الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

الإمارات والسعودية وإسرائيل للمستقبل.. وفلسطين للماضي

حسين عبدالحسين

في إكسبو دبي الدولي، قدمت الدول صورة عن نفسها: بعضها يسعى لمستقبل أفضل، وبعضها أسير ماضٍ لا ينقضي فيقضي على الحاضر وعلى المستقبل، وبعض ثالث لا ماض ولا مستقبل له، بل دعاية لحاكم مستبد وشعاراته وآرائه التافهة التي لا تولد إلا البؤس والشقاء.

في جناح الولايات المتحدة، تبدأ الجولة بشعار "من كثيرين واحد"، وإشارة إلى التعددية الأميركية، وعرض لمصحف الرئيس الراحل توماس جيفرسون، وإصرار على الديموقراطية والحرية الفردية التي سمحت للعبقرية الأميركية بأن تقدم للعالم أهم اختراعات القرنين - الأخير والحالي- من، غراهام بل، مخترع الهاتف إلى، ستيف جوبز، الذي أهدى البشرية عالم اللوحات الحاسوبية والهواتف الذكية. وفي نهاية الجناح الأميركي برنامج دراسة المريخ ومحاولة استيطانه، ثم يعلو صوت يذيع شعار استقلال البلاد، ولكنه معدلا هذه المرة من "الحياة والحرية والسعي للسعادة" الى "الحياة والحرية والسعي إلى المستقبل". 

ومثل الولايات المتحدة، تقدم دولة الإمارات المضيفة نبذة عن الإنجازات الباهرة لدولة يافعة تفوقت على معظم دول الإقليم بإقامتها اقتصادا مبنيا على المعرفة في أقل من خمسين سنة هي عمر الاتحاد الفدرالي الإماراتي. ومن نافل القول أن الإمارات المضيفة لم تكن بحاجة إلى جناح لاستعراض تفوقها، فالزائر حتى يصل معرض أكسبو لا بد له من المرور بمطار وشوارع ومترو أنفاق دبي، وكلها باهرة بتنظيمها وتألقها في اقتصاد رأسمالي رهيب لا يستكين الناس فيه. 

يجاور الإمارات جناح السعودية. هنا الفن المعماري بديع ويعتمد على مرايا في مدخل يقود الناس في جولة عالم افتراضي عن السعودية الجديدة الحديثة الساعية للانضمام إلى الاقتصادات المعرفية التي تعتمد السياحة والخدمات على أنواعها، التكنولوجية والتعليمية والطبية والهندسية والمصرفية. ويختلط العالم الافتراضي بتصاميم تعكس الفن العمراني عبر السعودية، من الحجاز وعسير غربا، إلى الإحساء شرقا، مرورا بنجد. 

وحتى لا يظن القارئ أننا نقدم دعاية مجانية للإمارات والسعودية بالإضاءة على تطورها السريع وانتقالها إلى اقتصاد المعرفة الذي تتسابق الحكومات الواعية لتبنيه، لا بد من القول أن جناحا الدولتين الخليجيتين يفتقران إلى أي إشارة إلى طبيعة الدولة والحكم أو الى الديموقراطية والحريات العامة. 

الحديث حول الديموقراطية في الخليج يحتاج إلى مساحة غيرة متوفرة في هذا المقال. لكن من نافل القول أنه بعد سلسلة التغييرات الجذرية التي طالت دول المنطقة، من حرب العراق التي أطاحت بحكم البعث إلى ثورات الربيع العربي التي انقلبت إلى خريف وحروب أهلية، صار من شبه المؤكد أن ثقافة البشر خارج كتلة الديموقراطيات الليبرالية الغربية غير قادرة على إنتاج ديموقراطيات، وهو ما يقلص خيارات الشعوب إلى دول غير ديموقراطية وناجحة، كالإمارات والسعودية، ودول غير ديموقراطية وفاشلة، بل غارقة في الفشل، مثل لبنان وإيران وسوريا والعراق واليمن والأراضي الفلسطينية.

