى العالم قضيتهم وقضية عودتهم.

لم يطلب أحد يوما أن يمنح لبنان اللاجئين الفلسطينيين الجنسية اللبنانية، فقط حقوقا مدنية تخولهم العمل والعيش بكرامة ومساواة مع اللبنانيين، دون حقوق ترشح وانتخاب، إلى أن يتم التوصل إلى تسوية لأوضاعهم، إن بعودتهم إلى دولة فلسطينية، أو بإعادة توطينهم في دول أخرى.

ولكن إبقاء فلسطينيي لبنان مثل الأسرى في مخيمات الشقاء، حتى لا ينسوا ولا ينسى العالم قضيتهم، فهو من باب التطرف الذي يتطابق مع ما يدعو إليه السيدان العاد وحمتو.

لا أحد في حكومة إسرائيل اليوم يطالب الفلسطينيين بنسيان مطالبهم أو توقيع أي وثائق للتنازل عن أي شيء. كل المطلوب أن يعيش الفلسطينيون بكرامة، حتى لو من دون حقوق سياسية داخل إسرائيل، ريثما يتغير الزمن وتلوح تسوية نهائية في الأفق ترضي الطرفين.

لكن حتى تلوح أي تسوية في الأفق، وحتى يتغير الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني، من غير الأخلاقي إبقاء الفلسطينيين في الوضع المزري الذي يعيشونه، إن في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية، ولا شك أن تحسين أوضاعهم اقتصاديا سيؤدي إلى تحسن معاشهم، على الأقل إلى أن يتغير الزمن ويقدم فرصة تسوية سلمية تامة وقيام دولة كما يشتهيها الفلسطينيون، لا تكون مصدر قلق للإسرائيليين ودولتهم.