ولأن الديموقراطية ليست في لائحة الخيارات في دنيا العرب وإيران، فلا فائدة من الإصرار على تقويض حكومات مستقرة ذات اقتصادات مزدهرة وأن غير ديموقراطية، مثل نظام شاه إيران، وانتظار ديموقراطية لا تأتي، فيملأ الفراغ إسلام سياسي ظلامي قاحل وفاشل.

وفي إكسبو دبي تعرض إسرائيل صورتها، ولا تتطرق إلى حكومتها الديموقراطية، بل تكتفي بالإشارة إلى التنوع الإثني والمذهبي لمواطنيها، ويعتمد جناحها على العالم الافتراضي ليقدم إنجازات الدولة العلمية، من تفوقها في تقنيات تحلية مياه البحر ومحاربة التصحّر إلى تصدرها الكوكب في قطاع إنتاج التطبيقات الإلكترونية على أنواعها. ويقدم جناح إسرائيل نفسه في أسلوب نادٍ ليلي لأن البلاد تتفاخر بحياة السهر الليلي التي تجتذب السكان والسيّاح على حد سواء.

وعلى غرار الولايات المتحدة، التي ترفع شعار "السعي الى المستقبل"، ترفع إسرائيل شعار "غدا أفضل".

أما جناح فلسطين، فلا مستقبل ولا غد، بل إصرار على الماضي ورسومات للقدس ولمسجد قبة الصخرة وبيّارات الليمون والبرتقال ومبنى تفوح منه رائحة الزعتر المشوي الجملية. فلسطين هذه تغرق في سياسات الهوية والإصرار على وطن ضائع ووهم أن الأرض تصنع المستقبل، فيما الأرض هي وسيلة لا يمكنها أبدا أن تكون غاية.

ومثل فلسطين جناحا لبنان وسوريا، الدولتان الفاشلتان اللتان موّلت جناحيهما حكومة الامارات، ربما شفقة منها أو حسنة. لبنان يستعرض بعض صناعات النبيذ. عدا عن ذلك، لا وجه ولا هوية، إذ كيف يمكن لدولة تجتاح شوارعها صور الأموات أن تنظر إلى المستقبل.

بدورها تعوّل سوريا على الفيديوات الدعائية المستوحاة في الغالب من شعارات رئيسها بشار الأسد. والأسد هذا، دمّر بمفرده سوريا على رؤوس من فيها، ثم راح يعدهم "سوا منعمرها"، وليته يعدهم بـ "سوا نحكمها". عل أن السوريين وباقي العالم يعلمون أن الرجل غير سوي، وأنه يتساوى في جنونه مع كبار طغاة العالم، من نيرون روما إلى صدام حسين العراقي.

ختاما الديكتاتوريات التي لا تقدم حريات ولا تستعيض عنها بازدهار ونجاحات، بل تضيف إلى مأساة طغيانها بشاعة فسادها، وتضخم حسابات قادتها المالية السرية، واغتيالها المعارضين. يتصدر هذا النموذج رئيس روسيا فلاديمير بوتين، الذي يحاول الاستعاضة عن ديكتاتوريته وحكمه الفاشل بتصوير نفسه ندا للغرب، ومحاولة تشتيت انتباه الروس عن بؤسهم بتزيينه لهم أنه يكفي الأمة الروسية فخرا أنها تصارع القوى العظمى، ما يجعلها عظيمة ويجعل الروس عظماء— عظماء وإنما فقراء.

هكذا، يقدم الجناح الروسي عرضا عن قوة العقل البشري، ويسعى لاستعراض قوة روسيا في العلوم، ويختتم بالقول أن وحده تعاون الدول يسمح باطلاق قوة هذا العقل. والتعاون الذي يقصده بوتين هنا هو بمثابة ندية تجبر الغرب الديموقراطي على السكوت عن فشل بوتين، في الحقوق والحريات كما في اقامة اقتصاد معرفي منفتح.

صور كثيرة تقدم دول المعمورة عن أنفسها في إكسبو دبي. أما المشاركون، فيحسدون من يسكن الخليج وإسرائيل وأميركا، ويمرّون مرور الكرام على دول لا ديموقراطية فيها ولا أزدهار، ولن يتذكرها التاريخ إلا في الهوامش والحواشي.

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

لغة عربية واحدة ذات فائدة بائدة

حسين عبدالحسين

احتفل العالم الأسبوع الماضي بيوم اللغة العربية، وتفنن عرب كثيرون في استعراض ما اعتبروه جمال هذه اللغة، وأشاروا الى أقصر الكلمات مثل قِ (بالكسرة)، وهي صيغة الأمر لفعل الوقاية، وعِ كصيغة أمر لفعل الوعي، ورِ كفعل أمر من الماضي رأى. وأشار البعض إلى خطبتي الإمام علي بن أبي طالب، واحدة بدون حرف الألف وثانية من دون أحرف منقطة، فيما وزّع البعض الآخر لقطات للأكاديمي الفلسطيني الراحل اداور سعيد وهو يشيد بجمال اللغة العربية ويقول إنها لغة الأديان السماوية، كالقرآن، ولغة مخطوطات كثيرة مثل مجلّد الرحّالة ابن بطوطة.

الألاعيب الكلامية كأفعال الحرف الواحد والخطب بدون ألف أو تنقيط مسلية. أما ابن بطوطة، فهو مات في العام 1377 ميلادية، وجغرافيته وباقي علوم العرب من الزمان الغابر أكل عليها الزمن وشرب ولم تعد صالحة الا كمصادر أولية للمؤرخين.

ومنذ ذلك الزمان، لم تشارك العربية في الاختراعات الحديثة، ولا توجد دوريات عربية علمية رصينة يتم الاستشهاد بها في المحافل الأكاديمية الدولية. ثم أن اللغة العربية محنطة بالكاد تتطور. في الماضي كان للعرب مجمعان لغويان يعملان على تعريب الكلمات المستحدثة مثل مقاتلة للطائرات الحربية ومروحية للهليكوبتر وهاتف للتلفون. لكن المجمعين صارا كمعظم أمة العرب، شعوب رثة صدئة منهمكة في ثارات الماضي الذي يشغلها عن اللحاق بالعصر الحديث.

وأسوأ ما في اللغة العربية أنها ليست لغة الأم لأحد. اللهجات العربية المحكية هي اللغة الأم التي يتحدثها أصحابها بسلاسة وبحد أدنى من الأخطاء. أما الفصحى، فبالكاد تستخدمها نسبة ضئيلة من المتحدثين بالعربية بطلاقة وبدون أخطاء في الصرف والنحو. حتى من قلّت أخطاؤهم بالفصحى يندر أن يتمتعوا بالبلاغة المطلوبة للخطابة أو للكتابة بسلاسة.

والعربية الفصحى غالبا ما تتأثر باللهجات المحكية، فمن يقرأ صحيفة مغربية أو تونسية سيرى أن مفرداتها وأسلوبها يختلفان عن العربية المصرية أو المشرقية أو العراقية.

ولأن المدارس من المحيط الى الخليج تفرض تعليم العربية الفصحى، يمكن لغالبية العرب فهمها، ولكن هذا لا يجعلها لغة الأم لأي منهم. أما من ترعرع في بلاد غير عربية وورث لهجة عربية محكية عن أهله، فيكاد يستحيل عليه فهم الفصحى، كما يصعب عليه فهم اللهجات العربية الأخرى غير التي ورثها. ومن ترعرعوا في لبنان، مثلا، يجدون صعوبة كبيرة في فهم المغربية أو العراقية.

إن فرض الفصحى في المدارس هو من باب العقائدية السياسية لشعب يسمي نفسه عربيا ولا يجد غير الإسلام كقاسم مشترك، وحتى الإسلام هذا يختلف في أشكاله بين تركيا الصوفية ومصر الأزهرية وغيرهما من الدول الأعضاء في جامعة الدول الاسلامية.

اللغة هي وسيلة في خدمة الناس وتقدم معارفهم. أما عندما ينتفي دور اللغة كوسيلة، وتتحول الى هوية مقدسة مفروض التمسك بها لأنها "لغة أهل الجنة"، أو لأنها لغة مضبوطة وفائقة الدقة، فتصبح لغة بائدة قليلة الفائدة.

ومقولة أن العربية هي "لغة أهل الجنة" أسطورة، إذ أن علم اللسانيات قادر على تحديد عمر اللغة العربية القديمة، ويعتبر أنها تعود الى العام 1500 قبل الميلاد، وأنها انفصلت عن الآرامية. أما لغة القرآن، فحديثة نسبيا، وتعود الى القرن الثالث أو الرابع الميلادي، فيما العربية الفصحى الحالية بدأت مع زمن العباسيين في القرن التاسع الميلادي. هذا يعني أنه يستحيل أن تكون اللغة العربية "لغة آدم"، إلا إذ اعتبرنا أن آدم ظهر بعد 3900 عاما على ظهور أقدم حضارة معروفة، في مدينة عروق ما بين الرافدين.

كما أن التظاهر أن العربية متفوقة بدقتها هو أمر يجافي الحقيقية، فاللغة تفتقر إلى تعابير كثيرة مثل كلمة ليبرتي الإنكليزية، التي نقوم بترجمتها بكتابة "حرية فردية". كما لا تميز العربية بين كلمتي بوليسي وبوليتيكس الإنكليزيتين وتستخدم كلمة سياسة للاثنين. وهكذا، في العلوم السياسية كما في علوم بشرية متعددة، لم تشارك العربية في صناعة هذه العلوم أو تطويرها، فتراجعت.

يوم كان متحدثو اللغة العربية في ذروتهم الفكرية، قدموا للبشرية كلمات عربية ما تزال حيّة في معظم اللغات، مثل كلمة قمرة التي اخترعها العرب للتصوير، وهي عادت إلى العربية معرّبة على شكل كاميرا. ومثل ذلك كلمات متعددة نقلها العالم عن علوم العرب. اليوم، لم تعد العربية جزء من العلوم البشرية.

وإذا كانت العربية الفصحى ليست لغة العصر مثلما كانت يوما، ولا هي اللغة الأم لأي بشري، فما فائدة التمسك بها؟ وما قيمة الجمال الذي نتحدث عنه، والذي لا يداعب إلا مخيلة الضليعين في الصرف والنحو والبلاغة. أما عامة الناس، فبالكاد تفهم الفصحى، ناهيك عن الاعجاب بجمالها.

كل البشر يعشقون لغتهم التي فطرتهم عليها أمهاتهم ومجتمعاتهم، ويشعرون بالقدرة على التلاعب بألفاظها والتعبير عن أنفسهم باستخدامها، وفي حالة العرب، فان أفضل تعبير هو باللهجات المحكية، على غرار الشعر العامي للمصري أحمد فؤاد نجم وللبنانيين عمر الزعني وزغلول الدامور، وغيرهم من الشعراء الموصوفين بالشعبيين. أما الفصحى، فذوق مكتسب يعشقه عدد قليل من المتعلمين، ويتظاهرون وكأنه موسيقى تطرب كل العرب، وهذا غير صحيح.

اللغة وسيلة تواصل وتخزين معارف وتناقلها، واللغات الأكثر شيوعا هي الأكثر تداولا بسبب تصدر من يتحدثونها في المعارف والتجارة والاقتصاد وغيرها. أما من قلّت معارفهم، تقلّصت لغتهم، وتحجّرت، وفي حال العرب، تحوّلت الى لغة أرشيفية لماض مجيد ولى وعبر.

الخميس، 16 ديسمبر 2021

العرب والسيادة و"أم الصبي“

حسين عبدالحسين

"أم الصبي"، هي عبارة يرددها اللبنانيون في نقاشاتهم السياسية، غالبا للإشارة إلى حرص شخص أو مجموعة على سياسة ما أو موقف ما. مصدر العبارة هو رواية توراتية عن امرأتين، واحدة عاقر قامت بسرقة ابن امرأة غيرها. نشب خلاف بينهما فاحتكمتا إلى سليمان الحكيم بن داود، ملك إسرائيل وأحد الأنبياء عند المسلمين، فأمر سليمان بقطع الصبي نصفين وإعطاء كل امرأة نصف. رضيت إحداهما بينما سارعت الأخرى إلى التنازل عن طلبها تفاديا لقطع الولد. إذ ذاك عرف سليمان أن التي تنازلت هي أم الصبي الفعلية لأنها لم تحتمل قطعه، وآثرت التخلي عن حقها على رؤيته نصفين. هذه هي قصة "أم الصبي"، التي تتنازل عن حقها للحفاظ على ما هو ثمين على قلبها.

وفي ثقافة المشرق العربي حكم كثيرة عن ضرورة التخلي عن الحق، أو عن نصفه على الأقل، للحفاظ عليه. من هذه الحكم "اعط خبزك للخباز ولو أكل نصفه"، وهي حكمة مفادها أنه لو أراد صاحب العجين خبزه، لأحرق يديه ومعهما العجين، وهو ما يعني أن التنازل عن نصف العجين وتحويل نصفه الآخر إلى خبز هو الخيار الأفضل.

والثقافة العربية عموما تزخر بأمثلة وحكم حول ضرورة اللين والمساومة والتنازل والعملانية، وفي التراث الإسلامي أن إمام الشيعة الأول (الخليفة الرابع عند السنة) علي بن أبي طالب قال: "إن لم يكن ما تريد فرد ما يكون". 

كل هذه الحكم حول ضرورة التحلي بالواقعية فاتت غالبية بعض الشعوب العربية، خصوصا في موضوع طرد الاستعمار الأوروبي، ومناصبته العداء، والإصرار أن السيادة الوطنية هي هدف يستحق تضحية الغالي والنفيس في سبيله. ومرض الهوس بالسيادة لايزال يطارد هؤلاء العرب، ومعهم الفرس، حتى اليوم، إذ هم يتخيلون مؤامرات استعماراتية في كل خطوة فاشلة يخطونها. 

لكن الواقع هو أن أحوال هؤلاء العرب كانت أفضل بما لا يقاس في زمن الحكم الاستعماري الأوروبي. حتى لو اعتبرنا أن الأوروبيين حكموا العراق والمشرق طمعا في ثرواته الطبيعية وأسواقه، وحتى لو اعتبرنا أن الأوروبيين قاموا بسرقة هذه الثروات، فإن أرقام النمو البشري والاجتماعي والاقتصادي كانت أفضل يومها منها بعد الاستقلال وتحت الحكم الوطني. 

يعني حتى لو اعتبرنا أن الاستعمار الغاشم هو الخبّاز، وأن بلاد العرب هي الخبز، فلا ضير من إعطاء هذه البلاد للاستعمار لإدارتها حتى لو أكل نصفها، لأن الحكم الوطني نتائجه كمن وضع يديه في التنّور، فاحترقتا واحترق معهما الخبز والتنّور والقرية بأكملها. 

الأسبوع الماضي، أعادت الولايات المتحدة إلى العراق النقش الطيني التاريخي المعروف باسم "حلم جلجامش"، والذي يعود تاريخه إلى العام 1500 قبل الميلاد. وكانت السلطات الأميركية صادرت اللوح الذي كان معروضا في متحف أميركي اشتراه بأكثر من مليون ونصف دولا من مهربي السوق السوداء. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن اللوح لم يصل الولايات المتحدة بعد غزوها العراق، بل هو اختفى من بغداد عام 1991، الأرجح كإحدى غنائم "السيد عدي" صدام حسين الكثيرة.

أدت إعادة أميركا للوح الطيني التاريخ إلى إشادة عراقية وعالمية، خصوصا من معادي الإمبريالية في الولايات المتحدة وحول العالم. على أن ما فات هؤلاء، هو أن عودة "حلم جلجامش" إلى السيادة العراقية محفوف بمخاطر جمّة في دولة فاشلة على طراز حكومة العراق، خصوصا أن العالم لم ينس بعد قيام تنظيم داعش القروسطوي بتدمير عشرات التماثيل والنقوش الأشورية والأكادية والسومرية بحجة أن الإسلام يأمر بتدمير الأصنام. ومثل ذلك قضى داعش على آثار تدمر السورية الجميلة التي يعود عمرها إلى ألفيتين، وتحمل في طيّاتها بيانات كثيرة ساعدت في تدوين التاريخ وشرحه. 

في الأسابيع التي كان إرهابيو داعش يضربون الآثار العراقية بمطارقهم في متاحف الموصل، زرت المتحف البريطاني في لندن والذي يحتوي مئات الآثار العراقية التي سرقها الانتداب البريطاني من الأراضي العراقية. 
تنفست الصعداء وأنا أطالع جناح "ما بين النهرين"، وأنا أقول في نفسي أننا محظوظون أن الانتداب البريطاني سرق هذه الآثار العراقية ويعرضها في مأمن عن السرقة والتدمير، فهذه الآثار هي تراث بشري مصدره "مهد الحضارات"، والحفاظ عليها أهمّ بكثير من السيادة عليها. هكذا تفكّر "أم الصبي"، التي يهمّها الحفاظ على التراث، بغض النظر عن سيادة من التي تحافظ عليه.

وهكذا على بعض العرب أن يتأملوا تفاهة إصرارهم على السيادة التي لم تعد عليهم إلا بالدمار والمآسي. لو أظهر هؤلاء العرب — في أي من تاريخهم أو حاضرهم اليوم — أنهم قادرون على تنظيم أنفسهم في حكومات مستقرة وناجحة ذات سيادة، كانت استعادتها الآثار من الاستعمار التركي والفرنسي والبريطاني والألماني واجبة. 

لكن بالنظر إلى الحكومات الفاشلة في بيروت ودمشق وبغداد وطهران ورام الله وغزة، لا يمكن المطالبة بتسليم هذه الزمر أراض ليحكموها، ولا حتى تراثهم التاريخي لأنهم لم يحافظوا عليه في الماضي، والغالب أنه سيضيع من بين أيديهم مجددا في المستقبل. 

والحال هذه، نعرّج على قضية فلسطين. حتى لو اعتبرنا أن الرواية الفلسطينية والأحقية في الأرض والمظلومية صحيحة بالكامل، لا يكفي ذلك حتى يتسلم الفلسطينيون أي شكل من السيادة ما لم يقدموا نماذج حكم يمكن الركون إليها غير النماذج المقرفة الحالية، إذ بدون حكومات مقبولة، لما الإصرار على استعادة أي أراض من إسرائيل؟ حتى تتحول إلى بؤر من القمامة على غرار وادي الحجير اللبناني، الذي يفاخر اللبنانيون أنهم استعادوه من الإسرائيليين، ليتحول اليوم إلى مكب ضخم للنفايات.

"أم الصبي" هي التي تحرص على النتيجة بغض النظر عن الوسيلة. لو يفهم بعض العرب ذلك، لتنازلوا عن سيادتهم واستجدوا الاستعمار ليعود لحكمهم، حتى لو أكل نصف خيراتهم.

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

لا تغيير في لبنان بلا تغييريين

حسين عبدالحسين

برامج وتصريحات وأقوال المطالبين بالتغيير في لبنان متشابهة، ومبنية على اعتبار أن التغيير حتمي لأسباب متعددة. 
أول تلك الأسباب، الفقر والبؤس الذي يصيب غالبية اللبنانيين ويدفعهم الى الاقتراع لوجوه جديدة في الانتخابات المقررة في 27 آذار مارس، وثانيها أن لدولة لبنان دستور وقوانين ومؤسسات يمكن التغيير من داخلها عبر الفوز بغالبية مقاعد البرلمان، وثالثها أن الجزء الأكبر من المأساة اللبنانية أسبابها خارجية ما يجعل حلولها خارج إرادة اللبنانيين (وهو ما يناقض جدوى الدعوة للاقتراع والتغيير).

على أن آراء التغييريين في لبنان خاطئة بمعظمها، غالبا بسبب فهم قاصر لطبيعة التنظيم الاجتماعي اللبناني وجمهوريته، فالشعب اللبناني لا يتألف من مواطنين مستقلين في آرائهم، بل من قبائل يرتبط أفرادها ببعضهم البعض عبر شبكات ريعية يديرها زعماء، بعضهم كبار، وبعضهم الآخر صغار، وفئة ثالثة بينهما.

والشبكة الريعية مبنية على تكافل وتضامن وولاء، ضمن تنظيم هرمي عمودي. يجلس على رأس الهرم أكثر أفراده قوة وتمويلا، ويحرص على تدبير أمر الرعية، سواء بدعمهم ماليا لتيسير أحوالهم ومعاشهم، أو بحمايتهم ضد استقواء أبناء العشائر الأخرى عليهم، أو عبر تأمين حصص لهم في الدولة على شكل وظائف وعقود. 

ولأموال الزعماء مصدران، إما السطو على موارد الدولة وأموالها، وأبرع من لجأ لهذا النموذج رئيس "مجلس النواب" الشيعي نبيه بري، أو بالولاء لقوى خارجية، غالبا إقليمية، واستلام أموال ضخمة لتمويل الشبكة الريعية، على غرار نموذجي "حزب الله" بزعامة الشيعي، حسن نصرالله، وراعيته إيران، و"القوات اللبنانية" برئاسة المسيحي، سمير جعجع، وراعيته السعودية. هكذا يتخذ الزعيم وشبكته مواقف موالية للمانح الإقليمي.

وفي لبنان نماذج هجينة ممن يسطون على بعض موارد الدولة ويتسلمون في الوقت ذاته بعض عطاءات المانحين الإقليميين، مثل الرئيس المسيحي، ميشال عون، وزعيم الدروز، وليد جنبلاط. 

الزعماء الخمسة المذكورون أعلاه شكلوا أركانا أولى لقاءات "الحوار الوطني" في 2006، يضاف إليهم زعامة آل الحريري السنية، التي تتلاشى اليوم وتترك الشبكة السنية بلا زعيم.

عملية السطو على موارد الدولة، إن كانت للإثراء الفردي أم لتمويل الشبكات الريعية العشائرية الطائفية، مقترنة بحروب "حزب الله" الدائمة والتي حوّلت لبنان إلى جبهة أبعدت عنها كل المستثمرين الخارجيين وقضت على قطاعات الخدمات كالسياحة والاستشفاء والتعليم، أفلست دولة لبنان، فتلاشت.

حتى مجلس الزعماء العشائري، أي "طاولة الحوار الوطني"، تبعثرت بعدما أثبت نصرالله أن كلمته هي العليا في البلاد، وأن لا قيمة لأي مقررات قد تخرج عن طاولة الزعماء العشائريين ولا تنال رضا النظام الإيراني أو موافقة نصرالله.

ما لا يدركه التغييريون اللبنانيون أنه عندما تنهار الدولة ويستشري الفقر والجوع، لا ينقلب الأزلام على زعمائهم، بل يتمسكون بهم أكثر فأكثر كحبل خلاص وحيد وأخير، أي أن اللبنانيين ممن يحلمون بالتغيير لن يغامروا بالاستغناء عن شبكاتهم الطائفية وزعمائها في سبيل دولة موعودة لم تتحقق يوما، ولا دلائل أنها ستتحقق عن قريب. 

حتى التغييريين، وبعضهم من المنبوذين من عائلاتهم الحاكمة وبعضهم من عائلات كانت حاكمة في الماضي وتسعى للعودة، يقدم عدد منهم وعودهم الإنقاذية مقترنة بتقديمات ريعية قبلية مشابهة للقائمة.

والتاريخ اللبناني يعجّ بأثرياء بنوا زعامتهم بتمويل شبكات ريعية من مالهم الخاص، كان أشهرهم رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، ونائبه، عصام فارس، والطامح لمنافسة الحريري، فؤاد مخزومي.

حتى أثرياء قطاعات الزراعات الممنوعة، من أمثال النائب السابق، يحيى شمص، اشتروا مقاعدهم النيابية من حاكم لبنان السوري الراحل، غازي كنعان، الذي ما لبث أن غضب عليهم لتأخرهم في سداد ثمن زعامتهم فرماهم في السجن.

على أننا حتى لو اعتبرنا أن الوعي انتشر في صفوف اللبنانيين فجأة وتحولوا إلى مواطنين يختارون ممثليهم بحسب الرؤية والكفاءة لا وفق قواعد المبايعة القبلية، لن تتمكن غالبية تغييرية في "مجلس النواب" اللبناني من فرض تغيير يذكر على ثقافة تسود فيها القبلية وتغيب عنها المدنية. 

ويكفي لأي متابع أن يستمع لتصريحات غالبية اللبنانيين، من المسؤولين الحاكمين والتغييريين الطامحين والمواطنين عموما، حتى يدرك أن المخيلة اللبنانية لا تتسع لمعنى دولة أو دستور أو مؤسسات، وهو ما يحصر فهم غالبية اللبنانيين لوطنهم بصور سطحية، مثل لبنان الأرزة والحياة الليلية والمآكل الشهية والدبكة.

عند الأميركي، مثلا، الوطن هو الدستور الذي يحمله في جيبه، وينصّ على حماية الحرية الفردية (liberty). أما عند اللبناني، فلبنان هو أفكار بدائية كالتزلج في الجبل والسباحة في البحر في نفس اليوم.

والضحالة بادية في تكرار البعض أن مشكلة لبنان هي "الاحتلال الايراني"، وهذا غير صحيح، لأن لا إيرانيين في لبنان، بل مرتزقة لنظام إيران يوالونه عشائريا، كعادة اللبنانيين منذ زمن الفينيقيين. 

وفي أوقات أخرى يغوص اللبنانيون في تحليلات دولية وإقليمية حول ما يريده "الأميركي" و"الإيراني" و"الإسرائيلي" (دائما بصيغة المفرد)، ويخلصون إلى أن مصير لبنان يرتبط بالمفاوضات النووية مع إيران، على الرغم من أن أميركا أقرّت قانون العقوبات على "حزب الله" بعد شهرين من توصلها للاتفاقية النووية مع إيران في 2015، والتزم الإيرانيون الصمت ولم يعتبروا أن العقوبات على أزلامهم اللبنانيين تعكّر صفو الاتفاق مع واشنطن. 

بكلام آخر، لبنان يحارب عن إيران في الحرب، ويتلقى الصفعات عنها في السلم، أي أنه في مأزق بغض النظر عن الوضع الدولي.

يحتاج اللبنانيون، الحاكمون والتغييريون وعامة الناس، إلى انتشار ثقافة المواطنية ومعنى الدولة وفلسفتها ودورها. حتى ذلك الحين، سيقتصر التغيير في لبنان على التبديل بين الحكام وبين رعاتهم الإقليميين (مع ملاحظة أن بعض الرعاة الإقليميين أكثر فائدة من الرعاة الثوريين التخريبيين)، فيما البلاد تواصل انهيارها الاقتصادي والاجتماعي، وتتلاشى.